ملفات وتقارير

بين حماية الفضاء الرقمي وحرية التعبير.. كيف نفهم اعتقالات صُنّاع المحتوى بالمغرب؟

حملة واسعة في المغرب طالت مشاهير التواصل الاجتماعي - جيتي
وجد عدد من صانعي المحتوى المغاربة، خلال الأسابيع الأخيرة، أنفسهم، في قلب عاصفة قانونية غير مسبوقة؛ اعتقالات متتابعة، ومحاكمات عاجلة، ونقاش محتدم بخصوص ما إذا كانت هذه الإجراءات بمثابة "تنظيف للفضاء الرقمي" أم تضييق على حرية التعبير؟.
 
بين هذين الخطّين، باتت جُملة من الأسئلة تتسلّل إلى رواد التواصل الاجتماعي المغاربة، وبينهم صحافيون وصنّاع محتوى، من قبيل: من يرسم حدود المحتوى المقبول؟ ومن يقرّر ما إذا كان منشئ المحتوى يسيء أم أنّه يمارس حقا دستوريا مكفولا في التعبير؟

ما خلفية موجة الاعتقالات؟

الحكاية انطلقت مع تداول عدّة مقاطع فيديو وُصفت بـ"المسيئة" أو "المحرّضة"، تعود إلى مؤثّرين يوصَفون عادة بـ"التافهين". لكن ما كان يبدو في البداية حوادث متفرقة، سرعان ما بات حملة واسعة شملت أشخاصا من مناطق ومدن مختلفة، ومعظمهم غير معروف في المجال الإعلامي التقليدي.

وفي خطوة وصفها البعض بكونها "الأوسع منذ صعود المؤثرين"، شنّت السلطات المغربية حملة اعتقالات استهدفت مشاهير منصة "تيك توك" على خلفية بلاغات تتهمهم بنشر محتوى خادش للحياء، والتشهير، والترويج للمخدرات والدعارة، والاتجار بالبشر.

ومن أبرز هؤلاء: المؤثر المعروف بـ"مولينكس"، إلياس المالكي، وآدم بنشقرون ووالدته، إضافة إلى المؤثرة المعروفة إعلامياً بـ"أغلى طلاق". فيما تواجه هذه الشخصيات تهما متعددة، بينها الاتجار بالبشر، الإخلال بالحياء، التحريض على الفساد، ونشر محتوى مُضر بالقيم الأخلاقية. كما أُحيلت بعض الحالات إلى جلسات محاكمة عاجلة وسط متابعة إعلامية واسعة.



ووفق مصادر قانونية لـ"عربي21"، فقد أُحيلت العديد من الملفات إلى المحاكمة بتهم تتراوح بين "الإساءة إلى مؤسسات"، و"إهانة موظفين عموميين"، و"نشر محتوى غير لائق". وعلى الرغم من اختلاف الحالات، فإنّ الرّابط الأساسي بينها هو تزايد مراقبة ما يُنشر في الفضاء الرقمي.

في المقابل، أشار حقوقيون إلى أنّ: "المعايير التي تحكم هذه التدخلات ليست واضحة"، وأنّ: "تعدد القوانين المستخدمة في المتابعات (قانون الصحافة، القانون الجنائي، قانون محاربة العنف الرقمي..) يجعل الحدود ملتبسة ويمنح السلطات هامشاً واسعاً للتأويل.

كيف يرى الحقوقيون المعايير القانونية الحالية؟

في حديثه لـ"عربي21" أوضح رئيس "العصبة المغربية لحقوق الإنسان"، عادل تشيكيطو، أنّ: "هناك بالفعل حاجة حقيقية لتنظيم الفضاء الرقمي، لأن المحتوى أصبح مؤثرا بشكل مباشر على الرأي العام، وأحيانا يُستغلّ في الابتزاز والتشهير والتضليل، وفي تمرير رسائل للأجيال أو المسّ بالفضاء العام وقد تؤدي في بعض الحالات إلى تهديد الاستقرار النفسي والاجتماعي والأمني أيضا".

"الدستور المغربي من خلال الفصل 25 أكّد أن حرية التعبير مكفولة إلا أن القانون الجنائي الذي يعدّ اليوم مدخلا لكبح هذه الحرية، يتضح اليوم أنه صيغ ليكون قابلا للتفصيل على مقاس كل متهم من قبل الادعاء" بحسب تشيكيطو.

أما بخصوص من يحدد اليوم معنى الإساءة والمحتوى غير اللائق؟، أجاب تشيكيطو بالقول: "القوانين سبق وأن ذكرت فيها مقتضيات عامة تتحدث عن "السب"، "القذف"، "الإساءة إلى المؤسسات"، "المس بالأفراد"، لكن أغلب هذه المفاهيم فضفاضة بطبيعتها، وتحتاج لتفسير دقيق من جهات مستقلة، كما أن تعريف "الإساءة" و"غير اللائق" وبعض المضامين الجنائية يخضع أحيانا لقراءات متباينة بين جهة قضائية، وأخرى بين فاعلين رسميين وحتى بين المواطنين".

وتابع بالقول إنّ: "هذا الغموض هو أخطر ما في الموضوع، لأنه يفتح الباب لاجتهادات موسعة، ويجعل المواطن وصانع المحتوى لا يعرف أحيانا أين يبدأ الحق في النقد وأين ينتهي، وأي جملة يمكن أن تضعه أمام القضاء"، مستطردا: "يُصاب الناس بالخوف من التعبير، يبدأ الرأي الواحد في الهيمنة، وتتراجع الجرأة، وينكمش التنوع؛ والمجتمع الذي لا يُسمع فيه سوى صوت واحد، أو أصوات متشابهة، هو مجتمع مهدد بفقدان توازنه".

وختم قائلا: "نعتقد أن الحل ليس في المتابعات المكثفة، التي لم نعد نعرف من له الحق في ممارستها كسلطة خاصة، ونفاجأ بين الحين والآخر أن من يمارسها هم جمعيات تقول إنها تتبنى منطق الغيرة على الحياء العام وتتولى تطهير الفضاء الرقمي من التفاهة، على حد تعبيرهم"، مردفا: "الحل ليس في كثرة المتابعات والتصفية المعنوية وإنما في في اعتماد سياسة متوازنة تتجلى في حماية الفضاء الرقمي من الانحرافات، وفي نفس الوقت حماية حرية التعبير من أن تتحول إلى ضحية جانبية".

بين شهرة سريعة ومصيدة قانونية

تشير دراسات اجتماعية إلى أن غالبية صانعي المحتوى الذين يواجهون مشاكل قانونية يأتون من فئات اجتماعية بسيطة، وأنّ أغلبهم غير مكوّن مهنيا، ما يجعلهم عرضة لارتكاب أخطاء قد تُجرّم قانونا دون وعي منهم.

وتسبّبت هذه التحركات القضائية في جدل كبير بين من يعتبرها بداية لضبط "الفوضى الرقمية" وبين من يراها تقييدا لحرية التعبير. وجاء توقيت هذه الاعتقالات متزامنا مع مشاريع قوانين جديدة تنظّم المحتوى الرقمي، ما يعزز فرضية أن الدولة المغربية تسعى إلى ضبط الفاعلين الجدد الذين صاروا ينافسون الإعلام التقليدي.



وفي توضيحه لـ"عربي21" قال الصحفي المغربي، محمد تغروت: "في الواقع تصعب الإجابة بشكل قطعي وجازم عن النوايا والخلفيات المحركة للاعتقالات والمتابعات الجارية في الآونة الأخيرة لعدد من صناع المحتوى، وعما إذا كانت هناك رسالة غير مباشرة للصحفيين والنشطاء الحقوقيين، غير أنه لا يمكن إنكار وجود بعض المؤشرات الميدانية التي تدعم هذا الطرح بقوة، حيث يبدو أن السلطات تتجه نحو "تنميط" النشر الرقمي قانونيا".

وأضاف تغروت بالقول: "تُعد حالة الصحفي حميد المهدوي دليلا مرجعيا؛ إذ تمت محاكمته بمقتضيات القانون الجنائي بصفته "صانع محتوى" (يوتوبر) وليس بقانون الصحافة والنشر، رغم صفته المهنية. هذا التحول يفرغ قانون الصحافة من محتواه الحمائي، ويرسل إشارة بأن "المنصة" (يوتيوب/ فيسبوك) هي التي تحدد القانون الواجب التطبيق، وليس "الصفة المهنية" للناشر، ما يجعل الصحفيين عرضة لعقوبات سالبة للحرية تحت طائلة فصول فضفاضة".

وفي جوابه على سؤال: "هل الهدف محاربة "التفاهة" أم تقييد حرية التعبير؟" قال تغروت لـ"عربي21": "يصعب تصديق سردية "محاربة التفاهة كهدف"، إذا استحضرنا أن المعنيين بالأمر ليسوا حديثي العهد بالنشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وأيضا استحضار واقعة اعتقال الرابور "بوز فلو" (جواد أسرادي) تُعقّد سردية "محاربة التفاهة" وتدفع نحو فرضية "الضبط والتقييد".

"وفقا لما تداولته عدد من المصادر الإعلامية من اللجوء إلى الأثر الرجعي والنبش في الماضي، حيث تمت مساءلة الرابور عن أعمال تعود لـ 8 سنوات خلت، وبعضها نُشر وهو قاصر، ما يوحي بأن الهدف قد يكون تحجيم "المؤثرين" الذين يملكون قواعد جماهيرية ضخمة، بغض النظر عن راهنية المحتوى" استرسل الصحافي المغربي نفسه.

وتابع: "نحن إذن أمام مشهد لا يمكن فيه الجزم بالنوايا المطلقة، لكن الوقائع تشير إلى منهجية قانونية جديدة تتعامل مع "التأثير الرقمي" كخطر كامن، وتستخدم القانون الجنائي كأداة للردع، سواء كان الفاعل ينشر ما اصطلح عليه بـ"التفاهة"، أو فنانا ناقدا، أو صحفيا مهنيا، مع احتمال السعي إلى تكريس هذا النهج في التعامل مع المحتوى الصحفي". 

وختم بالقول: "حتى لو افترضنا أن النوايا المعلنة (حماية الأخلاق) قد تكون صادقة في جزئية معينة وتلبي طلبا مجتمعيا، لكن الآليات المستخدمة (القانون الجنائي، الاعتقال الفوري) تؤسس لبيئة قانونية هشّة تهدد جوهر حرية التعبير والصحافة الجادة على المدى البعيد، غدا أو بعد غد ستكون هناك سوابق ولن تكون هناك حاجة لتبرير اعتقال أي شخص مهما كانت صفته بمجرد التعبير عن رأي مزعج أو مختلف".

وفي السياق نفسه، وجّهت جمعية "أطاك المغرب" تحذيرا ممّا اعتبرته: تراجع حرية التعبير والتنظيم في المغرب، مع تصاعد القمع السياسي في السنوات الأخيرة، ليطال الصحافيين والفنانين وشباب "جيل زد".



وأبرزت الجمعية عبر بلاغ لها، وصل "عربي21" نسخة منه، أنّ: "قطاع الإعلام يشهد تحكما متزايدا للرأسمال في الخطوط التحريرية والمحتوى، واستحواذ دوائر مالية نافذة على الدعم العمومي، ما يؤدي إلى توجيه محتوى المؤسسات الإعلامية ويجعل الهيئات التنظيمية، بما فيها المجلس الوطني للصحافة، عاجزة عن حماية المهنة وضمان استقلالية الصحافيين". 

وتابعت: "بعض المؤسسات التنظيمية قد تتحول إلى جزء من البنية الضاغطة، كما تجلى في عمل "لجنة الأخلاقيات" التي تستخدم آليات التأديب لإسكات الصحافيين" استرسل البلاغ نفسه، منتقدا توسّع القمع ليشمل محاكمات الصحافيين، ملاحقة الفنانين، خاصة مبدعي موسيقى الراب، واعتداءات على احتجاجات شباب "جيل زد" السلمية، التي واجهت بالقوة والاعتقالات والمتابعات القضائية الثقيلة.

ونبهت الجمعية إلى: "حملة الاعتقالات العشوائية لصُنّاع المحتوى تحت ذريعة التطهير الأخلاقي"، معتبرة أنّ: "هذا الخطاب يُوظّف لإضفاء شرعية زائفة على القمع وتحويل النقاش العمومي من مساءلة ممارسات مؤسسات الدولة إلى التركيز على سلوكيات فردية".

ولا يزال النقاش مفتوحا على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب، والأسئلة لا زال بارزة، بينها: هل يشهد المغرب فعلا "تنظيفا" للفضاء الرقمي، أم أنّنا أمام لحظة إعادة تعريف لحدود القول والصمت في العصر الرقمي؟.