قضايا وآراء

دلالات تدمير غزة

"مدينة كغزة لن تموت، فهي باقية كما بقيت روما ومات نيرون"- الأناضول
لا عجب، ولا تساؤل، ولا استغراب فيما يهدد به نتنياهو وقادة الكيان الإرهابيين من تدميرٍ لغزة الممنهج بيتا بيتا، وقد بدأوا به فعلا ولم يعد مجرد تهديد أو تلميح عبر وسائل الإعلام العبرية، لكن السؤال: ما هي دلالات هذه الوحشية والبربرية من التدمير؟

لقد أوجعت غزة ومحيطها حي الزيتون وجباليا والشجاعية والشيخ رضوان وبيت لاهيا، ومخيم الشاطئ، وكل أحيائها وشوارعها، حتى رمالها وأنقاضها وأوحالها، لقد أوجعت نتنياهو وقادة جيشه النازي، فأرادوا أن يردّوا الصاع صاعين، بل عشرة أضعاف؛ بأن يجترع أهلها ألما ومعاناة لا حياة من بعدها.

أراد نتنياهو -"نبي إسرائيل" الجديد- الذي طالما كان بمهمةٍ روحانيةٍ وتاريخيةٍ كما زعم؛ أن يفعلها كما فعله من قبله يوشع بن نون، عندما دمّر مدينة أريحا الفلسطينية بعد أن هزمته هزيمة نكراء، وأشبعته وجيشه تقتيلا، وخلّفت فيه ألما وحقدا وحسرة؛ إذ بقي أهلها أعزة يقومون على زراعة أرضهم "ريحاوي يا موز". وها هم أهل غزة ومقاومتها يتحدون "عربات جدعون" الأولى والثانية، ولربما الثالثة، لا تثنيهم "الميركافا" التي أحالوها حطاما، ولا عربة "النمر" بعد أن كسروا أسنانها، ولم يهابوا كل أنواع  إف16 وإف35 وأخواتها الغادرات حاملات الموت والدمار؛ بل تراهم حفاة وعراة وجوعى وعطشى، لكنهم ينشدون "إني عدت من الموت لأحيا وأغني.. وأن أمشي على جرحي وأقاوم وأقاوم".

ما يقوم به نتنياهو هو رسالة إلى الحكام العرب والإقليميين، بعد اختتام أعمال قمة الدوحة العربية والإسلامية الطارئة، للانصياع إلى رغباته ومصالحه، وأنه يستطيع الوصول إلى أي مكان يرغب به، وأن في تدمير غزة مثالا يحتذى به لتدمير أي مدينة في المنطقة

لقد أرهب نتنياهو ورئيس أركانه وقادة جيشه الفاشيين مشهدُ صمود أبراج غزة؛ فكانت كالجبال الشامخات، عصية على الاستسلام فتباهى بتدمير 50 منها في أول يومين من غزوته النكراء. إنها غريزة الحقد والثأر والانتقام لقتلاه وهزائمه المتكررة، وفشله في تحقيق هدفه المنشود الضائع "النصر المطلق". إنه العقاب الجماعي للحاضنة الشعبية للمقاومة، وللنيل من صمود أهل غزة الأسطوري ورفضهم التهجير.

أراد نتنياهو وجيشه تسوية غزة بالأرض؛ ليحرم المقاومين من الاستفادة من أنقاض وركام أبنيتها، التي دمرها سعيا منه لكشف المخابئ والأنفاق لتدميرها، ولسحق المقاتلين وقدراتهم، وضرب بنيتهم التحتية؛ ظنا منه أنه سيعثر على الأسرى، ويجرّد المقاومة من ورقة المساومة عليهم؛ لإنهاء حربه الإجرامية التي استنكرها وأدانها العالم برمته بعد صمت وخذلان طويلين امتد لنحو عامين.

إن تدمير غزة وممتلكات أهلها، وإنذارهم للاتجاه نحو الجنوب ما هو سوى خطوة من مخطط التهجير القسري، بعد أن رفض أهل غزة ترك بيوتهم، وقرروا الصمود هناك برغم حصار التجويع، ومنع حصولهم على المساعدات، وتحت وابل من القصف والإبادة. لقد هدف نتنياهو إلى إضعاف الروح المعنوية للغزاويين، ودفعهم نحو خياراتٍ ثلاثة، مثلما ذكرها الوزير الإرهابي سموتريتش عندما قال غير مرة: "على الفلسطينيين أن يرحلوا، أو يخضعوا لنا أو يموتوا".

في الواقع علينا الإقرار بأن الأمر لا يقتصر على تدمير غزة فحسب، بل هناك ما وراء غزة، ولا بد من التذكير هنا بأن ما يقوم به نتنياهو وجيشه هو تطبيق عملي لما خطط له مئير بن شبات، رئيس مجلس الأمن القومي ورئيس الشاباك سابقا، والذي يؤمن بأن "العمل العسكري هو الذي يحقق الهدف السياسي، وأن هناك الكثير من العمل العسكري يجب القيام به بعد غزة، يطال ما بعد نهر الأردن والجولان". هذا ما جاء في مقاله الأخير في صحيفة "إسرائيل هيوم". لذلك إن ما يجري في غزة من تدمير شامل لكل شيء على وجه أرضها يرمي إلى أبعد من ذلك، ويدخل في حسابات مخطط إنشاء ممر داود، وشق قناة بن غوريون البديلة عن قناة السويس؛ لحرمان الشعب المصري من عائداتها، وكذلك يمهد الطريق وصولا لمشروع "إسرائيل الكبرى". وعرفانا بجميله ولدعمه اللامحدود، سيرصف الطريق للمشروع الاستثماري للمطور العقاري ترامب، وذلك بتحويل غزة إلى "ريفيرا الشرق"، وهو القائل بأنه "غيّر وجه الشرق الأوسط" سياسيا وعسكريا، والآن يريد استثماره استعماريا واقتصاديا.

إن ما يقوم به نتنياهو هو رسالة إلى الحكام العرب والإقليميين، بعد اختتام أعمال قمة الدوحة العربية والإسلامية الطارئة، للانصياع إلى رغباته ومصالحه، وأنه يستطيع الوصول إلى أي مكان يرغب به، وأن في تدمير غزة مثالا يحتذى به لتدمير أي مدينة في المنطقة. إنه منطق القوة والغطرسة التي يتحدى نتنياهو العالم به، مدعوما من حليفه وشريكه الاستراتيجي، وهو الذراع الضارب له، والضامن لمصالحه، والقاعدة المتقدمة له على حدود الشرق.

من دلالات هذا التدمير الممنهج تدمير الجانب الحضري العمراني من المدينة بعد أن دمّر الجانب التراثي والتاريخي، ما يضع عراقيل وصعوبات أمام إعادة إعمار غزة، ويهدف بالنتيجة إلى محو هوية غزة وتاريخها

ومن دلالات هذا التدمير الممنهج تدمير الجانب الحضري العمراني من المدينة بعد أن دمّر الجانب التراثي والتاريخي، ما يضع عراقيل وصعوبات أمام إعادة إعمار غزة، ويهدف بالنتيجة إلى محو هوية غزة وتاريخها.

برغم كل هذا التدمير، لا زال الغزاويون يرفضون ترك منازلهم حتى لو دُمّرتْ فوق رؤوسهم؛ فإنهم سينصبون الخيام على أنقاضها، ولقد فعلوا ذلك، ولن ينصاعوا لإنذارات جيش الاحتلال مهما بلغ الثمن. إنها معركة الصمود والثبات والوجود، التي استطاعت أن تحرك الرأي العام العالمي، وزادت من عزلة إسرائيل الدولية، فتسارعت وتيرة الإدانات والاستنكار لهمجية وبربرية الكيان الغاصب؛ لما تشكله هذه الجريمة من انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، ولكافة الشرائع، والأعراف الدولية، وإعلان حقوق الإنسان، وبدأت الكثير من الدول والجهات والمنظمات الدولية والحقوقية باتخاذ إجراءات عملية، لعلها تكون رادعة لوقف هذا التدمير، وهذه الحرب الإجرامية؛ إذ أعلنت المفوضية الأوروبية مقترحا لتعليق جزئي للتجارة مع دولة الكيان، وفرض رسوم جمركية على السلع الإسرائيلية، وفرض عقوبات أيضا على الوزيرين المتطرفين بن غفير وسموتريتش. واليوم، تواجه "إسرائيل" أكبر تظاهرات في شوارع العالم تهتف "فلسطين حرة، أوقفوا حرب الإبادة والتدمير"، وقد تُوّج ذلك باعتراف العديد من الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا وأستراليا وكندا.

إن مدينة كغزة لن تموت، فهي باقية كما بقيت روما ومات نيرون؛ فهي التي أنجبت الصناديد فكانوا أسطورة الصمود والمقاومة.

ahmadoweidat2@gmail.com