قبيل الاتفاق على وقف إطلاق النار في
غزة، دخلت
تركيا بشكل أكثر عمقا على
خط الوساطة بخصوص الحرب على غزة، وكانت من بين الدول العربية والإسلامية الثماني
التي اجتمعت مع ترامب في نيويورك قبل إعلان خطته، ثم دعمتها بعد إعلانها، لتكون
إحدى الدول الضامنة للاتفاق في قمة شرم الشيخ.
قبيل الاتفاق، ساهمت أنقرة في "إقناع حماس" بالموافقة على خطة
ترامب، أو عدم معارضتها علنا على أقل تقدير، على ما صرح الرئيس الأمريكي وأكد
نظيره التركي، حيث أسبغ الأول على الثاني إطراء ملموسا في شرم الشيخ.
من هذا المنطلق، حضر اسم تركيا ضمن الدول المرشحة للمشاركة في
القوات
الدولية التي ستتواجد في قطاع غزة، "قوة الاستقرار الدولية" وفق تسمية
خطة ترامب. وقد أبدى أكثر من مسؤول تركي، في مقدمتهم أردوغان، استعداد بلادهم لأي
مسؤوليات أو أدوار في قطاع غزة وفق الاتفاق. بيد أن تقارير إعلامية نقلت عن نتنياهو
قوله إن "الوجود الأمني التركي في غزة خط أحمر" بالنسبة لـ"
إسرائيل"،
وذلك في حضور نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس.
تريد حكومة الاحتلال من أي قوات تتواجد على أراضي القطاع أن تكون عامل ضغط على الجانب الفلسطيني، وتعمل أمنيا وعسكريا ضده، من حيث التفكيك ونزع السلاح وكشف الأنفاق، ما ينذر بإمكانية حصول مواجهة بينهما
يتعلق ذلك بالرؤية "الإسرائيلية" للاتفاق والمرحلة الحالية منه
على وجه التحديد، حيث تريد أن تحقق من الخطة ما لم تستطع تحقيقه من مكاسب في
الميدان بالقوة العسكرية المفرطة، وإدامة الضغط على حماس والفصائل الفلسطينية.
ولذلك فهي تتنصل علنا من الكثير من التزاماتها وفق الاتفاق وتستمر في خرقه قصفا
واغتيالا، بذريعة وبدونها.
وفق هذه الرؤية، تريد حكومة الاحتلال من أي قوات تتواجد على أراضي القطاع
أن تكون عامل ضغط على الجانب الفلسطيني، وتعمل أمنيا وعسكريا ضده، من حيث التفكيك
ونزع السلاح وكشف الأنفاق، ما ينذر بإمكانية حصول مواجهة بينهما. وبالتالي فإن
تواجد دول ليست على علاقات متوترة وخصومة مع حماس على وجه التحديد، فضلا عن أن
تكون على علاقات جيدة معها، ليست محل ترحيب من "إسرائيل"، وهو ما ينطبق
على أنقرة.
يضاف لما سبق، أي العلاقة مع حماس والدور الذي يريده الاحتلال من القوات
الأجنبية، حالة التوتر بين "إسرائيل" وتركيا خلال الحرب، بسبب موقف
الأخيرة من حرب الإبادة، وإعلان وقف التعامل التجاري مع "إسرائيل"،
والمشاركة في قضية الإبادة أمام محكمة العدل الدولية، وغير ذلك من السياقات. ومما
زاد في حالة التوتر والخصومة بينهما، تناقض مصالحهما ومواقفهما في سوريا والتنافس
الشديد بينهما هناك، لدرجة أن نتنياهو ووزراءه لم يتورعوا عن الإعلان عن أن بعض
القصف في سوريا كان يستهدف أدوارا و/أو أصولا تركية (عسكرية وأمنية)، فضلا عن التصريحات
بالاستعداد لدعم قوات سوريا الديمقراطية في مواجهة أنقرة.
يرجّح كل ما سبق أن الخط الأحمر "الإسرائيلي" بخصوص التواجد
العسكري التركي في قطاع غزة حقيقي، لكن هل يعني ذلك أنه نافذ ونهائي بالضرورة؟
يتضح من إعلان خطة ترامب وما بعدها بأن الإدارة الأمريكية صاحبة القرار
النهائي فيما يتعلق بتطبيقها، وإن كانت تراعي مصالح "إسرائيل" في المقام
الأول، لدرجة أن بعض أقطاب المعارضة في الأخيرة تغمز من قناة نتنياهو بالقول إنها
أصبحت "دولة منقوصة السيادة".
في رد الفعل الأوّلي من الإدارة الأمريكية، قال نائب الرئيس فانس بأن
موافقة "إسرائيل" على أي قوات ستدخل غزة ضرورية، وأن بلاده لن تفرض
عليها وجود من لا توافق عليه. ثم أكد وزير الخارجية مارك روبيو بأن بلاده
"تعطي إسرائيل دورا في تشكيل قوة حفظ السلام الدولية في قطاع غزة"،
مشيرا إلى أن هذه القوة ينبغي أن تتكون من دول "تشعر إسرائيل بالارتياح
لها"، دون أن يسمّي أيا منها.
يوحي ذلك بتأييد أمريكي للفيتو "الإسرائيلي" بخصوص مشاركة أنقرة،
بيد أن تصريحات أخرى للسفير الأمريكي في تركيا ومبعوثها الخاص لكل من سوريا ولبنان،
توم باراك، أوحت بأن ذلك ليس موقفا نهائيا. فقد استبعد باراك حصول حرب بين تركيا
و"إسرائيل"، مرجحا خلال مشاركته في "منتدى المنامة 2025؛ أن
"نرى اتفاقا تجاريا بينهما قريبا، في حال استمر الزخم واستمرت فرق العمل في
التقدم",
يوحي ذلك بأن واشنطن، الداعمة للخط الأحمر "الإسرائيلي" بخصوص
تواجد تركيا عسكريا في غزة، تشترط ضمنا تحسين العلاقات بين الجانبين للضغط لتغيير
موقف حكومة الاحتلال، وهنا يتبدى سياق "الاتفاق التجاري" الذي تحدث عنه
باراك، بالنظر لإعلان أنقرة سابقا وقف التعامل التجاري مع "إسرائيل".
الفيتو "الإسرائيلي"، ولا سيما في المرحلة الحالية، أمتن من أي وساطة أمريكية أو مرونة قد تبديها تركيا بخصوص العلاقات مع "إسرائيل" مستقبلا، لأن الأخيرة ما زالت -وستبقى لأمد غير قصير- تنظر لأنقرة من زاوية العداوة والتنافس لا التنسيق والتعاون
بيد أن هناك عائقا أكثر أهمية وثقلا في المشهد من الشرط الأمريكي المحتمل،
على أهميته، وهو طبيعة القوات التي يفترض تواجدها في غزة والمهام المنوطة بها. ذلك
أن خطة ترامب تتحدث عن "قوات الاستقرار الدولية" دون الكثير من التفصيل
بشأن تركيبتها والمهام المطلوبة منها والدول التي ستشارك فيها.. الخ، ما يترك
الأمر مفتوحا على عدة تفسيرات ورغبات.
تريد "إسرائيل" لهذه القوات أن تواجه المقاومة الفلسطينية
وتكافحها كما سبق تفصيله، بينما تقول الفصائل الفلسطينية إن المطلوب منها
"مراقبة وقف إطلاق النار والفصل" بين الجانبين، ويتحدث محسوبون عليها عن
"قوات أممية" وليس "دولية"، بمعنى أن يكون غطاؤها قرارا من
مجلس الأمن؛ لا وفق قرار وتنسيق أمريكي.
البُعد الأخير يبدو أكثر اتساقا مع مواقف بعض الدول العربية والغربية، مثل
مصر والأردن وألمانيا، التي أكدت أنها تريد للقوات الدولية أن تحصل على قرار
وتفويض من مجلس الأمن الدولي، ما يعني نصا وتفصيلا بخصوص تركيبة القوات ومهامها
ومسؤولياتها وطبيعة عملها. وهذا الملمح الأخير قد يساعد أنقرة على تخطي الفيتو
"الإسرائيلي"، لكن ذلك قد يفتح الباب على وساطة أمريكية من نوع ما لجسر
الهوة بين الجانبين.
رغم ذلك، ما زلنا نظن أن الفيتو "الإسرائيلي"، ولا سيما في
المرحلة الحالية، أمتن من أي وساطة أمريكية أو مرونة قد تبديها تركيا بخصوص
العلاقات مع "إسرائيل" مستقبلا، لأن الأخيرة ما زالت -وستبقى لأمد غير
قصير- تنظر لأنقرة من زاوية العداوة والتنافس لا التنسيق والتعاون.
x.com/saidelhaj