بعد اثني عشر يوما، وضعت
الحرب الإيرانية الإسرائيلية أوزارها، وكل طرف
يحاول أن يقدم لجمهوره سردية انتصار يحقق بها أهدافه السياسية والعسكرية للحفاظ
على شرعيته السياسية واستمراره في السلطة، وفيما أعلن الكيان الصهيوني أنه أنهى بنك
أهدافه العسكرية في إيران، أعلنت إيران أنها انتصرت في التصدي للهجوم الإسرائيلي
الأمريكي، وأنها حققت نصرا في ردع اعتداء أمريكا وإسرائيل وضرب الكيان بشكل موجع
لم يعرفه منذ تأسيسه.
(1) مكاسب وخسارة طرفي
الحرب
بعد أن وجه الكيان الصهيوني في المرحلة الماضية ضربات موجعة إلى أذرع إيران
وشركائها التابعين لها في المنطقة وحقق الكثير من المكتسبات العسكرية والسياسية،
وجدت إسرائيل أن الفرصة أصبحت سانحة أكثر من أي وقت مضى لتوجيه ضربات لإيران
وتحقيق أهداف سياسية وعسكرية تعيد ترتيب المنطقة لصالح الكيان الصهيوني لعقود
قادمة.
حققت إسرائيل هدفا كبيرا في ضرب البرنامج
النووي الإيراني أو تأخيره
لسنوات طويلة، من خلال ضرب المنشآت النووية الإيرانية الخاصة بتخصيب اليورانيوم
وتصنيع أجهزة الطرد المركزي، بعد التدخل الأمريكي الحاسم الذي مهد لإنهاء الحرب.
إسرائيل عجزت عن إنهاء البنية التحتية لصناعات الصواريخ الباليستية الإيرانية التي تشكل التهديد الحقيقي والمباشر لأمن إسرائيل، كما أنها عجزت عن إقناع أمريكا بإسقاط النظام الإيراني، وهذا ما عقب عليه بعض قادة إسرائيل الذين حذروا من إعلان نصر مغرور غير حقيقي
كما قامت إسرائيل بحملة اغتيالات لكبار القادة العسكريين شملت رؤوس الأجهزة
العسكرية والأمنية، كما استهدفت علماء التصنيع النووي الإيراني، إذ وصل عدد من تم
اغتيالهم إلى أكثر من عشرة علماء كما أعلن رئيس وزراء الكيان الصهيوني.
كان من بين الأهداف الإسرائيلية الأهم مهاجمة الدفاعات الجوية الإيرانية
روسية الصنع المعروفة S-300، إذ كانت تملك إيران أربعة
أنظمة من S-300، إلا أن إسرائيل استطاعت تدمير
واحدة منها في نيسان/ أبريل الماضي، وفي هذه الحرب استطاعت تدمير كل تلك الأنظمة
وإخراجها من الخدمة وفقا لما أعلنه الكيان الصهيوني.
رغم عدم معرفة العدد الذي تملكه إيران من الصواريخ الباليستية التي أحدثت
فرقا في تلك الحرب، لكن يشير تقدير القوات الجوية الأمريكية إلى أن إيران تمتلك 3000 صاروخ باليستي، وتزعم إسرائيل
أنها استطاعت تدمير 40 في المئة من منصات إطلاق الصواريخ
في حربها الأخيرة.
كما استطاعت الولايات المتحدة باستخدام القنبلة الأمريكية GBU-57 المحمولة على الطائرة الأمريكية B-2 أن تحسم الحرب من
ناحية عسكرية فيما يخص البرنامج النووي، وتحقق ما عجزت عنه إسرائيل في استهداف وتدمير
المنشآت النووية الإيرانية في موقع فوردو شديد التحصين ونطنز وأصفهان.
كما حققت إسرائيل مجموعة من الأهداف السياسية التكتيكية، تمثلت في منح
المفاوض الأمريكي مساحة من الوقت لإدارة مفاوضات أمريكية إيرانية تحقق بها أمريكا
أعلى درجات المكاسب السياسية والعسكرية، بما يخدم مشروعها ومشروع إسرائيل ويعيد
ترتيب المنطقة بأكملها، وإظهار التفوق النوعي العسكري والتكنولوجي، وإظهار التفوق
الاستخباراتي، وقدرة إسرائيل على الوصول إلى أي هدف عسكري وسياسي داخل إيران
وبأعلى درجات الدقة، وتعميق حالة قوة الردع الإسرائيلي لدى أعداء إسرائيل.
لكن إسرائيل عجزت عن إنهاء البنية التحتية لصناعات الصواريخ الباليستية
الإيرانية التي تشكل التهديد الحقيقي والمباشر لأمن إسرائيل، كما أنها عجزت عن
إقناع أمريكا بإسقاط النظام الإيراني، وهذا ما عقب عليه بعض قادة إسرائيل الذين
حذروا من إعلان نصر مغرور غير حقيقي، وأن إيران ونظامها السياسي بقيا كأسد مجروح
سوف يعود لينتقم بشكل أكبر بعد أن يرمم خسائره ويستعيد بناء قوته وبرنامجه النووي.
أما إيران فقد استطاعت أن تطلق أكثر من 500 صاروخ متعدد القدرات على تل أبيب، وهي حالة تتشكل لأول مرة منذ تأسيس دولة
إسرائيل، إذ استطاع عدد من تلك الصواريخ أن تخترق جميع الدفاعات الجوية
الإسرائيلية التي تبلغ أكثر من ستة أنظمة دفاعية، أشهرها مقلاع داوود والقبة
الحديدية وباتريوت، بالإضافة إلى نظام ثاد الذي نشرته الولايات المتحدة الأمريكية
في إسرائيل، إذ استطاعت المنظومة الصاروخية الإيرانية أن تخترق تلك الدفاعات الجوية
التي كانت تفاخر بها إسرائيل؛ بأكثر من 25 صاروخا مدمرا وتضرب تل أبيب
ومناطق إسرائيلية مختلفة وأصابت منشآت عسكرية وأمنية استخباراتية ومستشفيات ومباني
سكنية ومنشآت حيوية مثل محطات توليد الكهرباء.
وإن كانت الهجرة العكسية من إسرائيل قد بدأت تنشط منذ أحداث السابع من تشرين
الأول/ أكتوبر، لكن المراقبين يتوقعون مزيدا من تلك الهجرات بعد الحرب الأخيرة
وإظهار قدرة إيران على اختراق الأمن الإسرائيلي وضرب مناطق كانت تتفاخر إسرائيل
بقدرتها على تحصينها، فالهجرة لإسرائيل مرتبطة بالأمن، فكلما شعر السكان
الإسرائيليون بانخفاض الأمن زادت الهجرة من إسرائيل.
(2) وقف إطلاق النار
وشرعية استمرار السلطة السياسية
فيما يبدو أن حكومة اليمين الإسرائيلي تنتقل من ساحة حرب إلى ساحة حرب أخرى
لتستمر في السلطة وتحسن فرص عودتها من جديد في الانتخابات القادمة، إذ تحاول أن
تستغل الفرصة بصعود ترامب للسلطة لتحقيق مكتسبات تاريخية، فإن بنك الأهداف
العسكرية المتاحة أمام حكومة اليمين الإسرائيلية قد يبدو مليئا، ويمكنها أن تصعد
في الساحة العراقية أو في الضفة الغربية أو حتى تجاه تركيا؛ التي تتحسس الخطر
والأطماع الصهيونية وعدم الثقة بالحليف الأمريكي غير المنضبط، والذي يمكن جره من
حكومة اليمين الصهيونية بسهولة إلى ساحات حرب غير متوقعة وكارثية على استقرار
المنطقة، كل ذلك سوف يمنح حكومة اليمين الإسرائيلي مزيدا من الوقت للاستمرار
والبقاء في السلطة حتى الانتخابات المقبلة في خريف العام القادم.
فيما يبدو أن استقرار السلطة في إيران لن يكون بتلك السهولة، فالفجوة بين
الرئاسة الإيرانية والحرس الثوري الإيراني آخذة في التوسع، وشرعية البقاء في
السلطة القائمة على الشرعية الدينية قد أخذت في التآكل منذ سنوات، وشهدنا تلك
الاحتجاجات الشعبية الكبيرة في وجه السلطة الدينية. وفيما يتعلق بشرعية عداء
ومقاومة إسرائيل وأمريكا والتصدي لها فقد كشفت الحرب الأخيرة ضعف السلطة في هذا
الملف، في ظل الخسارة الكبيرة والفادحة التي لحقت بإيران رغم محاولات السلطة
الدينية إظهار الأمر وكأنه نصر حققته السلطات الإيرانية؛ بعد أن نجحت في ضرب تل
أبيب وضرب قواعد أمريكية في قطر والعراق لإظهار قدرتها على الرد وحفظ ماء الوجه.
صحيح أن أمريكا أعلنت أنها لا تسعى لإسقاط النظام، لكن الخسارة الظاهرة التي
تعرضت لها إيران في حربها الأخيرة مع وجود معارضة خارجية متحفزة ومعارضة داخلية
واسعة حتى من داخل النظام؛ سيكون لها ما بعدها على شرعية السلطة، وقد نشهد تطورات
سياسية كبيرة في داخل النظام الإيراني خلال المرحلة القادمة، لكن ليس بالضرورة تغيير
النظام الديني بالكامل، بل قد يكون في تغيير البنية وشكل النظام السياسي القائم
بما يقلص من السلطة الدينية لصالح الحكم المدني، فإيران قد تكون مقبلة على
استحقاقات داخلية كبيرة.
قد نشهد تطورات سياسية كبيرة في داخل النظام الإيراني خلال المرحلة القادمة، لكن ليس بالضرورة تغيير النظام الديني بالكامل، بل قد يكون في تغيير البنية وشكل النظام السياسي القائم بما يقلص من السلطة الدينية لصالح الحكم المدني، فإيران قد تكون مقبلة على استحقاقات داخلية كبيرة
(3) ما
بعد الحرب كيف يبدو وجه المنطقة
لا شك أن السابع من أكتوبر كان منعطفا سياسيا كبيرا، لكن الحرب الإيرانية
الإسرائيلية وما تمخضت عنه من نتائج قد تكون أهم حدث سياسي في المنطقة منذ مطلع
القرن، إذ سيترتب عليها نتائج سياسية كبيرة تتشكل ملامحها بالتالي:
- انكفاء إيراني داخلي: إذ ستعود إيران إلى
الحالة التي كانت عليها قبل عام 2003، فالتمدد الإيراني في المنطقة الذي انطلق منذ
سقوط النظام العراقي السابق والسماح الأمريكي في عهد باراك أوباما لإيران بأن
تتمدد في المنطقة قد انتهى مع نهاية هذه الحرب وبدأ العد العكسي، إذ سنشهد تراجعا
إيرانيا كبيرا في لبنان وما يترتب عليه من نتائج كبيرة على حزب الله، الذراع
العسكري لإيران في لبنان، مما سيدفع الساحة اللبنانية إلى صراعات سياسية كبيرة
عنوانها نزع سلاح حزب الله وتحوله إلى حزب سياسي.
-
في الساحة العراقية: سوف تصبح استمرارية
المليشيات العراقية على المحك في المرحلة القادمة، وسوف نشهد تراجعا ملحوظا لأحزاب
الإسلام السياسي الشيعي، وقد يُستثنى من ذلك التيار الصدري الأقل قربا بعض الشيء
من الخط الإيراني، وسوف نشهد تحولات في التحالفات السياسية المدنية العراقية وبداية
تحولات في العملية السياسية قد تغير شكل النظام السياسي في الزمن البعيد أو
المتوسط، لتصبح العراق دولة مدنية متحررة من الهيمنة الإيرانية وأذرعها داخل
الدولة العراقية.
-
فيما يبدو أن اليمن مقبل على مرحلة سياسية جديدة ومضطربة قد تعيد
الحالة إلى مرحلة ما قبل الربيع العربي، فحالة الاستعصاء الحوثي في اليمن سوف تبدأ
في التحلل مما قد يساهم في تحولات عسكرية وأمنية وسياسية كبيرة في المرحلة
القادمة، خاصة بعد حالة الرغبة في التقارب التي أبداها الرئيس الإيراني مباشرة بعد
انتهاء الحرب واتصاله مع ولي العهد السعودي والرئيس الإماراتي، مما قد يفتح الباب
لإعادة ترسيم العلاقة مع جاراتها العربية ونفوذها في المنطقة.
-
الساحة السورية سوف تصبح أكثر استقرارا خاصة في ملف محاولات
انفصال مدن الساحل التي دعمتها إيران، فتراجع الدور الإيراني وانحساره في المنطقة يعني
قطع الطريق بالكامل على محاولات الانفصال في الساحل السوري.
-
إلا أن المشكلة الكبيرة أنه سوف نشهد حالة من العلو لحكومة اليمين الإسرائيلي، مما يعني أننا سوف نشهد تصعيدا إسرائيليا كبيرا في الضفة الغربية، وسيتم
السعي الإسرائيلي الحثيث لضم المنطقة (ج) التي تضم الغور الأردني وتشكل 61 في
المئة من مساحة الضفة الغربية، وسيعود للواجهة الحديث عن التهجير من غزة. وسيكون
الأردن في عين العاصفة والصراع مع حكومة اليمين الإسرائيلي، وستشهد القضية
الفلسطينية تطورات كبيرة ضد مصالح الشعب والدولة الفلسطينية. وسوف تسعى إسرائيل
لبدء مرحلة تطبيع جديدة مع الدول العربية رغم ظهور ملامح موقف عربي (الأردن،
السعودية، مصر، قطر، الإمارات) موحد من ضرورة الاعتراف بدولة فلسطينية، وهذا يعتمد
على قدرة الدبلوماسية والعلاقات الخارجية العربية في إحداث خرق سياسي ودبلوماسي مع
أمريكا؛ يوقف الأطماع المجنونة لحكومة اليمين الإسرائيلي المتطرفة. بذات الوقت سوف
نشهد احتكاكات سياسية متوسطة الخشونة بين تركيا وحكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف.