ليس هناك جريمة كاملة، إذ لا بد أن يترك
المجرم، مهما أوتي من خبث ودهاء، أثرًا يدل عليه، هكذا يقول أهل النظر. لكن الإحصاءات الجنائية تقول إن نسبة المجرمين
الهاربين في الإحصاءات الجنائية في المدن الغربية، حيث ترتفع نسبة الجرائم، لا
تزال مرتفعة، وذلك بسبب أخطاء المحققين، والرشوة، والفساد، وكثرة الجرائم وليس
ذكاء المجرمين.
منذ سنتين، تقوم إسرائيل بقتل مئات
الفلسطينيين في
غزة والضفة بالطائرات والقنابل والتجويع. وقد وضعت طعومًا في مصيدة
"مؤسسة غزة الإنسانية" ـ التي وُصفت بالإنسانية ـ لقتلها أقل من مائة
يوميًا، وإلا ما استحقت هذه الصفة المحمودة الشماء، كما في أفلام التشويق
الأمريكية، لإمتاع المقاتلين، ودفع الملل عنهم وهم ناؤون عن الحبيب، أو هي للحد من
النسل الفلسطيني، ومعاقبة المقاتلين الغزيين، فالضحايا إنما هم ذووهم، ربما بغرض تحويل المعركة إلى حفلة تسلية. وهي
الجريمة الكاملة التي يقول العلماء إنها مستحيلة نظريًا، مع أن القاتل معلوم،
والقتل يتم بتقنية "الفار" كل يوم، والضحايا أطفال ونساء وشيوخ على مرأى
ومسمع العالم.
إنهم يقتلون ويصورون جرائمهم للمباهاة بها، بل وينبشون قبور ضحاياهم، وللنبش فوائد عليهم، أولها: إنكار الجريمة وإتلاف الأدلة. والثانية: أن المقبرة أثر وذكرى وملكية. والثالثة: الاستفادة من أعضاء الجثث ـ كلًى وعيونًا وقرنيات وجلود، وهو نوع من التناسخ. احتلوا وطن الفلسطيني، ولبسوا جلده، وعاشوا بكليّته.
إنهم يقتلون ويصورون جرائمهم للمباهاة بها،
بل وينبشون قبور ضحاياهم، وللنبش فوائد عليهم، أولها: إنكار الجريمة وإتلاف
الأدلة. والثانية: أن المقبرة أثر وذكرى وملكية. والثالثة: الاستفادة من أعضاء
الجثث ـ كلًى وعيونًا وقرنيات وجلود، وهو نوع من التناسخ. احتلوا وطن الفلسطيني،
ولبسوا جلده، وعاشوا بكليّته. كتبت قصص شهيرة عن فلسطيني عاش بهوية إسرائيلية
(غسان كنفاني)، وقصة أخرى بثياب إسرائيلي، لكن القصة التي يعيش فيها الإسرائيلي
بكلية فلسطينية وعين فلسطينية وجلد فلسطيني لم تُكتب بعد.
قديما، لم يكن هناك قضاة أو محامون أو
مرافعات، ولا قضاة بعباءات سوداء وشعور مستعارة لها جدائل ومطارق، وصائح يصيح بصوت
جليل: "محكمة". العدالة الغربية ـ كما تصور ـ مسرحية استعارها الغرب
لتحويل العدالة إلى عرض وفرجة.
يُقال عادة: لا توجد جريمة كاملة، إنما تحقيق ناقص، أو
عدالة شامخة. توجد حالات نادرة لجرائم كاملة دون أن يُكتشف الفاعل مما يجعلها
"جريمة كاملة". تُشير إحصاءات أمريكية إلى أن نحو نصف الجرائم العنيفة
تُحلّ بعد التحقيق، بينما تظل معظم جرائم الممتلكات (مثل التفجير والسرقة) دون
حلّ. ولا نجِد المجرم إلا في الأفلام البوليسية من أجل النهاية السعيدة.
لم تكن هناك اعذار محففة مثل المرض النفسي
قبلًا، فهي محدثة؛ فقد لطفت المحاكم بالمجرمين بذريعة المرض النفسي. خذ مثل
النرويجي أندرس بيرينغ بريفيك الذي قتل 77 فتى في معسكر صيفي؛ ومارك ديفيد تشابمان
الذي قتل جون لينون أمام شقته؛ وجيمس هولمز الذي أطلق النار في دار العرض بأورورا،
مما أسفر عن مقتل 12 وإصابة أكثر من 70؛ واد جين الذي قتل شخصين بوحشية؛ وديفيد
بيركوفيتش (Son of Sam) الذي ارتكب
سلسلة جرائم مروعة في نيويورك بين 1976 و1977. سنطلق على هذا القاتل، وصف القاتل
الضحية إلى أن نعثر له على وصف أولى.
المتهم البريء حبكة أثيرة في السينما. لكن
ما نشهده في غزة وسوريا حكاية منكوسة ومقلوبة، هي حكاية المجرم البطل، وهي أيضًا
حبكة غربية. ومثل هذا المجرم المعذور نشاهده في السينما أيضًا. السينما كتاب الغرب
المقدس.
إن أول قصة عن مجرم بطل، مجرم معذور، ظهرت
في فيلم M (1931)، حيث يقدم
المجرم كشخص مضطرب نفسيًا، يعاني من صراع داخلي، ويطلب الرحمة في نهايته. لقد
استميل الجمهور الغربي الذي يعطف على المريض النفسي ـ وهذه كذبة غالبًا، فتعاطف
المشاهد لا يكون مع أفعاله، بل مع ضعفه الإنساني وعجزه عن السيطرة على نفسه.
أما فيلم Scarface (1932)، فيقدم شخصية مجرم بطل وثائر ضد السلطة رغم
عنفه؛ شعر بعض المشاهدين بجاذبية لقوته وشخصيته. وانتشر مفهوم "المجرم
الكاريزمي". وفيلم They Made
Me a Criminal (1939)، ونسخته العربية جعلوني مجرمًا، حيث يتم
اتهام البطل ظلمًا، فيجعله خارجًا عن القانون. ويمكن أن يكون فيلم آل باشينو
"عصر يوم قائظ" رائدًا في مجال المجرم البطل، ثم تطورت الفكرة فأصبح كل
بطل له حظ من الجريمة، وابتدع علماء النفس مصطلحًا اسمه متلازمة ستوكهولم لتعذير
المتعاطفين مع المجرم.
لكن الغرب تجاوز المجرم البريء إلى رتبة
أخرى: القاتل المقدّس، بل المعبود، كما في رواية العطر لمؤلفها باتريك زوسكيند.
الناس جميعًا ركعوا لقاتل العذارى البريئات في العطر، بمن فيهم آباء الضحايا،
وآباء الكنيسة وخدامها طالبين من المجرم القاتل الغفران والعفو.
الغرب تجاوز المجرم البريء إلى رتبة أخرى: القاتل المقدّس، بل المعبود، كما في رواية العطر لمؤلفها باتريك زوسكيند. الناس جميعًا ركعوا لقاتل العذارى البريئات في العطر، بمن فيهم آباء الضحايا، وآباء الكنيسة وخدامها طالبين من المجرم القاتل الغفران والعفو.
هكذا تعرض الدول الأوروبية غزة في نشراتها
الإخبارية: أنس الشريف كان إرهابيًا متنكرًا في زي الصحافة، ابتسم مرة لزعيم حماس،
والمعروف أن الصحافي يقابل الأخيار والأشرار. لكن ضيفًا أمريكيًا من البيت الأبيض
على الجزيرة قال إن ابتسامته دلالة على تعاطفه مع حماس، فقتل ـ وقتل معه خمسة
آخرون، بينهم صحافيون لم يبتسموا لزعيم حماس، لا تذكر أسماؤهم، لأنهم أقل شهرة من
أنس الشريف، وتُرتكّب عشرات الجرائم من قبل المستوطنين يوميًا، في السلم والحرب.
لو بحثنا في التاريخ عن نسب المجرم المقدس،
سنجده في قصة المسيح، وسنجد الضحية التامة أيضًا، لقد عرفناه بريئًا مقدسًا، يموت فيُعبد لبراءته، ويُغفر للمجرمين أيضًا.
وامتدت القصة ألف وخمسمائة سنة حتى خرج مارتن لوثر، وبرّأ قتلتـه، فانتقل أتباعه
من عبادة الضحية إلى عبادة المذنبين المتهمين بقتله.
الفيلم الذي يُبث على الأخبار العالمية كل
يوم هو عن المجرم البطل الذي يكافح الإرهاب ويجازي السيئة بخمسين سيئة كما يقول
رئيس وزرائهم علنًا. قدمت جنوب أفريقيا الأدلة على جريمة الإبادة في محكمة العدل
الدولية، وهي جريمة أكبر من جريمة قتل فرد واحد، هي "إبادة جماعية"، لكن
إسرائيل ليست موقّعة على المحكمة الجنائية الدولية. وقد غضبت أمريكا، وهددت القضاة
ومنعت بعضهم من دخول أمريكا، وتلاحق آخرين بمنعهم من الوصول إلى أموالهم. هذه هي
الجريمة الكاملة، لكن ما بعد الجريمة الكاملة (مصطلح حداثي مشتق من المابعديات
والزمن) هي ملاحقة القضاء والضحايا لجرَأتهم على الشكوى. انكشفت سوأة إسرائيل
أخيرًا، لكنها ما تزال في "الجنة"، أو هي فيها إلى حين. والمؤمل أن
تنتهي أغرب قصة بوليسية في التاريخ، قصة: البريء المدنس، والمجرم المقدّس.
لقد كشف طوفان الأقصى السوأة، سوأة إسرائيل
وسوأة الشهود أمام العالم، وآن لها تنزل على الأرض.