لم تعد وحدات قياس الزمن والمسافة وحتى العملات النقدية تحمل ذات معانيها ودلالاتها الطبيعية في قطاع
غزة، مع تواصل حرب الإبادة الإسرائيلية لنحو سنتين، واستشهاد ما يقرب من 65 ألف شخص، وتدمير مختلف مناحي الحياة بشكل منهجي.
وأعلن الاحتلال الإسرائيلي كامل مدينة غزة كـ"منطقة قتال خطيرة" تمهيدا لاحتلالها وتدميرها، وطلب من السكان التوجه إلى منطقة اسمها "إنسانية" جنوب القطاع الذي يمتد على شكل شريط ساحلي ضيق تبلغ مساحته حوالي 365 كيلومترًا مربعًا فقط ويسكنه أكثر من 2 مليون إنسان.
ويأتي إعلان الاحتلال الطلب من السكان
النزوح وسط تدمير شبه تام للطرق ووسائل المواصلات ومنع دخول الغذاء والوقود وكل مقومات الحياة الأساسية، وحتى مع عدم توفر خيام أو حتى وسائل صنعتها من المواد البلدية، ما يعقد حياة السكان المنهكين بشكل لا يوصف.
رحلة العذاب
يمتد طول قطاع غزة من الشمال إلى الجنوب نحو 41 كيلومترًا، بينما يتراوح عرضه بين 6 كيلومترات في أضيق نقطة عند بيت حانون شمالًا و12 كيلومترًا في أوسع نقطة قرب خانيونس ورفح جنوبًا.
وقبل اندلاع حرب الإبادة كانت الرحلة من أقصى شمال القطاع إلى أقصى جنوبه تبلغ ما يزيد عن الساعة بقليل، سواء عبر شارع صلاح الدين أو عبر شارع الرشيد الساحلي، وهما طريقان رئيسيان كانا يربطان كل محافظات قطاع غزة ببعضها البعض.
وبافتراض إزالة الحدود، تبلغ مدة الرحلة من قلب مدينة غزة حتى العاصمة المصرية القاهرة أقل من 8 ساعات، بينما تزيد هذه المدة ربما إلى الضعف فقط من أجل النزوح من المدينة التي تتعرض لمختلف أنواع الإبادة إلى المنطقة الإنسانية التي لا يسلم من القصف الإسرائيلي اليومي.
تقول آية (41 عاما) وهي أم لثلاثة أطفال: إنها اضطرت إلى مغادرة بيت والدها الذي لجأت إليه بعد تدمير منزلها قبل أيام قليلة من وقف إطلاق النار المؤقت الذي بدأ في 19 كانون الثاني/ يناير وانتهى في 18 آذار/ مارس 2025.
وتوضح آية لـ"عربي21" أنها جربت النزوح منذ بدء حرب الإبادة وحتى وقف إطلاق النار المؤقت والسماح للنازحين بالعودة إلى غزة، وحينها ذهبت إلى بيت والدها الذي توفي خلال الحرب بسبب دمار منزلها بشكل كامل، مضيفة "في النزوح أول مرة كان هناك جزء من حياة وإمكانيات ومواصلات وأسواق.. الآن لا يوجد أي شيء".
وتؤكد "المنطقة التي كنا نسكن فيها جرى تكثيف القصف فيها من أجل دفع السكان إلى المغادرة، لم نتمكن من احتمال ما يحدث لذلك غادرنا، لكن مجرد المغادرة كانت أصعب مما يتخيله أي شخص، تمكنا من إرسال بعض حاجاتنا الأساسية قبلنا عبر استئجار شاحنة كبيرة بالشراكة مع بعض الأقارب من أجل أن نجلب ما نعيش عليه في
النزوح الجديد".
وتضيف أن مجرد "إمكانية إيجاد شاحنة تحمل لنا عفشنا وأغراضنا الأساسية رفاهية لا تتوفر للكثير من سكان غزة.. وتكلفة هذه النقلة أكثر من 2500 شيكل (750 دولار)، كما أن إيجاد مكان أو أرض فارغة لوضع هذه الحاجيات ونصب خيمة هو رفاهية أكبر".
وتشير إلى أن زوجها لم يتمكن من إيجاد مكان فارغ في "المنطقة الإنسانية" إنما في منطقة "الزوايدة" وسط القطاع، ورغم أن هذه المنطقة من المفترض أنها تبعد حوالي نصف ساعة فقط عن مدينة غزة، إلا أن الوصول لها استغرق أكثر من 9 ساعات، بداية من البحث عن وسيلة نقل، وصولا إلى المركبات المتهالكة التي تعمل على بدائل الوقود وعدم وجود طرق صالحة للتنقل.
وتقول آية: "كل ذلك يكلف أموالا غير منطقية ولا يصدقها أي عقل خارج غزة.. أن تجد لك مكانا في أرض فارغة بدون أي مقومات من أجل وضع خيمة والعيش حياة بدائية يكلفك في البداية أكثر من 7000 شيكل (حوالي 2000 دولار)، وذلك كبداية وحال توفر كل المستلزمات في الأسواق.. أنا وبقية أفراد عائلتي خارج غزة وبعض المعارف يساعدوننا في هذه المصاريف، لكن معظم سكان غزة ليس لديهم هذا الخيار".
"أين أذهب؟"
يقول ثابت (33 عاما) وهو من الذين بقوا في مدينة غزة خلال المرحلة الأولى من حرب الإبادة حتى الهدنة المؤقتة: إنه "لا يعرف أين يذهب في جنوب قطاع غزة.. كل الذين أعرفهم استشهدوا أو خسروا منازلهم خلال الحرب، والجميع لديه ما يكفيه من المتاعب والمشقة في الظروف الحالية".
ويضيف ثابت لـ"عربي21" أن النزوح في المرحلة الحالية تكلفة مالية ونفسية لا يستطيع أن يتحملها بأي شكل من الأشكال، رغم أن القصف من حوله شديد جدا وكل ليلة يظن أنها الأخيرة له ولعائلته.
ويذكر أنه فقد العديد من الأقارب والأصدقاء خلال حرب الإبادة المستمرة منذ أكثر من 23 شهرا، وهذا بالإضافة إلى عمله ومصدر دخله، وأنه منذ شهور طويلة وخاصة بعد استئناف حرب الإبادة وهو يعيش "يوم بيوم" ولا يدري ماذا سيحصل له غدا.
ويوضح "رغم كل ذلك سأحاول البقاء والنجاة والبحث عن الأمان لعائلتي، فقدت والدي السنة الأولى من الحرب بسبب نفاد أدوية الأمراض المزمنة التي يعاني منها، وابنتي الصغيرتان لديهما سوء في التغذية حتى من قبل اندلاع الحرب.. سنحاول النجاة وربنا يسهل كل الأمور".
"كيف أصنع خيمة؟"
يؤكد محمد (37 عاما) أنه في شهور الحرب الأولى عندما اضطر للنزوح إلى منطقة رفح، التي تدمّرت بشكل كامل لاحقا، تمكن من شراء أخشاب وعدة أمتار من النايلون والقماش من أجل صنع خيمة، وكانت خيمة هشة بالكاد احتملت مرور شتاء واحد.
ويضيف محمد لـ"عربي21" أنه عندما رجع إلى غزة وجد جزءا جيدا من بيته لا يزال قائما، وحينها حاول إصلاح ما أمكنه وأقام فيه حتى وقت قريب قبل النزوح القسري الجديد، موضحا "خرجت تحت النار والقصف الجديد، وتركت خلفي كل شيء مرة أخرى".
ويؤكد أنه حاليا بلا مأوى تقريبا يتنقل من عائلة إلى أخرى من عائلته ومعارفه إلى حين إمكانية صنع خيمة في مكان ما، أو إيجاد منطقة فارغة يقيم عليها نزوحه المتجدد.