اكتسبت الدعوات العالمية لمقاطعة دولة الاحتلال
الإسرائيلي زخما غير مسبوق، بعدما كانت لسنوات طويلة تعد حركة ضعيفة، لتتحول اليوم إلى ظاهرة يتبناها فنانون ورياضيون وساسة بارزون، احتجاجا على حرب الإبادة الإسرائيلية في
غزة.
وبرزت احدى نتائج هذه الحملات على مطعم "شوك" في واشنطن، الذي كان يقدم وجبات نباتية كوشير مستوحاة من المطبخ الإسرائيلي، حيث اضطر الأسبوع الماضي إلى إغلاق آخر فروعه وتسريح 30 موظفا، بعدما اتّهم من قبل نشطاء بأنه "استولى على المطبخ الفلسطيني" واستورد منتجات إسرائيلية، بينما أكدت الإدارة أن الحرب جعلت الاستمرار في العمل مستحيلا.
وتعكس هذه الحادثة التغير الكبير في المزاج العام تجاه إسرائيل، إذ أدت الحرب في غزة إلى انهيار ما وصفته صحيفة الغارديان بـ"الإجماع القديم" الذي كان يحمي تل أبيب من الضغوط الدولية الجدية، بالإضافة إلى أن الدعوات لمقاطعة الشركات الإسرائيلية أو المتعاملة معها، ومنع مشاركة إسرائيل في الفعاليات الرياضية والثقافية، ووقف التعاون الأكاديمي، باتت تتوسع بسرعة "من الهامش إلى التيار العام".
وأوضحت صحيفة "الغارديان" البريطانية في
تقرير، أن معظم المقابلات التي أجرتها نُفذت قبل إعلان اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة "
حماس"، لكن النشطاء أكدوا أنهم سيواصلون الضغط.
وانتقدت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) خطة إنهاء الحرب، ووصفتها بأنها "مؤامرة صممتها الحكومة الفاشية الإسرائيلية لإنقاذ نفسها من العزلة العالمية"، داعية المجتمع المدني إلى تصعيد جهوده.
وعمقت مشاهد الأطفال الجوعى وارتفاع عدد القتلى في غزة إلى أكثر من 67 ألف شخص، وفق وزارة الصحة الفلسطينية، حالة الاشمئزاز العالمي من السياسات الإسرائيلية، فيما خلص تقرير صادر عن خبراء مستقلين بتكليف من مجلس حقوق الإنسان إلى أن إسرائيل "ترتكب إبادة جماعية".
ونقلت الغارديان عن جيريمي بن-آمي، رئيس جماعة الضغط الليبرالية المؤيدة لإسرائيل "جي ستريت"، قوله: "لا أرى أن هذا عداء للسامية أو لإسرائيل، بل رفض لسياسات الحكومة الإسرائيلية"، مضيفاً أن الحرب في غزة "كانت محفزاً حطم المحرمات وشجع المعارضة ودفع الرأي العام نحو مواقف جديدة".
وأوضح بن-آمي أن هذا التحول هو "الأكبر الذي يشهده خلال حياته" في المواقف داخل المجتمع اليهودي الأمريكي والرأي العام عامة، مشبهاً ما يحدث الآن بالحملة العالمية لمناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
وأضافت "الغارديان" أن حركة المقاطعة الفلسطينية BDS، التي انطلقت قبل عشرين عاماً بدعم من منظمات المجتمع المدني في فلسطين للمطالبة بإنهاء الاحتلال وعودة اللاجئين، باتت تشهد زخماً جديداً رغم محاولات الحكومات الغربية الحد منها، إذ سنت عشرات الولايات الأمريكية قوانين لمعاقبة من يدعو إلى مقاطعة إسرائيل.
وفي أيار/مايو الماضي، وقع 380 كاتبا ومنظمة، من بينهم زادي سميث وإيان ماك إيوان، رسالة تؤكد أن الحرب في غزة "إبادة جماعية" وتدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، في حين وقّع أكثر من 4,500 فنان وسينمائي تعهداً بمقاطعة المؤسسات والمهرجانات الإسرائيلية "المتواطئة".
كما أشارت الصحيفة إلى أن منظمي مسابقة الأغنية الأوروبية "يوروفيجن" سيصوّتون في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل حول مشاركة إسرائيل في نسخة العام المقبل، مشيرة إلى أن هذه المسابقة تمثل "ظاهرة ثقافية ضخمة في إسرائيل"، وقد يثير استبعادها منها صدى واسعاً.
ونقلت "الغارديان" عن داليا شايندلين، الباحثة والمحللة السياسية الإسرائيلية، قولها: "قد تُحدث مقاطعة يوروفيجن صدى كبيراً؛ فالإسرائيليون يعتبرونها مصدر فخر وطني، ولا توجد سابقة لطريقة رد فعلهم إذا تم استبعادهم منها".
وأضافت أن المئات من الفنانين العالميين، من بينهم بيورك وفرقة "ماسيف أتاك"، انضموا إلى دعوات حظر بث موسيقاهم في إسرائيل. وفي مجال الرياضة، قالت الصحيفة إن الاتحادين الدوليين لكرة القدم (فيفا) والاتحاد الأوروبي (يويفا) يواجهان ضغوطاً متزايدة لحظر مشاركة إسرائيل في المنافسات الدولية، بعد أن قاد نجم مانشستر يونايتد السابق إيريك كانتونا حملة تطالب الأندية بعدم اللعب ضد الفرق الإسرائيلية.
وقال الناشط آشيش براشار للصحيفة: "كلما زادت عزلة إسرائيل، أدرك العالم فظاعة أفعالها". وأوضح أن حملة "اللعبة انتهت يا إسرائيل"، التي ظهرت لوحاتها في ميدان تايمز سكوير بنيويورك، تدعو إلى مقاطعة المنتخب والأندية الإسرائيلية ومنع اللاعبين الإسرائيليين من المشاركة في البطولات الدولية.
وأضاف براشار: "التطبيع في وقت الإبادة الجماعية تواطؤ. ما داموا يظهرون في ملاعبنا أو في يوروفيجن، فنحن نُعطي ضوءاً أخضر للاحتلال والفصل العنصري والإبادة".
وأشارت "الغارديان" إلى أن معارضي المقاطعة يعتبرون أن هذه الدعوات "تضر بالأبرياء وتستهدف أصواتاً إسرائيلية ناقدة"، في حين يرى المؤيدون أن "العزلة هدف بحد ذاتها"، معتبرين أن الضغط والعزلة قد يدفعان المجتمع الإسرائيلي لمراجعة سياسات حكومته.
وأوضح براشار: "يقول البعض إن المقاطعة عقاب جماعي، لكن ما يحدث في غزة هو العقاب الجماعي الحقيقي".
وأضافت الصحيفة أن الحملة ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا تُعد النموذج الأقرب لما يحدث حالياً، مشيرة إلى أن المقاطعة الرياضية والثقافية والاقتصادية لذلك النظام في الستينيات والسبعينيات كانت من الأسباب الرئيسية لانهياره.
وقال المؤرخ جيريمي فارون إن عزل جنوب أفريقيا عن العالم لعب "دوراً رئيسياً في إنهاء نظام الفصل العنصري"، بينما أكد عمر البرغوثي، مؤسس حركة BDS، في تصريحات لـ"الغارديان"، أن "لحظة جنوب أفريقيا تقترب"، موضحاً أن المقاطعة "بدأت تؤثر فعلاً في السياسات"، وأن "
نتنياهو يرى الكتابة على الجدار".
وأضاف البرغوثي أن الدعم العالمي للحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل (PACBI) شهد "قفزة نوعية ضخمة"، إذ لم يعد مقتصراً على الفنانين التقدميين، بل امتد إلى نجوم هوليوود والموسيقيين العالميين ومؤثري الموضة والطهاة المشاهير.
وأشارت "الغارديان" إلى أن المقارنة بين إسرائيل وجنوب أفريقيا ليست مطابقة تماماً، فالأخيرة كانت تملك قيادة سياسية موحدة في نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، بينما تفتقر الحركة الفلسطينية إلى قيادة مماثلة. كما أن إسرائيل أكثر اندماجاً في الاقتصاد العالمي وقطاع التكنولوجيا، ما يجعل عزلها أصعب.
ورغم أهمية المقاطعات الثقافية والرمزية وفرض بعض الدول قيوداً على بيع الأسلحة، أكدت الصحيفة أن تأثير هذه التحركات على الاقتصاد الإسرائيلي لا يزال محدوداً، مشيرة إلى ما نشرته "هآرتس" مؤخراً بأن الإنفاق الأوروبي على السلاح الإسرائيلي بلغ مستوى قياسياً.
ونقلت الصحيفة عن الكاتب بيتر بينارت، مؤلف كتاب "أن تكون يهوديا بعد تدمير غزة"، قوله: "لا شك أن هناك تحولا ثقافيا واضحا في الرأي العام"، مضيفا أن السؤال الآن هو "كيف سيُترجم هذا التحول في المواقف الثقافية إلى نتائج سياسية ملموسة؟".