نحن
نبجل الأبطال ونجلهم، وبعض الناس تقدسهم،
البطل معبود أو شبه معبود، هو إله أحيانا،
أو شبه إله، هو كذلك في الهند، البطل الهندي السينمائي مجبول من معجون الكذب وعصير
الأحلام والأماني، البطل المعاصر مجموعة من الخدع السينمائية، وللبطل الهندي
السينمائي وهو ممثل وسيم -والجمال في الهند نادر-معابد. قيل عن قميص كلينت ايستوود
في
فيلم من "أجل حفنة من الدولارات" إن نحو مليون شخص تبرك به واستشفى.
كانت
العرب تعقر على قبر ربيعة بن مكدم، ولم تعقر على قبرٍ غيره، أما ميسي وماردونا
وليوناردو من أبطال الكرة، فلهم شأن عظيم، ووجدت من قذائف الخوارزميات على سواحل
صفحتي حسناء سورية تقول لمطرب ناشئ، قذفت بنفسها عليه من حائط متسللة إلى منصة
المسرح، وهي تهتف: "أبوس.." وباست شيئا لا تبوسه سوى الأمهات في أطفالهن
الرضع، لا يحسن ذكره هنا. ومطربها رديء الصوت، لكن الشهرة جعلت السم عسلا.
يقول
العارفون إن
الإيراني يجمع أمرين في خصائص شخصيته وطباعه، هما: الصبر والريث،
ويسعى إلى البقاء على قيد الحياة وفي التاريخ، ولم يذكر أشهر عارف في إيران على
فضائية الجزيرة أساليب الحفاظ على كيانه، كالتضحية بحلفائه مثلا، فيما يسمى "بدوائر
النار" الإيرانية، التي حصنت بها إيران نفسها؛ حزب الله اللبناني، وكتائب
الشيعة العراقية، والحوثي اليمني، وكتائب في الأرض المحتلة، وهي دوائر عربية.
أمريكا تفعل أمرا مشابها باصطناع الحلفاء وزرع القواعد
الأمريكية في الكوكب، كما
يزرع السمك.
يقول العارفون إن الإيراني يجمع أمرين في خصائص شخصيته وطباعه، هما: الصبر والريث، ويسعى إلى البقاء على قيد الحياة وفي التاريخ
صورة البطل
في الفيلم الإيراني "البطل":
يختار
بطل فيلم " انفصال" نادر (لمؤلفه ومخرجه أصغر فرهادي) أباه على زوجته
الحسناء ياسمين، وتفضيل الأب على الزوج تأصيل للبر وخلق ونبل وفضل، ويسعى إلى
طلاقها لإهمالها أباه المصاب بالخرف، نقف على مشهد غريب، وهو للبطل نادر، وهو يعظ
ابنته باستعمال لفظ "بشتوانه" بدلا من لفظ ضمان العربي، فنضحك لسذاجة
المخرج والبطل وصناع الفيلم، أو أنها زلة مخرج أو إشارة لانبعاث قومي فارسي
إيراني، فالفيلم حافل بالألفاظ العربية، فاسما بطلي الفيلم عربيان.
إنّ ثقافة
إيران عربية فارسية مختلطة، بل إني أستطيع أن أرد عنوان الفيلم الفارسي، وهو "جدايي"
إلى العربية، إلى لفظ اجتوى، أو لفظ جديان، فمن إحدى معاني جديان والجداء المنع والانفصال،
والتشابه مرده إمّا لسعة العربية، أو لأنَّ أصل اللغات عربي، كما يعتقد علماء اللسان
العربي أمثال علي فهمي خشيم، وعبد الرحمن البوريني، وعادل بشتاوي. فالفيلم يسعى
إلى انفصال قومي أيضا، وليس إلى انفصال زوجي. وسنذكر ركنين من أركان القصة
الإيرانية ففي كل قصة صورة من الحسين، وسرداب أيضا.
ستجد
صورة من الحسين الشهيد المظلوم في الأب، وفي الزوج، وفي الزوجة، وفي الخادمة، أما
السرداب الذي يختبئ فيه المهدي بانتظار لحظة الإشراق والفتح والإغاثة لجعل الأرض
فردوسا، فغائب وحاضر، سنجده في جواب ابنة نادر الذي يبقى معلقا في النهاية
المفتوحة للفيلم.
الحبكة
الإيرانية السينمائية أو النسجية أو السردية أو العاطفية؛ متراكبة، متعاقدة في عقد
متناسلة، مثل السجادة الإيرانية، الفيلم الإيراني سجادة بصرية ووجودية.
السؤال
قبل المضي في البحث عن صورة الإيراني في السينما الإيرانية، هو: هل تصدّق السينما خصائص
صورة الإيراني في تعريفنا، كما تفعل السينما الأمريكية بصورة الأمريكي الأبيض؟ وهل
تقوم الروايات الذي تُطبع خلال قرن أو يزيد بذلك؟ الجواب: إنَّ السينما تزوير وخيال
وإنشاء، وهي أشدَّ ما تكون كذبا في الهند، فالسينما الهندية غالبا أحلام يقظة، وفي
مصر أيضا بدرجات متفاوتة. فالمشاهد العربي يظنُّ بعد مشاهدة أفلام مصرية أنَّ
المرأة المصرية امرأة رقاصة، وهي ليست كذلك، لكن الأمر يقاس بظل العود، السينما هي
ظلُّ العود إن لم تكن العود نفسه في إيران؛ فالسينما الإيرانية رقيقة، آسرة، تخاطب
وجدان المشاهد، وهي سينما بكاء وعاطفة، وهي مأساوية حتى ليكاد المشاهد أن يلطم في
أثناء الفيلم، أما البكاء فضربة لازب لا ينجو منها سوى أصحاب القلوب غير الضعيفة.
السينما هي الصورة التي يريد الإيراني أو تريدها النخبة الإيرانية وصفوتها أن يكون
عليها الإيراني؛ إن لم تكن هي نفسها.
يمكن للمشاهد
الحصيف أن يتقصى صورة الحسين وطيفه، أو وعده في جميع أفلام إيران، حتى في فيلم "البقرة"
الذي أعتبر باكورة الإنتاج الإيراني السينمائي الحديث، فصاحب البقرة يتحول إلى عبادتها
أو توثينها كما فعل قوم موسى بعبادتهم العجل. السينما الإيرانية في عصر آيات الله،
سينما استبكاء، و"ميلو دراما"، لكنها ميلودرامية صادقة، غير مفتعلة، أو
هي مقنعة، وواقعية خالية من مصادفات الأفلام الهندية وخوارقها. فكثير من أبطال
السينما الإيرانية التي انتُزعت بها الجوائز من فم الذئب الغربي، هم أطفال، أسرت
بهم قلوب النظارة، مثل فيلم "أطفال السماء"، أو فيلم "لون
الفردوس"، وأغلبهم أطفال معاقون، من أولي الضرر، سيدفع الناظر ثمن بطاقة الفيلم
ويبكي، البكاء جائزة في إيران لكل فيلم. قيل إن إيران تحارب السينما في الداخل،
وتتباهى في الخارج بتضييقها القيود على الإنتاج، وشدة الرقابة السينمائية مظهر من
مظاهر
واقعية الإيرانيين الدينية.
وقد
سأل كثيرون: لِمَ لا تقصف إيران مفاعل ديمونا كما تقصف إسرائيل مفاعلات إيران؟ بل
لِمَ لا يقصف الإيرانيون مطارات إسرائيل الجوية، وقد نكلت بهم وقتلت علماءهم
وقادتهم؟ فعجز المسؤولون عن الجواب، والجواب في السرداب.
لكن
رأيا آخر يقول إن إيران تدرك قوة أعدائها، ولا تريد أن تُذعر الغرب، فيتألبوا ضدها
كما فعلوا بالعراق، فهي تجرح إسرائيل من غير أن تصيبها في مقتل، إنه ردٌ للاعتبار
وللكرامة، لا النصر والغلبة.
نعود
إلى فيلم "القهرمان"، وهو لفظ فارسي وتركي وكردي وأفغاني، ومعناه البطل،
وعروبته واضحة، فالبطل هو القاهر، و"من" أو مان -لاحقه الاسم- للعاقل في
العربية. يروي فيلم البطل قصة سجين اسمه رحيم سلطاني، محبوس بجناية دَين متأخر
لصهره عليه، مطلق زوجته (الأسرة الإيرانية والأمريكية مفككتان كما سنرى في فيلم
هيرو الأمريكي أيضا)، وخاطب امرأة اسمها فرخنده، تعثر فرخندة على حقيبة نسائية فيها
17 ليرة ذهبية، فتهب العطية لخطيبها ويعيدانها إلى صاحبتها بعد مكث وتردد، من غير
توثيق بصورة أو محضر، فتشتبه الآلة الإيرانية المكاتبية العريقة بأمانته، فيعمد
إلى العمل بنصيحة السائق الذي اصطحب المرأة صاحبة الحقيبة لتسلم مالها من أخته،
والتي اختفت في "السرداب"، يلجأ إلى بديل عنها تمثل دورها بعد اختفائها
وهي الخطيبة نفسها، فيفشل التدبير.
يوهمان
بتلك الخدعة والتمثيلية المكاتب الحكومية، لتزكيته وإيجاد عمل له، للوفاء بديونه،
فيقعان في كذبة صغيرة، تقوّض أمانته. إنها سلسلة من الآمال: هما يريدان الزواج، ومدير
السجن من جهته يريد تحسين صورته بعد انتحار سجين في السجن، وإحراز بطولة حسن الإدارة،
فيقترح مدير السجن كذبة أخرى، يكون ابن السجين المصاب بالتلعثم هو بطلها ومؤديها.
وفي كل
فيلم إيراني تقريبا ثمة معاق، من أولي الضرر، لاستعطاف الناس في وسائل التواصل الاجتماعي،
لكن القهرمان يقرر بعد انسداد الأبواب والنوافذ في وجهه أن يستسلم لمصير السجن
ويعود إليه، مفتديا بالمال الذي جمعته الجمعية الخيرية له، محكوما بالموت، رافضا الصفقة
على لطافتها وواقعيتها وثمرتها المحتملة، يعود وقد حلق شعره ولحيته، كي يحرم مدير
السجن من عقابه، وقد توعده بالعقوبة، ونال شيئا من التوقير على صفحة الجمعية الخيرية.
وفي مشهد الفيلم الختامي يأخذ علبة الحلوى من الزميل الذي افتداه، ليؤثر بها
أصحابه في السجن.
فضيلة
القهرمان الإيراني التراجيدي الممتحن هي الفداء والإيثار، أمّا "فضيلة"
البطل الأمريكي "هيرو"، واسمه الأصلي "بطل بالصدفة"، فهي
الخداع. ويندر أن تجد فيلما مأساويا في الصناعة الأمريكية، على النقيض من الصناعة
الإيرانية للدعاية، إيران تدعو وتبشر بالدموع، وأمريكا تبشر بالقوة والحيلة والضحكة.
البطل
الأمريكي بطل بالمصادفة:
بيرني
لابالانت (داستن هوفمان) نشّال ومجرم صغير، ينقذ ركاب طائرة من الموت، وفي جملتهم
المراسلة التلفزيونية جيل جايلي (جينا ديفيس)، فيسرق حقيبتها في أثناء الإنقاذ، لكنه
يفقد "فردة" حذائه، وتتعطل سيارته، فيقله جون بوبر (آندري جارسيا)، جامع
الأنتيكات، وهو من قدامى محاربي فيتنام المشردين، في سيارته، فيخبره بما حصل له ويعطيه
فردة حذائه الثانية. يعرض مدير أخبار المحطة التلفزيونية التي تعمل بها المراسلة
جيل مبلغ مليون دولار "للمهدي أو الملاك" الذي أنقذ ركاب الرحلة من حطام
الطائرة، لكن بيرني لا يستطيع التقدم للحصول على المكافأة لأنه أمسى سجينا بعد
سعيه لبيع بطاقات وجدها في حقيبة جيل. يتصل جون بوبر بالمراسلة جيل ويدعي أنه ملاك
الرحلة 104، ويقدم "فردة" حذاء بيرني برهانا على بطولته، فيصير بطلا
قوميا. نحن أمام خيط الفكرة نفسها، لكن بحبكة أمريكية.
يحاول
بيرني إخبار الناس أنه البطل، فلا يصدق أحد السارق المحبوس، حيث أنَّ وسائل الإعلام
وضعت جون في صورة البطل، والجميع يحاول مقابلته، وأخذ الصورة التذكارية معه. تشعر
الصحافية جيل، باعتبارها واحدة من الناجين من الحادث، نفسها مدينة لجون فتعتني
بصورته العامة، وتجد نفسها واقعة في حبه، مع شكوكها، من جهته يقبل جون بالشهرة المدعاة،
ويلعب دور البطل، مقدما المال لمساعدة الأطفال المرضى والمشردين، لكنه يعاني من
ثقل الكذبة وتبكيت الضمير. في هذه الأثناء، يواصل بيرني التفاهم مع زوجته السابقة،
إيفلين، ويفشل في التواصل مع ابنه جوي، الذي أصبح مفتونا بالبطل الكذاب جون. بيرني
سارق حقيبة أما جون فسارق بطولة، وسارق البطولة أكرم لدى الأمريكان.
تسوق
الحبكة الأمريكية بيرني إلى جون في الفندق الذي يعاني من عقدة الذنب، ويهمُّ
بالانتحار، فينقذه بيرني ويقنعه بأنه يستحق البطولة، ويصير بيرني بطلا مرة ثانية، بالصدفة،
ويتفقان على صفقة: بيع بيرني بطولته لجون مقابل مال معلوم، فبيرني لا يحسن التبشير،
ويزهد بالكاميرات، وجون حسن المظهر، وجميل العبارة ويحسن البطولة التلفزيونية.
نجمل
الفروق بين البطلين:
أولها:
غاية البطولة الإيرانية هي الحسرة، وهي منتجة للبطولات المكتومة، البطولة
الإيرانية تراجيدية، أما البطولة الأمريكية، فكوميدية. وسيلة الحبكة الإيرانية وغايتها:
الحسرة، أما وسيلة الحبكة الأمريكية وغايتها فهي: الهسبارا. والهسبارة بتعريف
مختصر: مجموعة آلات ووسائل تجميل صورة اليهودي وتحسينها أمام الرأي العالمي، ولا
خلاف كبيرا بين الأمريكي والإسرائيلي.
هذه هي التراجيديا على الطريقة الإيرانية، على نقيض المصائر في الفيلم الأمريكي الكوميدي الذي ينتهي بانتصار الجميع؛ النشالان، والمذيعة والمجتمع؛ الحرمان مقابل الفوزان، الترح مقابل الفرح
ثانيها:
البطولة الأمريكية صفقة بين منتحلين، صعلوكين اثنين، فهي بطولة لا تتقبل الشريك، "مثل
الفريك ما يحبش شريك"، مع تواطؤ اجتماعي سهل ومريح، أما البطولة الإيرانية،
فصفقة فاشلة ومعقدة بين فئات اجتماعية شكاكة، تبحث عن بطولات ومفاخرات، يكون فيها
ثالثهما البطل المجهول، لا يعرفه سوى الله والقارئ أو المشاهد.
ثالثها:
تنطلق فكرة البطل الأمريكي من إنقاذ طائرة محطمة أو ما شابه من وسائل الترفيه
والتحسين والخدمة، أما الإيرانية، فتصدر من ضرورة، مثل الخبز أو الحرية، أو من
زواج، الزواج مركبة اجتماعية لا بد من ركوبها.
رابعها:
بطولة القصة الإيرانية هي الصبر، مقابل الجزع الأمريكي. وكلاهما منتجان، ومرّا
الطعم. موقع الأفعال فندق في الفيلم الأمريكي، أما مواقع الأفعال في الفيلم الإيراني
فهو الشارع والمنزل والسجن.
تنتهي
القصة الإيرانية بالفداء والذكر الحسن، أما البطولة الأمريكية، فتحصّل الاثنين:
المال والنجومية.
يُحرم
رحيم سلطاني من الشهرة والظهور على التلفزيون، ويحرم الابن من أبيه، والأب من ابنه
وحبيبته، والصهر من ماله، ومدير السجن من جائزته وغفران ذنبه وتجميل صورته، والأخت
من أخيها، لكن ثمة عزاء دائما، فقد نجا مجهول من الإعدام، نرى ظهر الناجي، ولا نرى
وجهه، هذه هي التراجيديا على الطريقة الإيرانية، على نقيض المصائر في الفيلم الأمريكي
الكوميدي الذي ينتهي بانتصار الجميع؛ النشالان، والمذيعة والمجتمع؛ الحرمان مقابل
الفوزان، الترح مقابل الفرح.
أستطيع
أن أجد واحدا من هذه المركبات أو كلها، مكونات الحبكة التراجيدية السردابية في أي فيلم
إيراني، ومركبات الحبكة الأمريكية في أي فيلم أمريكي، بل في العقل الأمريكي نفسه،
لولا أن المقال سيطول.
x.com/OmarImaromar