الكتاب: قيس سعيد هل اخبرنا بكل شيء؟
الكاتب: الدكتور عبد السلام الزبيدي
عدد الصفحات :235 صفحة
الناشر: سوتوميديا للنشر والتوزيع سنة النشر 2024 طبعة أولى
في سياق وطني مثقل بالتحولات والخيبات، وفي
خضم ارتباك سياسي شلّ المؤسسات، صعد قيس سعيّد إلى واجهة المشهد
التونسي حاملاً
خطابًا غير مألوف في قاموس السياسة التونسية. خطاب لا يقوم على البرامج، بل على
"الرسالة"، لا على الآليات بل على "الإرادة"، ولا على الوساطة
الحزبية بل على المباشرة الثورية بين الحاكم والشعب. في خضم هذا التمايز الخطابي
والفكري، جاء كتاب الدكتور عبد السلام الزبيدي "قيس سعيّد: هل أخبرنا بكل
شيء؟" ليقدم قراءة متأنية في مضامين خطاب الرجل وبنية تفكيره، دون مباشرة نقدية
حادة، وإنما عبر تجميع وتفكيك وتفسير المكوّنات الفكرية واللغوية التي تحكم سلوك
الرئيس ومنطقه السياسي.
قيس سعيّد من النصوص.. من المواطن الصامت
إلى النبي الغاضب
ينطلق الدكتور عبد السلام الزبيدي في قراءته
من فرضية منهجية مهمّة: لا يمكن فهم قيس سعيّد إلا من خلال لغته، فالرجل ـ كما
يُشير ـ لا يُمارس السياسة بوصفها تدبيرًا للواقع، بل "يتكلّمها"، يجعل
من النصوص مجال سلطته، ومن القول أداة حكم، ومن اللغة ذاتها مشروعًا بديلًا
للمؤسسات.
لقد دخل سعيّد الحياة العامة لا من بوابة
الأحزاب أو العمل النقابي أو العمل التنفيذي، بل من بوابة: القول القانوني،
واللغوي، والدستوري، بل والإنشائي. ومنذ ظهوره، قدّم نفسه ناطقًا باسم الشعب
الصامت، حاملاً "رسالته"، لا ممثلًا له ضمن آليات الديمقراطية
التمثيلية. وبهذا المعنى، يتحوّل الرئيس إلى "نبيّ جمهوري"، يُخاطب
الجماهير لا بوصفه مرشحًا له برنامج، بل بوصفه مخلّصًا لغويًا يتكلم باسم الإرادة
العامة ويكشف "المؤامرة" التي حيكت ضدها.
يُبرز الزبيدي هذا المنحى من خلال تفكيك
مفردات الخطاب السعيدي: "الشعب يريد"، "السيادة للشعب"،
"الدستور روح لا حرف"، "الخطر الداهم"، "الخونة"،
"التآمر"، "الواهمون"، إلخ. هذه ليست مجرّد تعبيرات عاطفية،
بل أدوات تؤسس لسلطة خطابية قائمة بذاتها. فاللغة لا تصف الواقع فحسب، بل تعيد
تشكيله، وتحدّد من هو داخل الجماعة ومن هو خارجها، من هو نقي ومن هو مدنّس.
لقد دخل سعيّد الحياة العامة لا من بوابة الأحزاب أو العمل النقابي أو العمل التنفيذي، بل من بوابة: القول القانوني، واللغوي، والدستوري، بل والإنشائي. ومنذ ظهوره، قدّم نفسه ناطقًا باسم الشعب الصامت، حاملاً "رسالته"، لا ممثلًا له ضمن آليات الديمقراطية التمثيلية. وبهذا المعنى، يتحوّل الرئيس إلى "نبيّ جمهوري"، يُخاطب الجماهير لا بوصفه مرشحًا له برنامج، بل بوصفه مخلّصًا لغويًا يتكلم باسم الإرادة العامة ويكشف "المؤامرة" التي حيكت ضدها.
وما يلفت النظر، كما يُحلّل الزبيدي، هو ميل
الرئيس إلى الجُمل القصيرة المكثّفة، المشحونة باليقين، والمجرّدة من التفاصيل أو
السياقات. فهو لا يشرح أو يفسّر أو يُحيل إلى معطيات، بل يُلقي "كلمات
مشعّة"، أقرب إلى التلاوة منها إلى الخطاب السياسي. من قبيل: "الحرية
مسؤولية"، "لن نعود إلى الوراء"، "الولاء للوطن لا
لغيره"، وهي عبارات تحمل شحنة أخلاقية عالية، تمنح المتلقي انطباعًا بأنه
أمام حقيقة لا تُناقش.
الأخطر من ذلك، بحسب الزبيدي، هو التكرار
المفرط الذي يطبع هذه اللغة: العبارات نفسها، التوصيفات ذاتها، بنفس الإيقاع
والتركيب، حتى يخال القارئ أن كل خطاب هو إعادة تدوير للذي سبقه. هذا التكرار ليس
بريئًا، بل هو وسيلة تثبيت للهيبة الرمزية وبناء "هالة سلطوية" تحيط
بالكلام وتُجرده من قابليته للنقاش، وتحوّله إلى ما يشبه "الوحي
الجمهوري" لا مجرد رأي في شؤون الحكم.
هكذا إذًا، يُؤسّس قيس سعيّد سلطته على
النص، لا على البرامج، وعلى القول لا على الفعل، وعلى التذكير بالفضيلة لا بتدبير
الواقع. وهو بهذا يُنتج خطابًا طهرانيًا متماسكًا من الداخل، لكنه مُغلق على ذاته،
غير قابل للتطوير أو للتفاوض، ويمنح صاحبه موقعًا خارج السياسة التقليدية، حيث
يتحدث باسم "الحق" في مواجهة "المتآمرين"، و"الشعب"
في مواجهة "النخب"، و"الرسالة" في مواجهة "المؤسسات".
التأويل بوصفه سلطة.. من النص الدستوري إلى
"روح الشعب"
ينقلنا عبد السلام الزبيدي في هذا الفصل من
تحليل لغة قيس سعيّد إلى تحليل وظيفة التأويل في مشروعه السياسي، بوصفه الأداة
الجوهرية التي يُمارس من خلالها سلطته.
فالرئيس، الذي قدّم نفسه منذ البداية كأستاذ
في القانون الدستوري، لم يُظهر التزامًا بمقتضيات هذا الاختصاص كما جرى العُرف
عليه في الحقل الأكاديمي أو في الممارسة الدستورية. بل على العكس، اعتمد على نمط
تأويلي ذاتي، حرّ، منزوع من كل ضوابط المؤسّسة القانونية.
من هنا تتضح المفارقة العميقة التي يرصدها
الزبيدي: أن يتحوّل رجل القانون إلى سلطة فوق القانون، لا من خلال خرق النصوص، بل
من خلال تأويلها "تأويلًا مفرطًا"، يجعل من روح النص ـ كما يدّعي ـ مرجعًا يتقدّم على منطوقه.
وتتجلّى هذه السلطة التأويلية في أبرز لحظة
مفصلية: تفعيل الفصل 80 من الدستور في يوليو 2021، وما تلاه من إجراءات استثنائية،
حلّ البرلمان، وتعليق العمل بعديد المؤسسات.
كل ذلك بُرّر باسم "الخطر
الداهم"، وهي عبارة حمّالة أوجه، لم تُقيَّد زمنيًا أو مؤسساتيًا في الدستور،
فتحوّلت على لسان الرئيس إلى بوابة تأويل مفتوحة بلا سقف، ومن ثم إلى سندٍ لتأسيس
سلطة مطلقة باسم الدستور نفسه.
يرى الزبيدي أن هذا التحوّل لا يتعلّق فقط
بمناورة سياسية، بل يعكس نمطًا تأويليًا متكاملًا، يقوم على تقديس الإرادة الذاتية
في فهم النصوص، مقابل تغييب كل وساطة مؤسسية.
فالرئيس لم يرجع إلى المحكمة الدستورية ـ لأنها غير موجودة ـ ولم يبحث عن توافق مع القوى السياسية، بل اعتبر أن الشرعية
تنبع من تطابق قراءته الخاصة للنص مع ما يراه "إرادة الشعب".
ومن هنا ينبثق شعار قيس سعيّد الأكثر
تكرارًا: "الدستور روح
قبل أن يكون حرفًا"
هذه العبارة التي يراها الزبيدي مفتاحًا
لفهم علاقة سعيّد بالنصوص، لا تحمل في طياتها فقط نزعًا للصبغة التقنية عن
القانون، بل تحوّله إلى نص ملحمي، يُستنطق بحسب الشعور لا الضوابط، وتُفَسَّر روحه
وفق ما يراه الزعيم، لا ما يقتضيه السياق أو تفرضه المؤسسات.
بهذا المنظور، يصبح سعيّد مفسرًا متفردًا
للدستور، لا مجرد ملتزم به، ويختزل الشرعية في ذاته، لا في التوازن بين السلطات.
وهنا تتضح ملامح تأويل سلطوي يتجاوز النص ليُنتج واقعًا سياسيًا جديدًا، حيث
تتحوّل عبارات مثل "الشعب يريد" أو "الشرعية الشعبية" إلى
أدوات لتجاوز الديمقراطية نفسها، لا لتعزيزها.
إن تأويل النصوص هنا لا يُمثّل مجرد قراءة بديلة، بل يتحوّل إلى أداة استحواذ رمزي على الشرعية، ويُنتج واقعًا جديدًا يُقصي المؤسسات، ويُعلي من صوت الزعيم الفرد، حتى لو استعار هذا الأخير مفردات "الشعب" و"السيادة" و"الحرية".
في هذا السياق، يستحضر الزبيدي نماذج
تاريخية لأنظمة سلطوية اعتمدت على التأويل الفردي للنصوص (كما في التجربة الناصرية
أو الخمينية أو القذافية)، لكنه يحرص على إبراز الفرادة التونسية في لحظة قيس
سعيّد: فالرئيس لا يبني حزبه، ولا يعبّئ أجهزته، بل يكتفي بسلطة التأويل، بما هي
سلطة تُنتج الهيبة وتمنح الغطاء لفعل سياسي متحرّر من الضبط المؤسساتي.
إن تأويل النصوص هنا لا يُمثّل مجرد قراءة
بديلة، بل يتحوّل إلى أداة استحواذ رمزي على الشرعية، ويُنتج واقعًا جديدًا يُقصي
المؤسسات، ويُعلي من صوت الزعيم الفرد، حتى لو استعار هذا الأخير مفردات
"الشعب" و"السيادة" و"الحرية".
معجم الطهارة الثورية.. بين الشعبوية
والتنزيه الأخلاقي
في هذا الفصل، يُبحر عبد السلام الزبيدي في
بُنية الخطاب السعيدي لا بوصفه خطابًا سياسيًا فحسب، بل كمنظومة لغوية ذات طابع
ديني ـ طهراني ـ إقصائي.
فالرئيس لا يتحدث عن صراع مصالح أو توازنات
قوى، بل عن صراع بين الطهارة والخيانة، بين نقاء الشعب وفساد النخب. وهذا الانزياح
من السياسة إلى الأخلاق يُنتج لغة ثنائية حادّة، قائمة على المطلقات، تقسم الفضاء
السياسي إلى فسطاطين لا ثالث لهما: شعب طاهر مقابل نخب مدنّسة.
يستعرض الزبيدي مجموعة المفردات التي تتكرر
بشكل شبه طقوسي في خطابات قيس سعيّد: "الخونة"، "العملاء"،
"الواهمون"، "المتآمرون"، "المندسّون"،
"العصابات"، "المافيات"، "الذين نهبوا مقدّرات الشعب"...
كلها تعبيرات تُشيّد صورة نقيّة للشعب،
وتبني حوله هالة قُدسية، بوصفه الكائن الذي لا يُخطئ، ولا يتواطأ، بل فقط يُخدَع
أو يُغدر به.
ومن هنا، تصبح مهمة الرئيس ـ كما يصوغها
خطابه ـ تطهير البلاد من تلك "الطبقة الفاسدة" التي خانت الأمانة، وهي
تطهير لا يتم عبر الآليات القضائية العادية أو المحاسبة المؤسسية، بل عبر استعادة
روح الثورة وإعادة توصيل الإرادة الشعبية مباشرة بالحكم.
السلطة هنا لا تُسترد عبر الإجراءات، بل عبر
الطهارة الرمزية، وكأن قيس سعيّد يستمد شرعيته من استعلائه الأخلاقي لا من الشرعية
الدستورية أو التوافق السياسي.
وبهذا، يُعيد الزبيدي قراءة ظاهرة سعيّد ضمن
منطق "الطهورية السياسية"، حيث تُلغى المناطق الرمادية، ويُرفض التدرّج
أو التفاوض، لصالح خطاب متوتر يُقدّم نفسه وكأنه النبض الأخلاقي الأوحد للشعب.
هذا ما يجعل كل معارض له، بالضرورة، خائنًا
أو متآمرًا أو متواطئًا، حتى وإن كان من رحم الثورة نفسها. الخطاب لا يحتمل
المراجعة، لأنه مبني على عقيدة، لا على حوار.
ولأن هذا المعجم يقوم على النقاء، فإنه يرفض
النخبة والمؤسسات والوسائط باعتبارها أدوات لتشويه الإرادة الشعبية.
فالنخبة، في هذا السياق، لا يُنظر إليها
كصانعة للرأي أو منتجة للفكر، بل كوسيط مشبوه، ملوّث بالمصالح، ويجب تجاوزه لصالح
الاتصال المباشر بين "القائد النقي" و"الشعب النقي".
وتُصبح الدولة ذاتها في هذا الخطاب حقلًا
يجب تطهيره من الفساد لا تطويره، والوسائل المستخدمة ـ من المراسيم إلى الحلول
الاستثنائية ـ ليست سوى أدوات تطهير رمزي، لا آليات حكم عقلانية.
ويُلاحظ الزبيدي أن هذا المخيال الطهوري يجد
صداه في نماذج من التاريخ السياسي العربي، لعل أبرزها خطاب القذافي الذي شيطن
الدولة والمؤسسات لصالح الجماهير، أو التجربة الخمينية التي أحاطت "ولاية
الفقيه" بهالة قدسية فوق مؤسسات الدولة.
لكن الزبيدي لا يُسقط هذه النماذج إسقاطًا
ميكانيكيًا، بل يستخدمها لفهم البنية الرمزية التي يُؤسس عليها قيس سعيّد مشروعه،
بوصفه مشروعًا لا يُعادي النخبة فقط، بل يُنكر أصلًا الحاجة إليها.
وبهذا، يتشكّل خطاب الطهارة الثورية بوصفه
تعبيرًا عن نزعة خلاصية، لا تريد إصلاح النظام، بل تطهيره؛ لا تبحث عن التوافق، بل
عن التماثل؛ لا تعترف بالمختلف، بل تَشُكُّ في وطنيته.
وهي بذلك، تُقصي الجميع، وتؤسّس لحكم فردي،
وإن ظلّ يتدثّر برداء الشعب، ويستعير مفردات الثورة.
قطيعة مع النخب ووسائط الديمقراطية
التمثيلية
يتتبّع عبد السلام الزبيدي في هذا الجزء أحد
أخطر ملامح خطاب قيس سعيّد: رفضه الجذري لمبدأ الوساطة السياسية، واعتباره أن
العلاقة بين الشعب والحكم يجب أن تكون مباشرة، شفافة، غير ملوّثة بتمثيل حزبي أو
مؤسساتي.
إنه رفض فلسفي لا تنظيمي فقط، قائم على نفي
الحاجة للنخبة باعتبارها طبقة وسطى بين "الشعب النقي" و"الإرادة
الصافية".
في هذا التصور، لا يُنظر إلى الأحزاب بوصفها
قنوات تأطير أو تطوير للرأي العام، بل كـ"وسائط مشبوهة"، فقدت
مشروعيتها، وصارت أدوات خيانة وتحايل على الإرادة الشعبية.
ومن هنا، يصبح نقد الأحزاب والبرلمان
والنقابات والقوى المدنية عقيدة ثابتة في خطاب سعيّد، تتكرّر في كل المناسبات
تقريبًا، وبنفس النبرة الساخطة.
هذا الشعب الخيالي لا يُمثله أحد، بل يتجلى فقط في "صوت الزعيم" الذي يُفسّر إرادته ويتحدث باسمه.
يبيّن الزبيدي أن هذا الموقف لا ينبع من
تقييم ظرفي للواقع التونسي، بل هو مكوّن بنيوي في فكر الرئيس، منذ ظهوره الأكاديمي
قبل الثورة، حيث عبّر مبكرًا عن قناعته بأن التمثيل الحزبي يُزيف إرادة الشعب، وأن
الحل يكمن في ديمقراطية قاعدية، تبدأ من المحليات وتتصاعد تدريجيًا، بدون أحزاب.
لكن الزبيدي لا يكتفي بوصف هذا الموقف، بل
يضعه موضع التساؤل:
ـ كيف يمكن بناء ديمقراطية دون نخب؟
ـ وهل يعقل تصور سياسة بلا وساطة، في مجتمعات حديثة معقدة؟
ـ وهل يكون الشعب أكثر تمثيلًا حين يُلغى التمثيل نفسه؟
من هذا المنظور، يُحلل الزبيدي كيف أن قيس
سعيّد يُعيد إنتاج ما يسميه الفكر السياسي الحديث بـ"الاستحضار الشعبوي
للجمهور"؛ حيث يتم تخليق شعب متجانس، ذو إرادة واحدة، ويُستحضر بوصفه كيانًا
طاهرًا، لا جماعة بشرية متنوعة المصالح والانتماءات.
هذا الشعب الخيالي لا يُمثله أحد، بل يتجلى
فقط في "صوت الزعيم" الذي يُفسّر إرادته ويتحدث باسمه.
هنا تتحوّل السياسة من مجال تنافسي تداولي،
إلى شعرية جماهيرية، تنحاز للمباشرة، وتُقصي المؤسسات باعتبارها تعقّد العلاقة بين
الحاكم والمحكوم.
ويُعيدنا الزبيدي، في هذا السياق، إلى
أطروحات "إرنستو لاكلو" حول الشعبوية كمشروع سياسي يقوم على
"الاستحواذ على التمثيل"، لا على توزيع السلطة، وعلى بناء جماعة متجانسة
عبر الإقصاء لا عبر التعدد.
لكن ما يُميز قيس سعيّد، كما يرى الزبيدي،
هو أنه لا يُنظّر لهذا المشروع بشكل كامل، ولا يُحوّله إلى هندسة دستورية دقيقة.
بل يكتفي برفض الواقع القائم، وبتكرار عبارات مثل:
"لا حوار مع
الخونة"، "لا عودة إلى الوراء"، "الديمقراطية يجب أن تكون
قاعدية لا شكلية"، دون تقديم
تصوّر فعلي عن كيفية إدارة الشأن العام، أو ضمان الشفافية والمحاسبة والتمثيل
الحقيقي في غياب الأحزاب والمؤسسات الوسيطة.
ويخلص الزبيدي إلى أن نفي الوساطة يُفضي
حتمًا إلى نفي السياسة ذاتها، بما هي مجال خلاف، تداول، ورهانات.
فحين يُلغى دور النخبة، ولا تُترك مساحة إلا
لـ"الشعب" كما يتصوره الزعيم، نكون إزاء توحيد قسري للخطاب، حيث لا أحد
يعبّر عن الإرادة إلا صاحبها ـ أي الرئيس نفسه ـ وهنا تُختزل الديمقراطية في الصوت
الواحد، حتى لو قيل إنها باسم الشعب كلّه.
من الرسالة الغامضة إلى المشروع المجهض؟
ينتقل بنا الزبيدي في الفصل الأخير من
الكتاب إلى قراءة أوسع في طبيعة مشروع قيس سعيّد السياسي والفلسفي، محاولًا فهم ما
إذا كنا إزاء رؤية بديلة متماسكة، أم أمام حزمة من المفاهيم والمواقف المتناثرة
التي لم تكتمل لتُصبح مشروعًا فعليًا قابلًا للتنزيل.
يشير الزبيدي إلى أن سعيّد، ومنذ حملته
الانتخابية الأولى، لم يطرح برنامجًا سياسيًا أو اقتصاديًا واضحًا، بل تحدث بصيغة
"الرسالة" أو "النبوءة"، كما لو كان مجرد حامل لكلمة شعبية لا
ناطقًا باسم مشروع حزبي.
وفي هذا السياق، يصبح سعيّد أقرب إلى صورة
"المبشّر الجمهوري"، منه إلى رجل الدولة.
من أبرز المفارقات التي يرصدها الكاتب، أن
سعيّد يبني مشروعه على لحظة واحدة: لحظة "الانفجار الثوري"، أو ما
يُسميه "لحظة التأسيس الجديد".
هذا الشعب الخيالي لا يُمثله أحد، بل يتجلى فقط في "صوت الزعيم" الذي يُفسّر إرادته ويتحدث باسمه.
لكنه في المقابل يستبعد كل أشكال التاريخ
السياسي والمؤسسي، ويتعامل مع الثورة كـ"نقطة نقاء مطلق"، لا كمسار معقد
بإنجازاته وإخفاقاته.
يرى الزبيدي أن قيس سعيّد لم يسعَ إلى إصلاح
المؤسسات بقدر ما سعى إلى تفكيكها أو تجاوزها.
البرلمان تم حله، الأحزاب وُصفت بالخيانة،
القضاء "طُهر"، الصحافة وُصمت بالتآمر.
وهكذا ينتقل الخطاب من تأويل النصوص إلى
إعادة تشكيل النظام السياسي بالكامل، لكن دون مأسسة جديدة، بل بإرادة منفردة.
من تأويل الخطاب إلى فهم مشروع السلطة
يحمل عنوان الكتاب "هل أخبرنا بكل
شيء؟" تساؤلًا مركّبًا:
ـ هل أخبرنا قيس سعيّد فعلًا بكل ما ينوي فعله؟ وهل كشف
عبد السلام الزبيدي لنا، من خلال تحليله، حقيقة هذا المشروع الغامض؟
لا يدّعي الكتاب امتلاك الحقيقة النهائية
حول ظاهرة قيس سعيّد، لكنه يُقدّم مدخلًا نادرًا ومبكرًا لتحليل خطابه من زاوية
اتصالية وفكرية، بعيدًا عن السجالات الإيديولوجية أو التصنيفات الجاهزة.
وبهذا المعنى، يُعدّ هذا العمل من الكتابات
الرائدة التي تعاملت مع قيس سعيّد لا كسياسي فقط، بل كظاهرة خطابية متكاملة،
تتقاطع فيها اللغة، والرمزية، والتأويل، والسياسة.
وقد نجح الزبيدي، عبر منهجية توثيقية
وتأويلية دقيقة، في تفكيك البنية اللغوية لخطاب سعيّد، وإبراز ملامح النزعة
الرسالية التي تحكم منطقه السياسي. كما كشف عن حدود المشروع حين يتجاوز النصوص نحو
التأويل الفردي المطلق، ويستبدل المأسسة بالعفوية، والمساءلة بالقداسة.
إن الكتاب لا يُغلق الملف، بل يفتحه على
أسئلة أكثر عمقًا: ما مصير الديمقراطية حين
يُختزل الشعب في الحاكم؟ وكيف يمكن مواجهة الخطاب الطهراني بلغة عقلانية لا تفقد
قدرتها على التأثير؟
بهذا، لا يُعد كتاب "هل أخبرنا بكل
شيء؟" مجرد قراءة في ظاهرة سياسية، بل هو تأسيس مبكر لعلم خطاب سعيّدي، لا
يزال في بداياته، ويحتاج إلى من يكمله، ويُعمّقه، ويعيد مساءلته في ضوء ما يتكشّف
يومًا بعد يوم.