هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نعم، في تونس نصارع جبلا من الفساد ولا نفلح في هدمه. فنحن نهاجمه بقادوم، والجبل لا يهدم بقادوم إلا في القصص. أما في الواقع، فنحن أقمنا الأحد (10 آذار/ مارس) جنازة 11 طفلا رضيعا قتلهم الفساد في مستشفى عمومي متخصص في الولادات ورعاية الأمومة. كيف حصل ذلك؟ وهل ستكون الحادثة الأخيرة؟ لا معنى للسؤال الأول، فستجد الحكومة تبريرا لا ينفذ لعقول الناس لكنه صيغة رسمية، أما السؤال الثاني فسنشهد جنازات أخرى في مواقع أخرى؛ لأن الفساد في كل قطاع أقوى من كل جهد رسمي وشعبي. من أفسد البلد؟ هذا سؤال فلسفي يمكن أن نعيد صياغته: من لم يساهم في إفساد البلد؟
الجميع مسؤول بلا استثناء
ما من قطاع إلا وفيه فساد، وما من درجة في الإدارة إلا وهي ضالعة في فساد ما، حتى أنني أجد حيرة في تحديد نقطة بداية للحديث عن الفساد في تونس. لنبدأ بقطاع واحد، وليكن قطاع الصحة، إنه فاسد. لكن من أين نبدأ التوصيف؟ في الدرجة الدنيا يوجد ممرض غير مهتم بصحة مرضاه، ويتعلل بنقص الأدوات. وفي مشاف كثيرة يتعرض المرضى للضرب إذا أزعجوا ممرضا أو قيّما على جناح. أغلب ممرضي القطاع العام في المدن الكبرى يشتغلون دواما ثانيا سريا (غير مصرح به لأنه يُمنع الجمع بين وظيفتين)، وكل وقته يُمنح للدوام الثاني في القطاع الخاص لأنه أرفع أجرا.
في الدرجة الأعلى يوجد طبيب الصحة العامة الذي يتغيب عن واجبه بحجة ضعف الأجر، فهو يقارن نفسه بطبيب في فرنسا. نفس هذا الطبيب إذا ارتقى في سلم الطب يستعمل المستشفى العمومي لحسابه الخاص، ويتخذ له بطانة من الممرضين وحراس المؤسسة وعاملات النظافة يرتبون مواعيد المرضى على وقته الخاص، ولو جاء المريض في الوقت العام. فمن المعتاد أن تُمنح موعدا لاستئصال الزائدة الدودية بعد عامين، ولكن إذا قبلت العلاج الخاص في المشفى العام فإنك تبيت معافى، ولكن ادفع أولا حتى إذا مت في العملية كان الطبيب قد أخذ أجره.
هذا الفساد الصغير.. أما الفساد الكبير فيستهدف الصحة العامة برمتها لتفكيك بنيتها وتحويل مواردها إلى القطاع الخاص. رأس المشفى العمومي مطلوب من قبل المستثمرين في الصحة، وهم ليسوا من أهل الاختصاص الطبي، ولكنهم أقرب إلى مستثمري السياحة، وكل ما يسيء إلى الصحة العمومية مرحب به؛ لأنه يقطع الرجاء منها ويدفع الناس إلى المصحّات، فمن لم يجد كلفة المصحة مات.
الفساد الكبير يستهدف الصحة العامة برمتها لتفكيك بنيتها وتحويل مواردها إلى القطاع الخاص. رأس المشفى العمومي مطلوب من قبل المستثمرين في الصحة، وهم ليسوا من أهل الاختصاص الطبي، ولكنهم أقرب إلى مستثمري السياحة
الحكومات التي تتالت بعد الثورة وقفت عاجزة، وأغلبها متواطئ مع الفساد؛ يخدمه ويستفيد منه، رغم الخطاب المرتفع ضد الفساد، إذ هو مدخل إلى الوزارة، كما دخل علينا بذلك الشاهد
إحدى أدوات الفشل هي النقابات، والمثال الصارخ على ذلك هو شركة الطيران الوطنية والمطارات، فتونس صارت علامة على سرقة الحقائب في المطارات، والنقابة تدافع عن لصوص الحقائب.. النقابات منعت مقاومة الفساد واستفادت من الفاسدين
تواكُلُ المعارضة التونسية على الغرب.. إعادة إنتاج العجز في خطاب جديد