قضايا وآراء

عربدة وإجرام نتنياهو في الدوحة

"دول المنطقة مطالبة اليوم بردٍ يرقى إلى مستوى الحدث الذي أماط اللثام لدول المنطقة عن حقيقة السياسة الأمريكية، والأهداف الصهيونية المبيتة"- إكس
في سابقة خطيرة لم يتوقعها خبراء السياسة والمحللون والاستراتيجيون، ولم تحدث إبان انعقاد مفاوضات السلام بين الولايات المتحدة وكل من فيتنام وطالبان، يتجاوز نتنياهو -المطلوب للعدالة الدولية لارتكابه جرائم الإبادة الجماعية- كل الأعراف والقوانين والشرائع الدولية، ويقفز فوق كل الأصول والتقاليد الدبلوماسية، فيستبيح سيادة دولة قطر -حليفة الولايات المتحدة والوسيط في مفاوضات إبرام صفقة تبادل الأسرى- بذريعة مطاردة قادة حماس المسؤولين عن أحداث السابع من أكتوبر، فيضرب دوحة الخليج العربي مرتكبا مجزرة مروعة جبانة خبيثة غادرة راح ضحيتها 6 شهداء، بإطلاق نحو 12 صاروخ من 15 طائرة حربية مقاتلة اخترقت الأجواء الإقليمية، وعلى مرأى من رادارات قاعدة العديد الجوية الأمريكية الموجودة في قطر، مستهدفا وفد حركة حماس المفاوض بينما كان يناقش مقترح ترامب الكاذب.

لقد حملت هذه الجريمة الجديدة دلالات عديدة، كان أبرزها إسقاط مسار التفاوض بشأن الرهائن، وأن لا نية لدى حكومة نتنياهو اليمينية لإبرام صفقة تبادل، وأن حياة الرهائن ليست من اهتماماتها؛ ما أظهر دور نتنياهو في إفشال عشرات الجولات من المفاوضات، لا سيما بعد أن أبدت حركة حماس مرونة كبيرة، أحرجت من خلالها نتنياهو والإدارة الأمريكية التي تسعى دائما للتغطية على الممارسات الإسرائيلية، وبالتالي ألقت بالمسؤولية عليهما في عدم التوصل إلى اتفاق يفضي إلى إطلاق سراح الأسرى وإنهاء الحرب.

حملت هذه الجريمة الجديدة دلالات عديدة، كان أبرزها إسقاط مسار التفاوض بشأن الرهائن، وأن لا نية لدى حكومة نتنياهو اليمينية لإبرام صفقة تبادل، وأن حياة الرهائن ليست من اهتماماتها؛ ما أظهر دور نتنياهو في إفشال عشرات الجولات من المفاوضات

كما مثلت هذه الجريمة هروبا لنتنياهو من الواقع الميداني المتخم بالفشل، بعد عملية جباليا الفدائية التي سقط فيها 4 جنود إسرائيليين، وبعد عملية القدس التي سقط فيها 6 مستوطنين وعدد من الإصابات الخطيرة؛ واللتين جاءتا ردا على تدمير أبراج غزة واستهداف المدنيين هناك، واستمرار منع دخول المساعدات، والإمعان في حصار التجويع والتعطيش بحق المدنيين، ودفعهم للمغادرة؛ تمهيدا لتنفيذ مخطط التهجير.

في هذا الهروب، يحاول نتنياهو إزاحة مشهد الفشل الأمني والاستخباري، واستبداله بمشهدٍ آخر فيه شيء من النصر الذي طالما وعد به، ولقد بدا هذا في حديثه للجمهور الإسرائيلي قائلا: "سمحت بتنفيذ ضربة دقيقة جراحية ضد قادة الإرهاب في حماس، هؤلاء هم نفس الإرهابيين الذين خططوا وأطلقوا واحتفلوا بالمجازر المروعة في السابع من أكتوبر". وبهذا يحاول نتنياهو طمأنة حلفائه اليمينيين المتطرفين وشركائه في الحكومة بن غفير، وسموتريتش الاستمرار بالضغط العسكري بكل الوسائل لتحقيق أهداف حربهم، كما يحاول إرضاء الشارع الإسرائيلي، الذي أيد بكافة أطيافه جريمة الدوحة؛ إذ وقف زعيم المعارضة لابيد قائلا عن هذه الاغتيالات: "إنها مهمة مقدسة، وعلينا الوقوف إلى جانب الحكومة".

إن هذا العدوان في دلالاته يمثل استخفافا واستهتارا صارخا وشائنا بدور الوسطاء المصريين والقطريين، واستخفافا أيضا بالرأي العام العالمي، والأعراف والقوانين الدولية التي تحكم العلاقات بين الدول. وعكست هذه العربدة الجديدة النزعة الاستعمارية العدوانية التوسعية الإجرامية القائمة على منطق القوة والإجرام، الذي تمثله الصهيونية الدينية الجديدة وعلى رأسها نتنياهو، هذه العقيدة التلمودية المتطرفة التي تعتبر كل الساحات العربية سواء في اليمن ولبنان وسوريا وتونس (حيث استهدف أسطول الصمود مرتين في هناك مؤخرا)؛ مجالا حيويا لأطماع الكيان ومخططاته التوسعية الرامية إلى إقامة ما يسمى لـ"إسرائيل الكبرى"، والتي تضم أجزاء واسعة من السعودية والكويت والعراق والأردن ومصر ولبنان وسوريا.

ولعل ما صرح به رئيس الكنيست الإسرائيلي، عقب هذه الجريمة، ما يدلل على ذلك بقوله: "إن هذه رسالة إلى كل دول الشرق الأوسط، بأن إسرائيل تريد أن تحكم هذه المنطقة". وما هذه العربدة الإجرامية المتهورة إلا بالون اختبار لردود الفعل العربية والدولية على ذلك الطموح الاستعماري، ولاختبار القدرات الجوية الإسرائيلية في استباحة الأجواء العربية والإقليمية، وتأكيد سطوة الكيان العسكرية على المنطقة برمتها، وتجديد الثقة به بوصفه الذراع العسكري الضارب للولايات المتحدة وحلفائها بعدما مُنيَ بالفشل الذريع والمتكرر في ساحات اليمن وقطاع غزة طيلة ما يقارب من عامين. ومن دلالات هذا الهجوم الإجرامي أيضا، سقوط كل الخطوط الحمراء وكل الحصانات وكل السيادات للدول العربية والإقليمية، وتحييد كل القواعد الأمريكية وغيرها، وأن الاحتماء بها لن يفيد أي دولة؛ طالما كان هناك تعارض مع أهداف نتنياهو، سواء التكتيكية منها أو الاستراتيجية المتعلقة بأمن الكيان؛ الأمر الذي أكده سابقا مركز الأمن القومي الإسرائيلي، الذي اعتبر أن حدود أمن الكيان تمتد من نيجيريا إلى أفغانستان، حيث هناك نحو 600 مليون عربي ومسلم؛ وهؤلاء يشكلون تهديدا حقيقيا للكيان مستقبلا.

ومن ناحية أخرى، تأتي المفارقة العجيبة لهذه الحماقة وهذا الاستهتار الأخلاقي والإنساني في صلب هذه الدلالات، وهي استخدام ترامب -رئيس أكبر قوة في العالم ومحرك السياسة العالمية- ليكون مصيدة قاتلة بيد نتنياهو لتنفيذ خططه وغدره، وذلك تأكيد لسياسة الخداع الدبلوماسي الذي مارسه ترامب ضد إيران واليمن وسوريا ولبنان والمقاومة في غزة، من خلال إطلاق التصريحات والوعود الخادعة والمخدرة. واليوم يكرر هذا الخداع والغدر ضد الحليف النفطي المالي الاستثماري القطري، فهذه السياسة التي باتت العمود الفقري لتعامل ترامب وإدارته مع كافة الدول، الصديق والحليف والعدو، خدمة لمصالح "إسرائيل" المارقة.

ألا تعني كل هذه الدلالات شيئا لحلفاء واشنطن، ولكل المراهنين على ترامب وإدارته في هذا التعامل المنحاز للكيان في إدارة الملفات الساخنة، وحل مشكلات المنطقة، وتحقيق ما يسمى "السلام"؟ ألا يقود هذا السلوك الترامبي إلى تأكيد حقيقة الموقف الأمريكي الرافض لأية مبادرة عربية أو دولية لحل القضية الفلسطينية، ونشر الاستقرار في المنطقة؟ وهل سبق أن سمع أحد ما على لسان ترامب ذكره ولو كلمة واحدة إيجابية فيما يتعلق بالدولة الفلسطينية ومبادرة حل الدولتين؟ إن مكانة الولايات المتحدة تقتضي منها القيام بمسؤولياتها تجاه القضايا العالمية بنزاهة، والتوقف عن رعاية إرهاب الدولة الذي تمارسه "إسرائيل"، والعمل على إنفاذ قرارات الشرعية الدولية. وبدلا من ذلك، فإن وزير الخارجية يقوم روبيو "بحث مكافحة التحركات المناهضة لإسرائيل مثل الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية، وبحث إجراءات المحكمتين الجنائية والعدل الدوليتين ضد إسرائيل" كما صرحت بذلك مصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية.

بناء على ما تقدم، آن الأوان لهذا الخداع الأمريكي المتماهي مع مصالح الكيان، والحامي والصائن له أن يتوقف، وعليه، فإن دول المنطقة مطالبة اليوم بردٍ يرقى إلى مستوى الحدث الذي أماط اللثام لدول المنطقة عن حقيقة السياسة الأمريكية، والأهداف الصهيونية المبيتة. لقد باتت عناوين السياسة الأمريكية الترامبية الحالية بعيدة كل البعد عن القيم الأخلاقية والإنسانية في العلاقة بين الدول، بل انطوت على أساليب الخداع والمناورة الدنيئة، والكذب والرياء والنفاق والغدر، والتواطؤ والانحياز الكامل لـ"إسرائيل"، والشراكة والدعم الكاملين لها في شتى المجالات العسكرية والسياسية، والدبلوماسية واللوجستية والاستخبارية.

الأمة العربية والإسلامية أمام منعرجٍ خطيرٍ مليء بالتحديات المصيرية، وستدفع أثمانا باهظة ما لم ترتقِ بإجراءاتها وقراراتها في قمتها القادمة إلى مستوى الجريمة الحدث، الممتدة من غزة الصمود والدمار والدم والتجويع إلى دوحة العرب والخليج

لذلك وبناء على هذا الواقع، من حق المواطن العربي أن يتساءل: لماذا لم تُفعّل الصواريخ في قاعدة العديد الأمريكية لمواجهة الطائرات الإسرائيلية الحربية التي قامت باستهداف الوفد المفاوض لحماس؛ الذي كان مجتمعا لمناقشة مقترح الكذب والخداع الذي قدمه ترامب بشأن صفقة تبادل الأسرى، بينما استُخدِمَت هذه القاعدة لمواجهة صواريخ إيران المتجهة إلى دولة الكيان في المواجهات الأخيرة بينهما؟ ألا يعكس هذا السلوك شكوكا حول الشراكة الحقيقية لترامب مع نتنياهو في هذه الجريمة؟ وما يؤكد هذه الشكوك تصريح ترامب الذي لم يستنكر ما وصفه بـ"الحادث" وليس بالعدوان، معتبرا "استهداف قادة حماس هدفا يستحق السعي له"، واكتفى بالقول: "أنا غير مسرور لما حدث"، واعدا أمير قطر بأن "هذا لن يتكرر في قطر"، وكأن هذا الوعد يقتصر على قطر حصريا!!

أمام هذا التغول الإسرائيلي والأمريكي، وفي ظل هذه السياسة الرعناء التي تهدد ثروات ومقدرات الأمة، وأمنها القومي ووجودها، لا يُنتظر منها حشد الجيوش الجرارة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي ومجازره المتكررة، ولا يُنتظر منها أيضا وضع إستراتيجية دفاعية، لدرء الخطر عن مواطنيها وأوطانها؛ إن ما ينتظره المواطن العربي صونا للكرامة والسيادة، والشرف العربي: وقف كل أشكال التطبيع مع الكيان وطرد السفراء وإغلاق سفاراته، ووقف العمل بالاتفاقات الإبراهيمية، وإغلاق مكاتب التنسيق، ووقف التعاون التجاري والسياحي، وإغلاق الأجواء أمام الطائرات الإسرائيلية.

أما على صعيد العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ فيجب وضعها على محك الحقيقة، وفق معايير احترام سيادة الدول، ورفض ازدواجية المعايير والانحياز الكامل لدولة الاحتلال، والعمل على تقويض المصالح الأمريكية واستثماراتها في المنطقة، والتلويح باستخدام سلاح النفط والغاز، وإغلاق قاعدة العديد الجوية وغيرها؛ لعدم فعاليتها وجدواها بالدفاع عن سيادة قطر. ومن جهة أخرى، العمل مع المجتمع الدولي وهيئاته على تفعيل القرارات والإجراءات المتخذة بحق الكيان المارق وقادته، وتقديمهم للعدالة الدولية، وفرض عقوبات اقتصادية فعالة على دولة الاحتلال، ومنع تصدير السلاح لها؛ للمساهمة بوقف مجازر الإبادة الجماعية في غزة، وإفشال مخطط تهجير الغزاويين.

إن هذا كله يتطلب صياغة تحالفات جديدة مع قوى دولية تدعمها في التخلص من السطوة الأمريكية، وتمكنها من مواجهة المخاطر التي تحدق بها.

إن الأمة العربية والإسلامية أمام منعرجٍ خطيرٍ مليء بالتحديات المصيرية، وستدفع أثمانا باهظة ما لم ترتقِ بإجراءاتها وقراراتها في قمتها القادمة إلى مستوى الجريمة الحدث، الممتدة من غزة الصمود والدمار والدم والتجويع إلى دوحة العرب والخليج.

ahmadoweidat2@gmail.com