العدل
أن تكون كل نفس مرتهنة بما كسبت، وألا يُؤاخذ البريء بذنب الظالم، وأن يُجازى المرء
بعمله؛ إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ. وقد بدت القوانين الغربية إنسانية في روحها، حتى
أنها من رأفتها بالمذنب أن كثيرا منها يرفض عقوبة الإعدام، وبعض سجونها أشبه بمراكز
تعليمية مقارنة بمدارسنا في بلداننا، التي لا تجد فيها مقاعد أو مدرسين أو عنوان!
قال ويليام
بلاكستون، الفقيه الإنجليزي في القرن الثامن عشر: "لأن يفلت عشرة مذنبين من العقاب
خير من أن يُعاقب بريء واحد".
وقد تأخر
بلاكستون عن حكمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: "ادرؤوا الحدود بالشبهات"
نحو 1200 سنة، وعن الإمام أبي حنيفة نحو ألف سنة، والذي قال: "لأن أُخطئ في العفو،
خيرٌ من أن أُخطئ في العقوبة".
الواقع
أن العدالة الغربية "في الداخل" غيرها في الخارج؛ حيث تُكال القضايا بمكيالين؛
لون المتهم ودينه وعرقه كثيرا ما يغيّر مصير المحاكمة. فما الذي اقترفه جورج فلويد
سوى أنه وُلد بلون أسود؟ وفي
جريمة أوسلو (2011) قتل أندرس بريفيك 77 شخصا، فحُكم عليه
بالسجن "الوقائي" 21 عاما فقط، بعد وصفه بالمختل عقليا.
العدالة الغربية "في الداخل" غيرها في الخارج؛ حيث تُكال القضايا بمكيالين؛ لون المتهم ودينه وعرقه كثيرا ما يغيّر مصير المحاكمة
"الدروع
البشرية".. حين يتحول الإنسان إلى وسيلة
من أبرز
صور معاقبة الأبرياء بأفعال غيرهم، ما يُعرف بـ"الدروع البشرية". وهي وسيلة
يُبرر فيها استهداف المدنيين، باعتبارهم أدوات تَحصّن بها العدو. بهذا المنطق، تحوّلت
المستشفيات والمدارس، بل والبشر أنفسهم، إلى "أضرار جانبية"، كما تصفها لغة
الحروب الحديثة.
وفي
غزة،
حيث الكثافة السكانية الأعلى عالميا، يقيم نحو مليونين ونصف المليون درع بشري، أو مليونين
ونصف "أضرارٍ جانبية". وقد قُصفت مشافي غزة، ومنها المشفى المعمداني، ومدارس
الأونروا لم تسلم من القصف رغم علامات الحماية الدولية. فهل يجوز -أخلاقيا أو قانونيا-
معاقبة مجتمع كامل بذريعة وجود مقاتلين فيه؟
القانون
الدولي بين النص والتأويل
تنص اتفاقيات
جنيف (1977) على أنه يجوز استهداف هدف عسكري إذا كان الهجوم مناسبا وخاليا من أذى كبير
للمدنيين، حتى لو استخدم الطرف الآخر دروعا بشرية. ومع مخالفتها تعاليم المسيح وبلاكستون
وبنجامين فرانكلين، فإن
إسرائيل تتجاهل هذه الضوابط، وتقصف المستشفيات والجامعات والمراكز
الأثرية عمدا، تحت "دريعة" الدروع البشرية!
وقد أكدت
محاكم جرائم الحرب الدولية (رواندا، يوغوسلافيا، ICC)
أنَّ استخدام الدروع البشرية لا يُبيح للطرف الآخر إطلاق العنان للقتل الجماعي. لكن
رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يعلن صراحة: "من
آذانا سنعاقبه بسبعة أضعاف الأذى الذي لحق بنا". وفي غزة،
بلغ العقاب نحو ألف ضعف.
والنتيجة؟
ضحايا بالمئات يوميا، بينهم ما معدله 27 طفلا كل يوم، وفق إحصاءات الأمم المتحدة. ثم
تخرج بعض الأصوات لتبرر ذلك بقولها: "لأن حماس تتخذهم دروعا بشرية"!
لكن من
يرد بالسؤال: هل يُجيز القانون قتل هذه الدروع؟ وما الحد المقبول من الدروع التي يسمح
بقتلها؟ بل ما تعريف الإرهاب أصلا؟
أصل الحكاية:
خطيئة آدم وظلم المسيح
ربما ترجع
جذور هذا المنطق إلى "الخطيئة الأصلية": حين طُرد الإنسان من الجنة بسبب
اقترابه من "شجرة الخلد". وقد اقترب أهل غزة من شجرة الحرية، فطُردوا من
جنان ديارهم، "وجنة المرء داره".
المفارقة
أن إسرائيل تشرع سيف التهمة بمعاداة السامية كلما اقترب أحد من محاسبتها، فكأن معاداة
السامية هي الخطيئة الثانية، وقد نسيت الخطيئة الأولى، بعد أن حملها المسيح و"صُلب"
بها، وتحمَّلت الأجيال اللاحقة ذنب أسلافها، حتى جاء مارتن لوثر ورفض هذه العقيدة،
فجلس اليهود مكان المسيح المصلوب، اليهود اليوم على الصليب في العين الغربية الرسمية.
ملخص الرواية:
اقترف أبو البَشر الخطيئة الأولى بأكله من الشجرة المحرّمة، فحُمّل وزرها وطُرد من
الجنة. ومنذ ذلك الحين، ورث أبناؤه هذا الإثم، وفق العقيدة المسيحية، وظلت البشرية
تحمل آثار هذه الخطيئة مئات السنين والأحقاب، حتى جاء المسيح، فدفع حياته على الصليب
كفّارة عنها.
ووفقا
للرواية الدينية، فإن المسيح صُلب بوشاية من بعض اليهود، وتحريضهم للرومان على قتله،
فصار فداؤه خلاصا للمؤمنين به. وفي العصور اللاحقة، حُمّل اليهود مسؤولية هذا "الذنب
الأعظم"، ولاقوا الاضطهاد والمطاردة في أوروبا، حتى بلغت ذروتها في المحرقة النازية،
حيث قُتل ملايين منهم، في أكبر فاجعة إنسانية ليهود أوروبا، فكأنهم حلوا محل المسيح
على الصليب.
وفي أعقاب
الحرب، نشأت سردية "الذنب الغربي" تجاه اليهود، فتعاطفت القوى الكبرى معهم،
وكان من نتائج ذلك أن دعمت بريطانيا إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، على حساب شعبٍ لم
يكن له أي يد في الجريمة الأوروبية الأصلية.
ثم جُرِّم
كل من يُشكك في عدد ضحايا المحرقة أو يقلل من هولها، فيما أُتيح النقد والسخرية من
المسيح نفسه أو التشكيك في سيرته في كثير من الأعمال الغربية السردية أو السينمائية
دون محاسبة.
من أبرز صور معاقبة الأبرياء بأفعال غيرهم، ما يُعرف بـ"الدروع البشرية". وهي وسيلة يُبرر فيها استهداف المدنيين، باعتبارهم أدوات تَحصّن بها العدو. بهذا المنطق، تحوّلت المستشفيات والمدارس، بل والبشر أنفسهم، إلى "أضرار جانبية"، كما تصفها لغة الحروب الحديثة
وهكذا،
أصبح اليهود في الوجدان الغربي "شعب الله المختار" مرة أخرى، يحرم انتقاده،
بينما يصُوِّر الفلسطيني المقاوم على أنه سبب الخطيئة الأصلية إضمارا؛ لأنهم يقاتلون
قوم المسيح ومن كانوا سببا في عفران ذنوب المسيحيين.
تكرار
الخطايا.. من العراق إلى غزة
العالم
الغربي لا يزال يُزر وِزر الآخرين. نذكّر:
غُزي العراق
بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، مع أن الفاعلين ليسوا عراقيين، وغُزيت أفغانستان ولم يكن
بين ضاربي البرجين أفغان!
دُمّرت
هيروشيما وناغازاكي بعد ضرب بيرل هاربر، رغم أن
الأطفال اليابانيين لم يكونوا طرفا
في الحرب.
شُنّت
الحروب الصليبية انتقاما لمزاعم نبش قبر المسيح، رغم أن قبره ليس معلوما، بل هو عند
المسلمين من غير قبر، فهو لا يزال حيا، ومرفوعا إلى السماء.
غُزيت
أمريكا من قِبل الإنجليز، ولم يكن سكانها الأصليون قد ارتكبوا ما يستوجب الإبادة سوى
أن أوطانهم غنية وتشبه الجنان.
أما عجيبة
العجائب، فأن يُتّهم طلاب التحرير في غزة بأنهم جعلوا أمهاتهم وأخواتهم وأبناءهم وآباءهم
دروعا بشريا! وقد يصدق فيهم نقيض ما يتهمون به، وهو أنهم جعلوا أبناءهم وآباءهم وعشائرهم
دروعا بشرية لحماية أسراهم من الإسرائيليين، وذلك للمقايضة بهم أسراهم في المعتقلات
الإسرائيلية.
قد يأتي
وقت تتحطم فيه الأساطير على أيدي أسياد "علم الجريمة"، وتباشير ذلك تلوح
في الأفق.
x.com/OmarImaromar