كتب

الدولة المسلمة بين نصوص الوحي وحاجة العصر.. قراءة في كتاب

يرى الشيخ علي محمد الصلابي أن الدولة في الإسلام ليست مجرد أداة سياسية محايدة، بل هي "دولة عقيدة وشريعة"؛ تُبنى على المرجعية الإلهية، وتستمد شرعيتها من إقامة العدل، ورعاية مصالح الناس، وإقامة الدين.
يرى الشيخ علي محمد الصلابي أن الدولة في الإسلام ليست مجرد أداة سياسية محايدة، بل هي "دولة عقيدة وشريعة"؛ تُبنى على المرجعية الإلهية، وتستمد شرعيتها من إقامة العدل، ورعاية مصالح الناس، وإقامة الدين.
يُشكّل كتاب "الدولة الحديثة المسلمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصَّلابي، محاولة تأصيلية متكاملة للجمع بين التجربة النبوية والراشدية من جهة، ومتطلبات الدولة الحديثة المسلمة من جهة أخرى، في رؤية تؤكد شمولية الإسلام، وصلاحه لكل زمان ومكان.

وإن الحديث عن الدولة الحديثة المسلمة يتجاوز إطار البحث الفقهي أو التاريخي التقليدي إلى أفق المشروع الحضاري للأمة الإسلامية، حيث يلتقي فيه النص المؤسس بالتجربة الواقعية، وتتقاطع فيه هموم الأمة بضرورات الدولة.

وفي هذا السياق يقدّم الشيخ الدكتور علي محمد الصَّلابي كتابه "الدولة الحديثة المسلمة" لا بوصفه دراسة سردية للتاريخ السياسي الإسلامي، ولا مجرد عرض فقهي لنظام الحكم في الإسلام، بل باعتباره محاولة فكرية شاملة لصياغة ملامح دولة معاصرة تَستلهم من التجربة النبوية أصولها، ومن سنن الاجتماع البشري آلياتها، ومن مقاصد الشريعة أهدافها. وهذا الكتاب في جوهره هو مشروع استعادة الدور الحضاري للإسلام في الدول الحديثة ..

أولاً ـ الخلفية الفكرية والمنهجية

يتأسس المشروع الفكري للكتاب على ثلاث مرتكزات رئيسية:

1 ـ مرجعية الوحي (القرآن والسنة) في تنظيم شؤون الدولة والسياسة.
2 ـ الربط بين الدين والسياسة، ونقض أطروحات الفصل بينهما.
3 ـ استلهام التجربة النبوية في بناء الدولة وتطويرها، بوصفها النموذج الأمثل الذي يصلح للاحتذاء في العصر الحديث.

وقد استخدم المؤلف منهجًا تركيبيًا يجمع بين:

ـ التحليل النصي للنصوص القرآنية والحديثية.
ـ القراءة التاريخية لنموذج دولة المدينة.
ـ التأويل المقاصدي والوظيفي لمؤسسات ووظائف الدولة.
ـ الاستفادة من التجربة الغربية الحديثة دون الوقوع في التقليد الأعمى.

ثانياً ـ محاور الكتاب وبنيته المفاهيمية

الكتاب هو من الكتب العلمية الرصينة في الفكر السياسي الإسلامي وبناء الدول، وقد صدر في نحو 480 صفحة، ولاقى رواجًا واسعًا حيث طُبع لأول مرة في دار المعرفة ببيروت عام 2013م، ومن ثم طُبع في عدة دور نشر معروفة مثل دار ابن كثير، ودار الأصالة، ودار ابن الجوزية، ودار الروضة، وغيرها، كما تُرجم إلى عدد من اللغات العالمية كالإنجليزية، والتركية، والبوسنية، والبنغالية، والإندونيسية، مما يشير إلى حضوره العالمي وتلقيه باهتمام واسع في الأوساط الأكاديمية والدعوية والبحثية.

يقوم هيكل الكتاب على تقسيم منهجي متماسك يغطي ثلاث وحدات معرفية كبرى، وهي: المفاهيم، والدعائم، والوظائف، وهو ما يجعله أقرب إلى موسوعة في بناء الدولة الحديثة من منظور إسلامي.

الكتاب هو من الكتب العلمية الرصينة في الفكر السياسي الإسلامي وبناء الدول، وقد صدر في نحو 480 صفحة، ولاقى رواجًا واسعًا حيث طُبع لأول مرة في دار المعرفة ببيروت عام 2013م، ومن ثم طُبع في عدة دور نشر معروفة مثل دار ابن كثير، ودار الأصالة، ودار ابن الجوزية، ودار الروضة، وغيرها، كما تُرجم إلى عدد من اللغات العالمية كالإنجليزية، والتركية، والبوسنية، والبنغالية، والإندونيسية، مما يشير إلى حضوره العالمي وتلقيه باهتمام واسع في الأوساط الأكاديمية والدعوية والبحثية.
وفي القسم الأول، يعالج المؤلف مفهوم الدولة لغة واصطلاحًا، ويُفصّل في نشأة الدولة الإسلامية انطلاقًا من التجربة النبوية، بدءًا من المرحلة السرية ودار الأرقم، إلى بناء القادة والمادة التعليمية، وانتهاءً بفهم السنن الربانية في التغيير. ثم يتناول دعائم الدولة في المدينة المنورة، مثل: بناء المسجد، المؤاخاة، وثيقة المدينة، حركة السرايا، الأمن، الإدارة، الإعلام، والسلطة القضائية.

وأما القسم الثاني فيركز على السلطات والمؤسسات، حيث يفرد فصولًا مفصلة للسلطة التشريعية والتنفيذية، والعلاقات الخارجية، والمفاوضات السياسية، وسياسات كسب الأعداء، وكل ذلك من خلال رؤية سننية وتأصيلية.

ثم ينتقل في القسم الثالث إلى وظائف الدولة الحديثة واهتمامها بالمواطن، فيتناول شؤون السكن والعمل، والرياضة، والمرأة والأسرة، والطفولة والشباب، وكبار السن، وذوي الاحتياجات الخاصة، والصحة، والبيئة، والسياحة، وموارد الدولة، ومسؤولية الدولة في اختيار موظفيها ومحاسبتهم.

ويُظهر هذا البناء المحوري اتساع أفق المؤلف في إدراكه لتعقيدات الدولة المعاصرة، وسعيه إلى تقديم نموذج سياسي إسلامي متكامل يجمع بين المرجعية الشرعية ومتطلبات العصر، دون أن يفقد الكتاب توازنه بين التأصيل والتطبيق، وبين العمق التاريخي والرؤية المستقبلية.

ثالثاً ـ قراءة في القضايا والأفكار التي يعالجها الكتاب

1 ـ مفهوم الدولة الحديثة المسلمة

يرى الشيخ علي محمد الصلابي أن الدولة في الإسلام ليست مجرد أداة سياسية محايدة، بل هي "دولة عقيدة وشريعة"؛ تُبنى على المرجعية الإلهية، وتستمد شرعيتها من إقامة العدل، ورعاية مصالح الناس، وإقامة الدين. وهذا المفهوم يتجاوز النموذج الغربي للدولة الحديثة ذات الطابع القومي؛ كما هو الحال في الفكر الليبرالي، والعلماني الغربي، والشيوعي الاشتراكي. فهذا الكتاب يميز بين الدولة ككيان سياسي، وبين الدولة كمؤسسة دينية أخلاقية، ويدعو إلى الجمع بين الوظائف السياسية والمؤسساتية الحديثة، والمقاصد الشرعية العليا.

2 ـ نشأة الدولة الإسلامية وتجربة المدينة المنورة

أفرد الشيخ الدكتور علي محمد الصلابي، فصولًا مطوّلة للحديث عن مراحل التكوين السياسي للدولة النبوية، من السرية إلى العلنية، ومن ثم بناء المسجد، وإصدار وثيقة المدينة المنورة، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. ويرى أن هذه الخطوات تمثل نموذجًا حقيقًا لبناء دولة حديثة على أسس:

ـ العقد الاجتماعي الإسلامي.
ـ الهوية الجامعة للأمة.
ـ التنوع والاحتواء في مجتمع متعدد الأطياف.

ويمتدح الشيخ علي محمد الصلابي التجربة النبوية كأنموذج مثالي لدولة توازن بين الفرد والمجتمع، وبين الحرية والمسؤولية، وبين الدعوة والدولة.

3 ـ الدولة والشريعة.. وحدة لا تنفصم

يؤكد الدكتور علي محمد الصلابي أن الإسلام دين شامل ينظم السياسة والاقتصاد والاجتماع، وأن التفريق بين الدين والسياسة هو بدعة دخيلة على الأمة، جاءت نتيجة التغريب الاستعماري. ويعرض لآراء علماء كبار (كالغزالي، وابن تيمية، وابن خلدون، والعز بن عبد السلام) لإثبات أن الحكم بالشريعة من أصول الدين، وأن كل سياسة عادلة هي من صلب الشريعة، كما قال ابن القيم.

4 ـ وظائف الدولة الحديثة ذات المرجعية الإسلامية

يَسرد المؤلف وظائف الدولة من منظور إسلامي، منها:

ـ الخدمات الاجتماعية (السكن، والعمل، والصحة، والتعليم).
ـ رعاية المرأة والطفولة وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة.
ـ تنظيم الإعلام والسياحة والاقتصاد.
ـ تحقيق الأمن الداخلي والخارجي.

يشكّل الكتاب إلهامًا عمليًا للمفكرين والباحثين والقُراء في مشاريع النهضة، إذ يبلور تصورًا إصلاحيًا غير انعزالي يوازن بين الدعوة والدولة. وتكمن أهميته في أنه يُعيد تعريف الدولة الإسلامية برؤية شاملة ومقاصدية، ناقدًا بجرأة التجارب السلطوية التي عطلت دور الشرعية في إصلاح القضايا السياسية والاجتماعية، ومنفتحًا على قيم العصر كالتعددية والعدالة والكرامة، شريطة أن تُصاغ جميعها ضمن إطار مرجعية شرعية متجذرة في الوحي والتاريخ وسنن الاجتماع.
ويحاول أن يربط كل وظيفة حديثة بجذر شرعي ونبوي، بهدف إثبات أن "الدولة الإسلامية الحديثة" ليست دولة ثيوقراطية، بل مدنية ذات مرجعية دينية.

5 ـ السياسة والدين.. تفنيد دعوى الفصل

يخصص المؤلف فصولًا للرد على دعاوى فصل الدين عن الدولة، ويستعرض أطروحات شيخ الأزهر محمد الخضر حسين في تفنيد الفكرة، مؤكدًا أن من ينكر صلاحية الشريعة للحكم إما جاحد للدين أو جاهل به. ويبرز أمثلة من السنة النبوية وسيرة الصحابة في ضبط السياسة بأحكام الدين، معتبرًا أن من يقرأ التاريخ الإسلامي جيدًا يجد أن الانحرافات السياسية الكبرى إنما جاءت عند تعطيل الدين في السياسة.

6 ـ المعاصرة والتجديد

من القضايا اللافتة في الكتاب أن المؤلف لا يرفض مفاهيم الدولة الحديثة كـ"المواطنة"، و"العدالة الاجتماعية"، و"السلطات الثلاث"، و"الرقابة"، بل يسعى لإدماجها في إطار إسلامي، عبر ما يسميه "الرؤية الإسلامية للدولة".

ويدعو إلى:

ـ اقتصاد حر مستدام.
ـ قضاء مستقل وعادل.
ـ خدمات صحية وتعليمية عالية الجودة.
ـ نظام انتخابي يُعبر عن إرادة الأمة.

رابعاً ـ تقييم عام للكتاب

لا يمكن قراءة كتاب "الدولة الحديثة المسلمة" دون الإقرار بثرائه المعرفي، وشموليته المنهجية. إذ تتبدى في ثناياه ملامح مشروع موسوعي يعالج مختلف أبعاد وقواعد الدولة الحديثة المسلمة: من تأسيسها العقائدي، إلى مؤسساتها المعاصرة، ووظائفها المدنية. وقد نجح المؤلف في صياغة رؤية فكرية متكاملة تمزج بين التأصيل القرآني، والاِستحضار التاريخي، والرؤى الواقعية، في لغة علمية هادئة، وتوثيقٍ دقيق يُظهر اِطلاعه الواسع على مصادر التراث السياسي والفقهي، والرسائل والأطاريح العلمية، والكتب التي تناقض هذه الرؤية في بناء دولة المسلمين.

ومن أبرز ما يُحسب للكتاب أنه يُجسّد المزاوجة الرصينة بين الأصالة والمعاصرة؛ فهو لا يقدّم التجربة النبوية كنموذج ثابت غير قابل لمواكبة التطورات العصرية، ولا يعرض الحاضر كضرورة ينبغي الخضوع لها، بل يسعى لخلق تفاعل خلّاق بين تجربة المدينة المنورة، والتأسيس الإسلامي في الفكر الحضاري الإنساني، وما تفرضه رؤيته في الدولة الحديثة من مؤسسات وإدارات ونظم وتشريعات. كما يُعلي الشيخ علي محمد الصلابي من شأن المبادئ القرآنية الكبرى كمرجعية قاطعة، مثل العدل، والحرية، والكرامة، وحقوق الإنسان، ورد الظلم، والإحسان، والسلام، والأمور بالمعروف والنهي عن المنكر، ويؤكد أن هذه القيم من صلب الرسالة الإيمانية التي جاء بها النبي المصطفى ﷺ.

ومع ذلك، وبالرغم من الطرح الشامل، فكان من الجيد منح حيز كافٍ في تحليل تجارب الدول الإسلامية المعاصرة التي حاولت التوفيق بين الشريعة والدولة الحديثة، كتجربة تركيا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، أو ماليزيا في أيام حكم الدكتور مهاتير محمد، أو دول عربية معاصرة. وإن تلك التجارب، رغم تباينها، كانت كفيلة بإغناء سردية الكتاب، وإثراء طروحاته ورؤيته التاريخية والحضارية.

وفي المحصلة، يمثل هذا الكتاب مساهمة نوعية في فقه بناء الدولة العصرية، ويستحق أن يكون قاعدة لبناء حوار حضاري معمّق حول شكل الدولة الإسلامية الممكنة في العصر الحديث. وتمثل القيمة العلمية لكتاب "الدولة الحديثة المسلمة" للدكتور علي محمد الصلابي إضافة راسخة في حقل الفقه السياسي الإسلامي، حيث يُقدَّم كمرجع تأصيلي يمكن أن يبني عليه الباحثون مقارناتهم بين نماذج الحكم الإسلامية والغربية، ويمنح طلاب العلوم السياسية والعلوم الشرعية رؤية تتجاوز النموذج العلماني التقليدي، مفككًا أطروحات فصل الدين عن الدولة، أو طروحات الباحثين الذين قالوا بأنه الدولة الحديثة يستحيل أن تكون مسلمة وقائمة على الشريعة الإسلامية. ولعل تجربة إمارة أفغانستان الإسلامية هي الرد الحقيقي على كلامهم. فالشيخ الصلابي يقدم هذا الكتاب في سياق يُعيد الاعتبار للشريعة كمصدر تشريعي ومؤسسي.

وقد يشكّل الكتاب إلهامًا عمليًا للمفكرين والباحثين والقُراء في مشاريع النهضة، إذ يبلور تصورًا إصلاحيًا غير انعزالي يوازن بين الدعوة والدولة. وتكمن أهميته في أنه يُعيد تعريف الدولة الإسلامية برؤية شاملة ومقاصدية، ناقدًا بجرأة التجارب السلطوية التي عطلت دور الشرعية في إصلاح القضايا السياسية والاجتماعية، ومنفتحًا على قيم العصر كالتعددية والعدالة والكرامة، شريطة أن تُصاغ جميعها ضمن إطار مرجعية شرعية متجذرة في الوحي والتاريخ وسنن الاجتماع.

المصدر:

علي محمد الصلابي، الدولة الحديثة المسلمة، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت. ط1، 2013م.
رابط الكتاب: http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/39
التعليقات (0)