قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان الحديث عن مشروع "
إسرائيل الكبرى" مقتصراً على أدبيات توراتية٬ تتبناها أحزاب يمينية صهيونية متطرفة داخل دولة الاحتلال، في حين تحاشى القادة الرسميون الإعلان عنه صراحة.
ومع اندلاع حرب الإبادة ضد قطاع
غزة، تغير المشهد بشكل جذري، ليصبح المشروع جزءاً من الخطاب السياسي الرسمي، ويصدر عن رئيس الحكومة بنيامين
نتنياهو نفسه.
وأعلن نتنياهو في 14 آب/ أغسطس الماضي تأييده العلني لرؤية "إسرائيل الكبرى"، وهو مشروع يطرح بعقيدة توراتية ويستحضر الموروث التلمودي لتبرير التوسع السياسي والعسكري الإسرائيلي، مستفيداً من التحالف اليميني المتشدد داخل حكومته.
وتزامن ذلك مع عرض نتنياهو لخريطة ما أسماها دولة "إسرائيل" تتضمن غزة والضفة الغربية خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 أيلول/ سبتمبر 2023، في خطوة فاجأت المجتمع الدولي وأثارت غضباً عربياً واسعاً.
ويتناقض هذا التوسع العلني في الخطاب السياسي بشكل صارخ مع المبادرة العربية للسلام، التي تؤكد على إقامة دولة
فلسطينية على حدود عام 1967، والانسحاب من الأراضي المحتلة بعد ذلك. غير أن حكومة نتنياهو نسفت عمليا كل هذه المبادرات، مثبتة أن التطبيع العربي لا يحدّ من الطموحات التوسعية للاحتلال الإسرائيلي.
اليمين المتطرف وتبني مشروع التوسع
يتبنى المشروع قادة اليمين الإسرائيلي المتشدد، وبرز بشكل واضح مع وزير المالية وعضو الكنيست بتسلئيل سموتريتش، زعيم حزب "البيت اليهودي" المتطرف.
وفي مقابلة تلفزيونية عام 2016، دعا سموتريتش إلى أن تمتد حدود الاحتلال الإسرائيلي لتشمل دمشق وأجزاء واسعة من ست دول عربية، هي سوريا ولبنان والأردن والعراق وجزء من مصر والسعودية، في سبيل تحقيق ما سماه "الحلم الصهيوني من النيل إلى الفرات".
وجدد سموتريتش هذه الطروحات في آذار/ مارس 2023 خلال خطاب في باريس، ووقف أمام خريطة تصور ما أسماه "أرض إسرائيل"، تشمل فلسطين التاريخية والأردن، في رسالة واضحة بأن المشروع لم يعد مجرد فكرة أيديولوجية بل أصبح سياسة سياسية متكاملة.
الجذور التاريخية والتوراتية للمشروع
لم يكن مشروع "إسرائيل الكبرى" حديثاً، بل له جذور تاريخية تعود إلى حزب "الليكود" بقيادة مناحيم بيغن، الذي تولى السلطة عام 1977، وحول الفكرة إلى برنامج سياسي يعتمد على الموروث التوراتي ويعطيه غطاء شرعياً للاستيطان في الضفة الغربية، التي أطلق عليها اسم "يهودا والسامرا".
ويرتبط المشروع بفكرة "الأرض الموعودة" وفق معتقدات دينية ترى أن الأراضي تمتد من نهر النيل في مصر إلى نهر الفرات في سوريا والعراق. ويؤكد معهد "التوراة والأرض" الإسرائيلي على موقعه الإلكتروني أن هذه المساحة تمثل حدود "أرض إسرائيل الكبرى"، وهي نفس الفكرة التي أعلن عنها مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل عام 1904، وحملها لاحقاً ديفيد بن غوريون، مؤسس دولة الاحتلال، الذي رأى أن إقامة دولة صغيرة هي مجرد قاعدة للتمدد لاحقاً، حتى دون خوض حرب مباشرة.
كما أن عصابة "أرغون" الصهيونية، التي نشأت خلال فترة الانتداب البريطاني في فلسطين، طالبت بتحويل فلسطين التاريخية والأردن إلى دولة يهودية، وقد اندمجت لاحقاً في الجيش الإسرائيلي، ما يعكس استمرارية هذه الأفكار عبر عقود.
خارطة "إسرائيل الكبرى" وامتدادها الإقليمي
تظهر الخريطة التي رفعها نتنياهو خلال مقابلاته التلفزيونية، حدود المشروع التوسعي بما يشمل كامل فلسطين التاريخية (27 ألف كم²)، ولبنان (10 آلاف كم²)، والأردن (89 ألف كم²)، وأكثر من 70 بالمئة من مساحة سوريا (185 ألف كم²)، ونصف العراق (438 ألف كم²)، وثلث السعودية (2.14 مليون كم²)، وربع مصر (نحو مليون كم²)، وجزء من الكويت (17 ألف كم²).
ويصف نتنياهو المشروع بأنه "مهمة تاريخية وروحية" تتوارثها الأجيال، في تأكيد على البعد الديني والفكري الذي يسند طموحات الاحتلال الإسرائيلي التوسعية، وسط انتقادات عربية ودولية واسعة، وصلت إلى إدانات رسمية حازمة من عدة دول في المنطقة.
إصرار عربي على مبادرة السلام مقابل التطبيع
رغم الخطاب التوسعي الإسرائيلي، ما زالت الحكومات العربية تحاول التمسك بمبادرة السلام العربية، التي طرحت عام 2002، وتؤكد على إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 مقابل تطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي.
ومع ذلك، لم تمنع تصريحات نتنياهو الحكومة الإسرائيلية من المضي قدماً في الاتفاقات التطبيعية، حيث وقعت الإمارات والبحرين والمغرب والسودان اتفاقات تطبيع مع الاحتلال بين 2020 و2023، بينما لا تزال المملكة العربية السعودية تُجري مفاوضات مع الولايات المتحدة لإقامة علاقات مستقبلية، وفق ما نشرته صحيفة الرياض في تصريحات سابقة، مع التأكيد على أن أي اتفاق سيكون خطوة تدريجية وبناء على أسس واضحة، يحدد فيها كل طرف حقوقه وواجباته.
من كامب ديفيد إلى أبراهام
لقد شهدت المنطقة عدة محطات رئيسية لتسوية النزاع العربي الإسرائيلي، بدءاً باتفاق كامب ديفيد بين مصر والاحتلال الإسرائيلي عام 1978، ومعاهدة السلام المصرية عام 1979، التي قوبلت برفض عربي وغضب أدى إلى مقاطعة مصر ونقل مقر الجامعة العربية إلى تونس، مروراً بمعاهدة السلام الأردنية عام 1994، واتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، وصولاً إلى اتفاقات التطبيع المعروفة بـ"اتفاقات أبراهام" بين إسرائيل والإمارات والبحرين والمغرب والسودان في 2020.
لكن جميع هذه الاتفاقات، بالرغم من كونها تؤسس لعلاقات دبلوماسية وتجارية، لم تمنع الاحتلال الإسرائيلي من تبني خطاب التوسع العلني، ما يطرح تساؤلات حول جدوى المبادرات العربية في ظل تكرار الانتهاكات وخطط الضم والتهجير.
نتنياهو وحرب غزة كجزء من المشروع
ويتزامن إعلان نتنياهو عن "إسرائيل الكبرى" مع استمرار حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي على غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي دخلت عامها الثاني٬ كما يتزامن مع استهداف الاحتلال للأراضي السورية عبر الجولان والقنيطرة وجبل الشيخ والحدود الغربية لدرعا٬ كما استهدف القوات العسكرية السورية بعد سقوط نظام المخلوع بشار الأسد منذ ديسمبر/كانون الأول 2024، وشنت هجمات على لبنان، وتونس٬ وقطر في مشهد يعكس تحويل الطروحات العقائدية إلى سياسات عملية على الأرض.
بينما يستمر نتنياهو في رسم خريطة "إسرائيل الكبرى" التي تضم مساحات شاسعة من دول عربية وفلسطين التاريخية، تواصل الحكومات العربية التمسك بالتطبيع ومبادرة السلام العربية، التي تبني على انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي المحتلة وتأسيس دولة فلسطينية.