كتاب عربي 21

"شركة الإبراهيمية" للتطبيع والخدع المحدودة

"من غايات الدين الإبراهيمي تصفير عداد جرائم المحتل"- جيتي
إذا أحسنّا وصف بدعة الإبراهيمية السياسية المحدثة، لقلنا إنها علمانية متنكرة بالعمامة واللحية، أو هي إعادة خدعة حصان طروادة، ليس في هيئة شاة مثل شاة يعقوب التي انتزع بها ولاية العهد من أخيه البكر عيصى، إنما هي هذه المرة خدعة في كسوة راهب أو عباءة شيخ، أو هي في ثلاثة معابد متجاورة غير متحاورة: مسجد محاصر بين كنيسة وكنيس.

سُميت إبراهيمية نسبة إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لكنه منها براء. إن دعوى الاتفاقات الإبراهيمية التي وقعتها أربع دول عربية، هي دعوى علمانية، بل هي نمرودية؛ النمرود سيأتي متنكرا في هيئة إبراهيم عليه السلام، وكان النمرود هو الذي قذف إبراهيم في النار بالمجانيق، والذي يقذف أتباع إبراهيم بالنار في غزة بالمجانيق الطائرة.

كان في ديار المسلمين كنائس وجوامع وصوامع، فالإسلام يقول: لكم دينكم ولي دين، وأحيانا في الساحة نفسها. الكنائس مفتوحة ليل نهار، ولا تزال، وقد دارت الأيام حتى رأينا بيوت العبادة من كنس وصوامع في ديار المسلمين أقدس من المساجد وأكرم، وأنّ ذِكر الإسلام أمسى مكروها، وأحيانا محرما في إعلام البعث السوري وعصر الأسدين في سوريا، وإعلام الجمهوريات العربية العلمانية المجاورة للدولة اليهودية، وأن المسلم كان يتجنب ذكر دينه خوفا على نفسه من تهمة الطائفية القاتلة، وكان التاريخ المحلل ذكره في الإعلام البعثي وأمثاله في الجمهوريات العربية هو تاريخ بعل وأوغاريت، أو بابل، أو الفراعنة، وهو تاريخ بعيد، أسطوري.

دعوى "كوكتيل" الأديان وخلطها ليست جديدة، فقد دعا كفار قريش الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الدعوة فقالوا: يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يدك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك، فقال: "معاذ الله أن أشرك به غيره"، فأنزل الله تعالى: "قل يا أيها الكافرون".. إلى آخر السورة. وفي سيرة عمر أنه لما زار بيت المقدس سأل كعب الأحبار: أين ترى أن أصلي؟ فقال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فكانت القدس كلها بين يديك، فقال عمر بن الخطاب: "ضاهيت اليهودية".

لإبراهيم صورتان متناقضتان في الإسلام والعهد القديم، ولن تجدي الدعوة الجديدة بنبش سيرته، فإذا نظر أحدكم تحت قدميه، أو حرك محركات البحث لوجد صورة لإبراهيم مختلفة عن صورته في التوراة: في القرآن الكريم يرد هذا الوصف له: "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفا مُسْلِما وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ". وفيه: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ". وفيه: "إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"، وكذلك: "أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَها وَاحِدا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ".

إبراهيم في الإسلام شجاع، صاحب دعابة، وكيد، وكان ابن بائع أصنام، يأخذ أصنام أبيه فيغرقها في البحر، أي يتلف مال أبيه، وقصة تحطيمه أصنام المعبد وجعلها جذاذا في يوم العيد، إلا كبيرهم، معروفة؛ "قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين، قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم، قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون، قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم، قال بل فعله كبيرهم، فاسألوهم إن كانوا ينطقون".

سبق إبراهيم ديكارت والغزالي في إنشاء مذهب الشك واصطناعه، وكان شجاعا، وإن أي بحث عنه في جوجل والذكاء الصناعي سيذكر للباحث هذه المشاهد، بل إن مناسك الركن الخامس في الإسلام مأخوذة عنه وعن زوجته، وأنه واجه وحده النمرود وقومه، وأُلقي به في النار، فما وهن ولا ضعف. وعلى هذا الحال يكون النظام البعثي أو العلماني الناصري أذكى من دعاة الإبراهيمية القادمين من أمريكا، فهي بضاعتنا البعثية والناصرية وقد ردت إلينا، ولكن مزجاة. كان شعار: الدين لله والوطن للجميع مرفوعا على النصب، وسيصير الشعار الجديد هو: الدين لله والإبراهيمية للجميع، ومن الأولى أن توقع الدول الغربية على الاتفاقات الإبراهيمية لا العربية، فالمساجد ممنوعة من إقامة الأذان في أوروبا إلا في حالات نادرة، وفي يوم الجمعة في مدينة واحدة أو مدينتين في عموم الغرب.

الغاية من الدعوة الجديدة هي "التضييع" الديني، والمساواة بين الأديان؛ الدنيا لنا والجنة للجميع، والجنة أمرها لله، يُدخل من يشاء في رحمته. ومن الصعب التسوية بين دينين أمميين ودين عرقي قومي، كأنها مسابقة: اختر الدين الصحيح من بين ثلاثة أديان.

ومن غايات الدين الإبراهيمي تصفير عداد جرائم المحتل، وجعل الإسلام بركن واحد يلوذ به. أما صورة إبراهيم التوراتية، فمناقضة لصورة إبراهيم المسلمين. سيجد الباحث أن أبراهام التوراة غير إبراهيم المسلمين، وإنه ليس نبيا عدلا، رحيما كاسمه (إبراهيم معناها: أب رحيم)، وأنه أب وافد من بلاد الرافدين إلى أرض كنعان، وحريص على زواج ابنه إسحاق من أهله وملته (يرفض الاندماج) لا من القوم الذين أكرموا وفادته، وأن سبب غضبه من ابنه إسماعيل هو زواجه من الأغيار، وأن ذرية النسب الموعود بالولاية، المكرم الذي سيحمل اسم إبراهيم، هو الذي ينسل من ذرية إسحاق ابن السيدة التي طلبت من زوجها تهجير زوجته، بعد أن سبقتها بالولادة، فإسماعيل هو البكر.

سترد قصة في التوراة حول مباركة إسحاق بن إبراهيم الأثير الذي رُبي في حضنه وعلى عينه؛ ليعقوب بدلا من عيصى توأمه، وهي من خدع يصعب على العقل العادل الاقتناع بها، فلا يمكن لنبي كريم أن يبيع ولاية العهد مقابل طبق طعام، وتشبه خدع الأفلام الهندية، وهي أن النبي يعقوب حصل على البركة مخادعة بشاة قرّبها لأبيه إسحاق وكان قد عمي، وكان يعقوب قد لبس جلد الشاة ليوهمه أنه عيصى، وسترد تفسيرات لفهم سبب عدم قدرة إسحاق على التراجع عن قراره بعد أن ظهرت له الخدعة، فالعودة عن الخطأ ليست فضيلة، فتبرر عن المفسرين اليهود بالإرادة الإلهية، وباستخفاف عيصى بحقه في ميراث البركة، وبيعه ولاية العهد لأخيه يعقوب مقابل طبق من العدس لأنه كان جائعا.

وثمة إشاعة مشابهة معاصرة تقول بأن الفلسطينيين باعوا أرضهم للصهاينة، وتسوغ باستهانة عيصى توأم يعقوب بقيمة الحق الروحي والعهد الإلهي، مما يبرر لاحقا حجب البركة عنه. وثمة تبرير آخر يسوقه علماء بني إسرائيل هو استهانته بشرائع التوراة وزواجه من نساء كنعان، من غير شعب إبراهيم وإسحاق، فحق عليه العقاب والنبذ وحرمانه من ولاية العهد وهو البكر، وأن الكلمة أو حق الفيتو سبق.

لذلك لا يُنصح بدعوة توقظ الذكريات وتبعث التاريخ، ويوصى بالعودة إلى أساليب الحكومات العربية العلمانية وشعار: الدين لله والوطن للجميع، ودع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، أو "الخطف خلفا"، الخلف البعيد، خلف طفولة الأقوام، كما فعل السيسي في افتتاح المتحف المصري الكبير بالعودة إلى ما قبل التاريخ، وعصر الطفولة الوثنية، أو بالعودة إلى الأب القرد، أبي البشر عند علمانيي الغرب وعلمائهم، ففتنة القرد دينية اعتقادية لا دينية تاريخية.

ننصحكم بالحذر من التاريخ فهو يوقظ الذكريات، وجلد الشاة لن ينفع الذئب.

أعطوا الخبز لقيصر ولو أكله كله، ودعوا ما لله لله.

x.com/OmarImaromar