كتاب عربي 21

الضم في الانتظار: خطة ترامب لم تنتهِ بعد

"يُفكّر الإسرائيليون بالفعل في التوسع خارج الضفة الغربية، التي يعتبرون ضمها أمرا مفروغا منه"- جيتي
في الوقت الذي توغل فيه إسرائيل بإبادة الفلسطينيين تحت مظلة "خطة السلام" الجديدة التي طرحها دونالد ترامب، يواصل الأمريكيون توفير الغطاء الدبلوماسي لتلك الجرائم، متظاهرين بمعارضة تحركات إسرائيل الأخيرة لضم الضفة الغربية. ولوقف الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة، التي أسفرت حتى الآن عن مقتل وإصابة ما يقارب ربع مليون فلسطيني، تعهد ترامب للحكام العرب الشهر الماضي بأنه لن يسمح لإسرائيل بتنفيذ خطة الضم. غير أن البرلمان الإسرائيلي صوّت هذا الأسبوع لصالح مشروعي قانونين يدعوان صراحة إلى الضم، وذلك بالتزامن مع زيارة نائب الرئيس الأمريكي، جيه. دي. فانس لإسرائيل، التي تهدف لمناقشة الترتيبات الخاصة لتنفيذ إسرائيل للمرحلة التالية من الإبادة الجماعية في غزة. وقد رد فانس متأخرا على قرار الكنيست واصفا إياه بأنه "إهانة سياسية غبية".

ولحفظ ماء وجه حلفاء واشنطن العرب، أوفد ترامب وزير خارجيته، ماركو روبيو، إلى المستعمرة الاستيطانية اليهودية لتوبيخها. وقد أطلق روبيو، أثناء رحلته إلى تل أبيب، أشد تهديدٍ من إدارة ترامب حتى الساعة للإسرائيليين، قائلا: "هذا أمرٌ لا يمكننا دعمه الآن"، في إشارةٍ ضمنية إلى أن الدعم الأمريكي سيأتي في وقتٍ لاحق.

وفي مقابلةٍ مع مجلة تايم، رفع ترامب نفسه من نبرة التهديد مضيفا أن هذا ليس الوقت المناسب للضم: "لن يحدث. لن يحدث. لن يحدث لأنني وعدتُ الدول العربية. ولا يمكنكم فعل ذلك الآن.. ستفقد إسرائيل كل دعم الولايات المتحدة لها إذا حدث ذلك". والكلمة المفتاحية في هذا السياق هي "الآن".

قبول الأمريكيين والأوروبيين تاريخيا، وفي بعض الحالات رعايتهم، لضم إسرائيل لأراض احتلتها بالقوة لا يختلف كثيرا عن تأييدهم لخطة ترامب الأخيرة بشأن غزة، التي تشترط احتلال الإسرائيليين مباشرة ولأجل غير مسمى لأكثر من نصف أراضي غزة. وتُدرك الأنظمة العربية، بقدر ما تُدرك أوروبا والولايات المتحدة، أن ضم إسرائيل للضفة الغربية قادم لا محالة وأنه سيُنفذ بوتيرة سريعة، فإن لم يتم الآن، فسوف يتم عندما تتوفر ظروف تكتيكية أنسب

ما صرح به ترامب وروبيو لا يعدو كونه تكرارا للبديهيات. ففي نهاية المطاف، كان ترامب، هو من دعم خطط حكومة نتنياهو لضم 30 في المئة من الضفة الغربية خلال ولايته الأولى عام 2020، ضمن خطته السابقة "السلام من أجل الازدهار" التي صاغها صهره جاريد كوشنر، حيث أعلن نتنياهو حينها بأن إسرائيل ستباشر فورا بضم غور الأردن ومستوطنات الضفة الغربية، مع التزامها السخي بعدم إنشاء مستوطنات جديدة في المناطق المتبقية للفلسطينيين لمدة أربع سنوات على الأقل. وصرح سفير ترامب لدى إسرائيل آنذاك، ديفيد م. فريدمان، بأن ترامب منح الإذن بالضم الفوري، مؤكدا أن "إسرائيل لا تحتاج للانتظار إطلاقا" و"سنعترف بالضم". وقد تكرر موقف ترامب في شباط/ فبراير الماضي، عندما جدد دعمه للضم الإسرائيلي الكامل، مبررا ذلك بقوله: "إنها دولة صغيرة.. دولة صغيرة من حيث المساحة".

بناء على ذلك، يبدو من السخافة القول إن الأنظمة العربية تُصدّق وعود ترامب. فالأرجح أن الحكام العرب يتظاهرون بذلك تملقا فقط، ولغايات تتعلق بالعلاقات العامة أمام شعوبهم. والإنصاف يقتضي الاعتراف بأن ترامب لم يخفِ دعمه الثابت لسياسات الضم الإسرائيلية، إذ سبق أن اعترف رسميّا بضم إسرائيل غير القانوني لهضبة الجولان السورية عام 2019، تماما كما اعترف قبل ذلك بعامين بضم إسرائيل غير القانوني للقدس الشرقية عام 2017. فلماذا إذن يُعارض ضم الضفة الغربية؟ الجواب بسيط: ما يسعى إليه ترامب ليس رفض الضم، بل تأجيله مؤقتا فحسب.

في الواقع، يُفكّر الإسرائيليون بالفعل في التوسع خارج الضفة الغربية، التي يعتبرون ضمها أمرا مفروغا منه، فضلا عن ضم القدس الشرقية وهضبة الجولان، فقد باتوا يتطلعون إلى الاستيلاء على أراضٍ إضافية من أراضي جيرانهم العرب. فقبل بضعة أسابيع فقط، صرّح نتنياهو بأنه في "مهمة تاريخية وروحية" نيابة عن الشعب اليهودي، وبأنه "متمسك بشدة" برؤية الأرض الموعودة وإسرائيل الكبرى. والأخيرة تشمل كامل أراضي الأردن، وأجزاء من سوريا، ولبنان، ومصر، والعراق.

سارعت الدول العربية إلى إدانة "رؤية" نتنياهو وتمسكه بضم أراضيها لتصبح أراضي إسرائيلية مستقبلية، تماما كما تُدين الإعلانات الإسرائيلية الأخيرة عن ضم الضفة الغربية، غير أن هذا كله ليس سوى تمثيلية شكلية. فالدول العربية، انصياعا لإملاءات أوروبا والولايات المتحدة، انتهت في نهاية المطاف إلى القبول الفعلي بكل ضمٍّ إسرائيلي سابق منذ عام 1948، بل إنّ بعضها اعترف قانونيا بتلك القرارات الإسرائيلية، كما فعلت مصر والأردن والإمارات والمغرب والسودان والبحرين، حين اعترفت جميعها بحدود إسرائيل لعام 1949، التي تضمّ أراضي فلسطينية مُحتلّة في خرقٍ واضحٍ للقانون الدولي.

عندما أقيمت إسرائيل عام 1948، كانت تشمل نصف المساحة التي خصصتها الأمم المتحدة لدولة فلسطينية إضافة إلى القدس الغربية، التي كان من المفترض أن تكون تحت وصاية الأمم المتحدة. ورغم إصرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، بما في ذلك المملكة المتحدة، على أنها لن تعترف بإسرائيل إلا بعد انسحابها من هذه الأراضي، إلا أنه بين عامي 1949 و1950، اعترف مجلس الأمن والمملكة المتحدة في النهاية بإسرائيل بحدودها الموسعة بشكل غير قانوني.

كان الإسرائيليون قد وعدوا في البداية بالتفاوض مع جيرانهم حول حدود دولتهم الوليدة، لكنهم احتفظوا بالأراضي المحتلة بعد ذلك كجزء من إسرائيل، منتهكين بذلك قرارات الأمم المتحدة، لا سيما ضم القدس الغربية عام 1949 ونقل المكاتب الحكومية إليها وإعلانها عاصمة للدولة. لم تكن الأمم المتحدة والولايات المتحدة وجميع دول أوروبا فقط من اعترف بضم إسرائيل لجميع هذه الأراضي بحكم الأمر الواقع بحلول أوائل الخمسينيات فحسب، بل تبعتها بذلك أيضا الدول العربية المُطَبِّعة في العقود اللاحقة. وفي هذا السياق، لم يجد أنور السادات حرجا في زيارة القدس الغربية المحتلة والمضمومة بشكل غير قانوني لإسرائيل، لإلقاء خطابه الشهير أمام البرلمان الإسرائيلي الواقع في قلب المدينة خلال زيارته عام 1977، أما الملك حسين فلم يقم بزيارة رسمية للقدس الغربية قط، إذ اقتصرت زيارتاه الرسمية لإسرائيل عامي 1994 و1996 على تل أبيب وبحيرة طبريا، لكنه زار القدس الغربية عام 1995 لحضور جنازة إسحاق رابين، ثم زارها مرة أخرى عام 1997 لتقديم التعازي لعائلات إسرائيلية فقدت أبناءها برصاص جندي أردني.

تجدر الإشارة إلى أن الملك حسين في عام 1993، أي قبل توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، كان قد تنازل فعليّا عن أي مطالبة بالسيادة الفلسطينية أو العربية ليس فقط على القدس الغربية، بل أيضا على القدس الشرقية، عندما أصرّ على أن "لله وحده الحق في القدس"، وأن السيادة في المدينة "لله وحده"، وهو تصريح كرره في أكثر من مناسبة لاحقا. ومع أنّ السفارتين المصرية والأردنية -شأن معظم سفارات الدول التي لا تعترف رسميا بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل- لا تزالان في تل أبيب، فإنّ ذلك لا يعني بالضرورة رفضهما اعتبار القدس الغربية جزءا من إسرائيل.

ولكي لا نذهب بعيدا في ظنوننا بأن "رؤية" نتنياهو التي أعلنها مؤخرا لإسرائيل الكبرى هي مجرد حلم غريب راوده ذات منام، علينا أن نتذكر أنّه -مقارنة بأسلافه- لم يغزُ سوى القليل من الأراضي العربية، ولم يضمّ أيا منها، بخلاف قادة إسرائيل السابقين، من دافيد بن غوريون إلى مناحيم بيغن، الذين توسّعوا وضمّوا مساحاتٍ شاسعة من الأراضي الفلسطينية والسورية.

لطالما كان جشع إسرائيل لالتهام أراضي الآخرين واضحا وصريحا، فبعد غزوها عام 1956 واحتلالها الأول لقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، صرّح دافيد بن غوريون، رئيس الوزراء المؤسس للدولة العبريّة، بأن غزو سيناء "كان الأعظم والأكثر مجدا في تاريخ شعبنا"، مضيفا بأن هذا الغزو الناجح أعاد "إرث الملك سليمان من جزيرة يوتفات جنوبا إلى سفوح لبنان شمالا". وستعود "يوتفات" -وهو الاسم الذي أطلقه الإسرائيليون على جزيرة تيران المصرية- "جزءا لا يتجزأ من مملكة إسرائيل الثالثة". وفي مواجهة المعارضة الدولية للاحتلال الإسرائيلي، أصرّ بن غوريون على القول بأنه: "حتى منتصف القرن السادس، حافظ اليهود على استقلالهم في جزيرة يوتفات.. التي حررها الجيش الإسرائيلي أمس"، معلنا أن قطاع غزة "جزء لا يتجزأ من الوطن". كما تعهد مستشهدا بنبوءة إشعياء التوراتية قائلا: "لن تُجبر أي قوة، مهما كان اسمها، إسرائيل على الانسحاب من سيناء". وعلى الرغم من أنّ إسرائيل اضطُرّت لاحقا إلى الانسحاب تحت ضغطٍ دوليٍّ كثيف، فإنها انتظرت اللحظة المناسبة لتعاود غزو هذه المناطق واحتلالها مجددا عام 1967. وبعد انسحابها النهائي من سيناء بموجب معاهدة كامب ديفيد -التي اشترطت نزع سلاح سيناء بالكامل- عاد الحديث في الأوساط الإسرائيلية خلال السنوات الأخيرة عن إمكانية غزو سيناء مجددا وربما استيطانها أيضا.

بعد عام 1948، مضى الإسرائيليون قدما في خططهم للاستيلاء على جميع أراضي المنطقة منزوعة السلاح على طول الحدود السورية المجاورة لهضبة الجولان، وبحلول عام 1967، كانوا قد سيطروا على المنطقة بأكملها قبل احتلال هضبة الجولان. وفي الأشهر العشرة الأخيرة من هذا العام، وسع الإسرائيليون نطاق استيلائهم غير القانوني على الأراضي السورية بموافقة من النظام السوري الجديد المدعوم أمريكيا، بقيادة أحمد الشرع، العضو السابق في تنظيم القاعدة، الذي أُعيد تأهيله. وقد أنشأ الإسرائيليون "منطقة عازلة" جديدة على الأراضي السورية، وكما فعلوا مع المنطقة منزوعة السلاح بين عامي 1948 و1967، عبر مستوطنون يهود إسرائيليون الشهر الماضي إلى الأراضي السورية المحتلة حديثا ووضعوا حجر الأساس لمستوطنة إسرائيلية جديدة تسمى "نيفيه هَبَشَن" أو "واحة بَشَن" في منطقة جبل الشيخ. تنتمي هذه المجموعة إلى حركة "عوري تسافون" (استيقظ يا شمال)، وهي حركة تسعى لبناء مستوطنات إسرائيلية في سوريا وجنوب لبنان، مستندة إلى مزاعم دينية وتاريخية تتعلق بما يسمى "منطقة بشن"، وهو اسم توراتي يستخدمه التوسعيون اليهود للإشارة إلى هذه المناطق. وفي العام الماضي، أرسلت الحركة آلاف إخطارات الإخلاء إلى سكان البلدات اللبنانية الجنوبية باستخدام البالونات والطائرات المسيرة.

ورغم أن الجيش الإسرائيلي قام بطرد المستوطنين الجدد من جبل الشيخ مؤقتا، فإن عودتهم لا تبدو سوى مسألة وقت حتى إنشاء مستوطنات يهودية رسمية برعاية الدولة، كما حدث في الأراضي السورية المحتلة سابقا، لا سيما هضبة الجولان، التي ضمها الإسرائيليون بشكل غير قانوني في عام 1981، بعد عام واحد فقط من ضمهم للقدس الشرقية.

عندما ينهض الفلسطينيون لمقاومة هذا التواطؤ الدولي في استمرار الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي لوطنهم وضمّ أراضيه، ستتظاهر تلك الدول بالدهشة، كما اعتدنا، ثمّ تواصل، علنا أو سرا، دعم المرحلة التالية من الإبادة

في عام 2002، قامت إسرائيل ببناء "جدار الفصل العنصري" غير القانوني داخل الضفة الغربية، بما كفل لها ضم 10 في المئة من أراضي الضفة الواقعة خلف الجدار بحكم الأمر الواقع، وقد قوبلت ببعض الاحتجاجات الشكلية من قبل المجتمع "الدولي" على انتهاكها للقوانين الدولية، ولا سيما من المحكمة الجنائية الدولية، دون أن يترتب على ذلك أي إجراء فعلي. ومنذ عام 1967، أصرت إسرائيل على ضم منطقة غور الأردن على الأقل من أراضي الضفة الغربية -الواقعة على الحدود مع الأردن- وهي منطقة تمثل نحو 10 في المئة من مساحتها، وقد أقرت خطة ترامب لعام 2020 بضمها رسميا إلى إسرائيل.

إن قبول الأمريكيين والأوروبيين تاريخيا، وفي بعض الحالات رعايتهم، لضم إسرائيل لأراض احتلتها بالقوة لا يختلف كثيرا عن تأييدهم لخطة ترامب الأخيرة بشأن غزة، التي تشترط احتلال الإسرائيليين مباشرة ولأجل غير مسمى لأكثر من نصف أراضي غزة. وتُدرك الأنظمة العربية، بقدر ما تُدرك أوروبا والولايات المتحدة، أن ضم إسرائيل للضفة الغربية قادم لا محالة وأنه سيُنفذ بوتيرة سريعة، فإن لم يتم الآن، فسوف يتم عندما تتوفر ظروف تكتيكية أنسب. وسيتم الضم، دون شك، بمباركة فعلية واحتجاجات شكلية من المجتمع الدولي، ولن تتخلف الأنظمة العربية (باستثناء الأردن لأسباب تتعلق بأمنه القومي) عن تصدر المشهد. وقد عبّر وزير الخارجية روبيو عن ذلك بصراحة حين قال: "في الوقت الحالي، نعتقد أن هذا الأمر قد يكون له نتائج عكسية" و"سيُهدد اتفاق السلام"، أي أن الاعتراض يقتصر على التوقيت لا على المبدأ، إذ سيصبح الضم مقبولا لاحقا عندما يُنظر إليه كسبيل "لإحلال السلام" وفق تصور خطة ترامب لعام 2020.

وفي مؤشرٍ مثير آخر، أصدر مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الأسبوع الماضي تقريرا عن تواطؤ عشرات الدول، معظمها أوروبية، ولكن أيضا بينها دول عربية، مع الإبادة الجماعية الإسرائيلية الجارية. كما كشفت صحيفة واشنطن بوست كيف عززت عدة دول عربية تعاونها مع الجيش الإسرائيلي خلال فترة الإبادة الجماعية، من ضمنها الأردن وقطر والمملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة.

عندما ينهض الفلسطينيون لمقاومة هذا التواطؤ الدولي في استمرار الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي لوطنهم وضمّ أراضيه، ستتظاهر تلك الدول بالدهشة، كما اعتدنا، ثمّ تواصل، علنا أو سرا، دعم المرحلة التالية من الإبادة. حدث ذلك خلال العامين الماضيين، وسيحدث من جديد، تحت الشعار المألوف ذاته: "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، الذي تحوّل إلى تفويض دولي مفتوح لقتل الفلسطينيين ومحو وجودهم.