أفكَار

العلمانية بين العالمية والخصوصية.. من سؤال النهضة إلى سؤال المفهوم (1)

عزمي بشارة نفسه يدرك أن "علمنة الدولة" في العالم العربي لن تكون ممكنة إلا عبر علمنة الوعي أولًا، وتحوّل الثقافة السياسية والاجتماعية من الرغبة في الهيمنة إلى قبول التعدد.
عزمي بشارة نفسه يدرك أن "علمنة الدولة" في العالم العربي لن تكون ممكنة إلا عبر علمنة الوعي أولًا، وتحوّل الثقافة السياسية والاجتماعية من الرغبة في الهيمنة إلى قبول التعدد.
"لقد آن الأوان لأن ننقل سؤال النهضة من موقعه الإنشائي الحالم إلى موقعه التحليلي المركّب، حيث تتكشّف الشروط وتتعرّى المفاهيم" ـ (الصادق جلال العظم، ذهنية التحريم)

من المغرب حيث نحت الجابري أسس نقد العقل العربي، مرورا بمشروع طه عبد الرحمن الذي عمّق بعده الأخلاقي، إلى مشرق العالم العربي حيث مشروع نايف بن نهار حول الخطاب والسلطة، تتواصل رحلة تشريحنا لأزمة النهضة العربية، لا باعتبارها تخلّفًا حضاريًا فحسب، بل بوصفها إشكالًا مفاهيميًا يتعلق بطريقة تفكيرنا في مفردات التقدّم. وفي هذا السياق، تبرز "العلمانية" كأحد المفاهيم الأكثر إثارة للسجال، والأشدّ حضورًا في قلب المعركة الفكرية التي لا تزال تشطر العقل العربي بين تراث يحضن المقدّس، وحداثة تشترط الفصل بين المقدّس والسياسي.

لكن، هل نحن إزاء "العلمانية" كما نشأت في أوروبا، أم أننا أمام مفهوم مستعار وُضع في غير بيئته؟ وهل يمكن نقل العلمانية كما هي، أم أن التحدّي يكمن في "توطينها" دون أن نخسر الذات؟

هنا تحديدًا تبدأ إشكاليتنا: العلمانية ليست مجرد موقف من الدين، بل هي رؤية للعالم، للعقل، وللإنسان. ولهذا، فإن أي مشروع نهضة عربي لا يمكن أن يتحايل على هذا المفهوم، بل عليه أن يتجاوزه نقدًا وتحليلاً: أي أن يفككه دون أن يلغيه، ويعيد فهمه ضمن شروطنا وسياقاتنا.

لقد حفرت موجة "إعادة قراءة التراث" التي بدأت منذ منتصف القرن العشرين مسارات فكرية عميقة، انطلقت من السؤال النقدي حول بنية الفكر العربي، لتصل اليوم إلى سؤال أشدّ تعقيدًا: كيف يمكن لمجتمعات عربية، مؤسسة في بنيتها الرمزية على الدين، أن تتبنى مشروعًا حداثيًا دون أن تنسخ النموذج الغربي؟ كيف يمكنها أن تفكّر في "العلمانية" دون أن تقع في ثنائية التبعية أو العداء؟

في هذا السياق، تبرز أعمال مفكرين كبار مثل عزمي بشارة، عبد الوهاب المسيري، رضوان السيد، الصادق جلال العظم، وغيرهم، بوصفها محاولات جادة للإجابة عن هذا السؤال المزدوج: كيف ننهض؟ وكيف نُعيد بناء العلاقة بين الدين والسلطة، بين الهوية والكونية؟

من هنا، سيكون هذا الفصل الجديد في السلسلة، مخصصًا لتحليل مفهوم العلمانية في الفكر العربي، ليس كمجرد تعريف أكاديمي، بل كساحة اشتباك بين رؤى، وكسؤال تأسيسي في مشروع نهضة لم يكتمل.

تحتل العلمانية اليوم موقعًا محوريًا في النقاشات الفكرية والسياسية في العالم العربي. فهي تمثل أحد الخيارات المركزية التي يتناولها المفكرون العرب في محاولاتهم لإعادة بناء العلاقة بين الدين والدولة، وبين الحداثة والهوية. مع ذلك، لا يمكن فهم معنى العلمانية في السياق العربي بنفس المفهوم الغربي المباشر، إذ تتداخل عوامل التاريخ، الثقافة، الدين، والسياسة، مما يجعل هذه الفكرة موضوعًا معقدًا يثير الجدل حول مدى إمكان تطبيقها وأشكالها المختلفة.

من هنا تنشأ إشكالية مركزية: كيف يمكن للعالم العربي أن ينهض حداثيًا وسياسيًا، في ظل خصوصياته الدينية والثقافية، دون أن يفقد هويته، وهل العلمانية خيار ملائم أم أنها شكل من أشكال العلمنة التي قد تمحو هذه الخصوصيات؟

العلمانية: تعريفات وأبعاد

العلمانية ليست مفهومًا موحدًا؛ بل هي طيف واسع يشمل:

ـ العلمنة الشاملة: فصل الدين تمامًا عن السياسة، وحصر الدين في المجال الخاص فقط.

ـ العلمانية التوافقية: التي تسمح للدين بمكانة اجتماعية ورمزية دون هيمنة سياسية.

ـ العلمانية الإسلامية: التي تسعى لموازنة بين قيم الدين ومبادئ الدولة المدنية.

ينبغي التفريق بين هذه الأنواع لفهم مواقف المفكرين المختلفين.

إشكالية العلمانية في السياق العربي

تواجه العلمانية في العالم العربي تحديات فريدة:

ـ دور الدين في الهوية: حيث غالبًا ما يتشابك الدين مع الهوية الوطنية والثقافية.

ـ الاستعمار والتجارب الحديثة: التي جعلت من العلمانية مفهومًا أحيانًا مرتبطًا بالاستعمار أو بالنخب المتعلمة.

ـ الأنظمة السياسية: التي قد توظف العلمانية أو تعاديها لأغراض السيطرة.

كل هذه العوامل تعقّد تطبيق العلمانية وتفتح المجال أمام قراءات متعددة.

وسنبدأ هذا المسار من خلال قراءة نقدية لمشروع عزمي بشارة، الذي ينظر إلى العلمانية بوصفها ضرورة ديمقراطية، لا مجرد خيار ثقافي، قبل أن ننتقل إلى المسيري ورؤيته المناوئة، فإلى رضوان السيد وقراءته التوفيقية.

عزمي بشارة والعلمانية.. من فصل الدين عن الدولة إلى الديمقراطية الحديثة

يُعتبر عزمي بشارة من أبرز المفكرين العرب الذين تناولوا موضوع العلمانية بطريقة صريحة وواضحة، بوصفها أداة ضرورية لتحقيق الديمقراطية والتقدم في المجتمعات العربية. منطلقه الأساسي هو فصل الدين عن الدولة، إذ يرى أن ارتباط السياسة بالدين يؤدي إلى تعطيل الحقوق والحريات ويحد من إمكان تطوير مؤسسات مدنية حقيقية.

بشارة يعرف العلمانية على أنها:

ـ فصل كامل بين الدين والدولة: بحيث تكون الدولة على مسافة متساوية من جميع الأديان والمعتقدات، ولا تستند إلى مرجعية دينية في تشريعها أو حكمها.

يتشكل موقف بشارة في سياق أزمة مجتمعات عربية تعاني من سلطة دينية متحكمة وأحزاب إسلامية ذات أدوار سياسية متزايدة، وهو ما يرى أنه يعوق بناء دولة مدنية حداثية.ويعتبر أن تطبيق العلمانية هو السبيل الوحيد لتجاوز الاستبداد الديني والسياسي، ولتحقيق حرية الأفراد ولتعددية سياسية حقيقية.
ـ ضمان للحقوق الفردية: حيث تؤمن العلمانية حرية الاعتقاد، التعبير، والمساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو الطائفية.

ـ إطار لبناء مجتمع مدني ديمقراطي: يتيح تداول السلطة عبر مؤسسات مستقلة ومنظمة، بعيدًا عن التبعية للهيئات الدينية أو الأحزاب القائمة على الانتماءات الدينية.

الخلفية الفكرية والسياسية

يتشكل موقف بشارة في سياق أزمة مجتمعات عربية تعاني من سلطة دينية متحكمة وأحزاب إسلامية ذات أدوار سياسية متزايدة، وهو ما يرى أنه يعوق بناء دولة مدنية حداثية.ويعتبر أن تطبيق العلمانية هو السبيل الوحيد لتجاوز الاستبداد الديني والسياسي، ولتحقيق حرية الأفراد ولتعددية سياسية حقيقية.

نقد بشارة للتيارات الدينية السياسية

يُوجه بشارة نقدًا لاذعًا للحركات الإسلامية السياسية التي تسعى لدمج الدين في السياسة، باعتبار هذا الدمج:

ـ يؤدي إلى هيمنة فئة معينة على المجتمع تحت ذريعة الدين.

ـ يكرس التمييز والاضطهاد ضد الأقليات والمخالفين.

ـ يعرقل تحديث الدولة ويحول دون تطوير القانون المدني القائم على المساواة والعدالة.

يرى بشارة أن هذه التيارات تستغل الدين لتحقيق مكاسب سياسية، مما يضر بالديمقراطية وبالحقوق المدنية.

موقفه من الثقافة والدين

رغم تأييده للعلمانية، لا ينفي بشارة أهمية الدين كثقافة ومرجعية روحية فردية، لكنه يؤكد أن:

ـ الدين يجب أن يبقى في المجال الخاص: لا يمكن السماح له بأن يتحكم في مؤسسات الدولة أو السياسة العامة.

ـ الاحترام للخصوصيات الدينية: لكن مع الحفاظ على الحقوق المدنية والسياسية لكل المواطنين.

إمكانات تطبيق العلمانية في العالم العربي

يرى بشارة أن هناك تحديات حقيقية تواجه تطبيق العلمانية في العالم العربي، منها:

ـ المقاومة من قبل المؤسسات الدينية.
ـ القصور في الثقافة السياسية المدنية.
ـ هيمنة العادات والتقاليد المحافظة.

ومع ذلك، فهو متفائل بإمكانية التغيير عبر:

ـ تعزيز التعليم المدني.

ـ بناء حوار بين التيارات المختلفة.

ـ دعم قوى المجتمع المدني.

يمكن تلخيص موقف عزمي بشارة في أن العلمانية هي:

ـ أداة ضرورية لإرساء دولة القانون والحقوق.
ـ شرط أساسي للديمقراطية والتقدم.
ـ ضرورة لفصل الدين عن السياسة، دون نفي للدين كثقافة وروحانية.

من شق النهضة إلى درب المفهوم

في محاولة استئناف مشروع النهضة العربية، لا يكفي أن نبحث عن خلاصات جاهزة أو أن نستورد نماذج معلبة من الحداثة، بل نحن مدعوون، أكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة طرح الأسئلة لا كمجرد تكرار قلق لتاريخ لم يتحقق، بل كمغامرة معرفية تتطلب منا تفكيك المفاهيم التي ظنناها بديهية. هكذا، لا تكون العلمانية مجرد موضوع خلاف، بل فضاءًا مفتوحًا للمساءلة: هل هي أداة تحرّر، أم قيد جديد بلغة أخرى؟ هل يمكن أن تكون جسرًا نحو دولة مدنية عادلة، أم أنها مجرد ظل غربي لا يستقيم في شمس المشرق؟

إن العلمانية، كما نفهمها هنا، ليست هدفًا في ذاتها، بل مرآة لسؤال أعمق: كيف نعيش معًا رغم اختلافنا؟ كيف نُعيد بناء المجال العام على أساس المواطنة لا الطائفة، وعلى قاعدة العقل لا العصبية؟
لقد قدّم عزمي بشارة نموذجًا عقلانيًا صارمًا للعلمانية بوصفها شرطًا للديمقراطية، رابطًا بين فصل الدين عن الدولة وبين صيانة الحريات. غير أن بشارة نفسه يدرك أن "علمنة الدولة" في العالم العربي لن تكون ممكنة إلا عبر علمنة الوعي أولًا، وتحوّل الثقافة السياسية والاجتماعية من الرغبة في الهيمنة إلى قبول التعدد.

لكن هذا الطرح، على اتساقه المنهجي، ليس المسار الوحيد. فالمسيري، في المقال القادم، سيأخذنا في اتجاه مختلف، بل مضاد في كثير من الأحيان، حيث يُحذّر من إسقاط النموذج الغربي للعلمانية على مجتمعات ذات ذاكرة دينية عميقة، ويطرح بديلاً حضاريًا يقوم على "العلمانية الجزئية"، ويدعو إلى "رؤية قرآنية" تميّز بين القيم الأخلاقية والسلطة السياسية.

بين بشارة والمسيري، لا نبحث عن موقف صائب وآخر خاطئ، بل عن اتساع النظر وعمق التفكير. فكل منهما يقدّم زاوية من زوايا هذا الاشتباك الفكري الكبير حول مصير العرب بين الدين والسياسة، بين الأصالة والمعاصرة، بين سؤال النهضة المؤجَّل وسؤال المفهوم المغيَّب.

إن العلمانية، كما نفهمها هنا، ليست هدفًا في ذاتها، بل مرآة لسؤال أعمق: كيف نعيش معًا رغم اختلافنا؟ كيف نُعيد بناء المجال العام على أساس المواطنة لا الطائفة، وعلى قاعدة العقل لا العصبية؟

وهكذا، فإن المقال القادم لن يكون نقضًا لما سبق، بل استكمالًا له. لأن النهضة الحقيقية لا تولد من إجماع مزيّف، بل من توتر خصب بين الرؤى، ومن قدرة العقل العربي على أن يُزاوج بين النقد والإبداع، بين الحفر في التراث والتطلع إلى المستقبل، ومثلما قال الراحل محمد عابد الجابري: "في البدء كان السؤال.. وما يزال هو الخلاص"..

في المقال القادم، سنتناول الموقف النقدي لعبد الوهاب المسيري من العلمانية، مع إبراز رؤيته للخصوصية الحضارية العربية الإسلامية.

المراجع:

ـ "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" ـ عزمي بشارة (مجلدات 2013 ـ 2015): تخصص في تحديد تطور مفهومي للعلاقة بين الدين والعلمانية عبر التاريخ الحديث .

ـ "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" - عبد الوهاب المسيري (2002): نقدي مفصل للعلمانية من منظور حضاري إسلامي.

ـ صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني (2018): دراسة تمثل المنطلق الفلسفي لمقولة نقد اللاهوت الضروري قبل أي مشروع علماني.
التعليقات (0)

خبر عاجل