بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في العراق يوم الثلاثاء الماضي الموافق 11 من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، قالت المفوضية العليا للانتخابات إنها بانتظار مصادقة المحكمة الاتحادية على النتائج، مشيرة إلى أن نسبة المشاركة فيها بلغت 55 بالمئة من الناخبين المسجلين، بعد أن كانت 23.9 بالمئة حتى منتصف نهار اليوم نفسه.
فيما شددت وكالة رويترز بالقول إن شريحة الشباب العراقيين يرون في الانتخابات بمثابة وسيلة للأحزاب المتنفذة من أجل تقاسم ثروة البلاد النفطية بينها.
وكالة "
أسوشيتد برس" قالت إن الإقبال على المشاركة الشعبية كان ضعيفاً في عدد من مراكز الاقتراع التي زارها مراسلوها في بغداد وعدد من المحافظات، في حين أعلن مسؤولو الانتخابات أن نسبة المشاركة بلغت 55 بالمئة من بين الناخبين المسجلين، لكنها تقل فعلياً عن العدد الإجمالي للناخبين المؤهلين، والبالغ 32 مليون شخص، وبيّنت أن عدد الذين حدّثوا بياناتهم واستلموا بطاقاتهم الانتخابية بلغ 21.4 مليون ناخب فقط، مقارنة بـ 24 مليوناً شاركوا في الانتخابات البرلمانية السابقة عام 2021.
كبح نفوذ الفصائل المسلحة
وأشارت الوكالة إلى أن هذه الانتخابات جاءت بعد تحولات كبيرة شهدتها المنطقة خلال العامين الماضيين، شملت الحرب في غزة ولبنان، والمواجهة القصيرة بين إسرائيل وإيران، وسقوط الرئيس السوري بشار الأسد في كانون الأول الماضي. وأضافت أن الولايات المتحدة كثّفت ضغوطها على الحكومة العراقية لكبح نفوذ الفصائل المسلحة الموالية لإيران، التي شارك بعض مرشحيها في الانتخابات.
ومع تأكيد رئيس الوزراء ورئيس ائتلاف الإعمار والتنمية،
محمد شياع السوداني تصدر ائتلافه للنتائج، نقلت وكالة "أسوشيتد برس" عن السوداني قوله إن: "الانتخابات تؤكد التزام الشعب بالممارسة الديمقراطية"، فيما وصف مايكل نايتس، الباحث في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، السوداني بأنه متعطش للسلطة، متهماً إياه بأنه أجاد اللعبة عبر منح فصائل مسلحة مدرجة على قوائم العقوبات الأمريكية استثمارات بمليارات الدولارات ليعيد تدوير نفسه سياسياً.
وخلال السنوات الثلاث التي قضاها السوداني في منصبه، تضخمت رواتب الحكومة بشكل كبير، مع توفير حوالي مليون وظيفة جديدة، وأصدر السوداني ما يقرب من 9000 رسالة شكر بشأن ترقيات موظفي الدولة مستقبلًا، إلا أن توقيتها أثار انتقادات لاذعة، حيث عُدَّ استغلالًا لسلطته التنفيذية، وصلاحية توزيع الوظائف في القطاع العام لكسب الأصوات، فيما غازل السوداني ترامب قبيل الانتخابات قائلاً إنه سيزور واشنطن مع 50 مليارديراً عراقياً، تزامناً مع انسجامه مع رؤية الرئيس الأمريكي، بحسب ما ذكرته صحيفة نيويورك تايمز.
"انتخابات المليارديرات"
ينفق السياسيون مبالغ طائلة، فيما وصفه خبير في ندوة بمعهد تشاتام هاوس بـ"انتخابات المليارديرات"، وأصبحت الانتخابات استثمارات عالية المخاطر للنخبة، فالنتائج القوية تُترجم إلى نفوذ أكبر خلال مفاوضات ما بعد الانتخابات، حيث يتم التفاوض على النفوذ والوصول إلى موارد الدولة، خاصة وأن القيود الأمريكية الأخيرة على القطاع المصرفي العراقي تسببت في أن يواجه العديد من العراقيين الأثرياء عراقيل في استغلال رؤوس أموالهم بمشاريع محلية، لذا، أصبحت الانتخابات فرصة استثمارية مربحة أخرى.
العراقيون يغادرون البلاد يائسين
ونُقلت وكالة "أسوشيتد برس" عن مدير أحد المراكز قوله إن: "عدد المصوتين لم يتجاوز 60 شخصًا من أصل 3300 ناخب مسجل"، فيما أكد أحد السكان أن مدينة الصدر (شمال شرق بغداد)، بدت مغلقة تقريبًا استجابة لدعوة مقتدى الصدر لمقاطعة الانتخابات، وأشار مواطن آخر إلى أن هذه الحكومة فاسدة، وما بعدها ستكون فاسدة، كما أن الحكومة السابقة كانت فاسدة أيضًا.
وإلى مدينة كركوك، التي شهدت اشتباكاً مسلحاً ليلة الانتخابات بين أنصار "الاتحاد الوطني الكردستاني" و"الجبهة التركمانية العراقية" وأسفر عن مقتل اثنين من أفراد الأمن وإصابة مدنيين، فُتحت مراكز الاقتراع أبوابها في الموعد المحدد وسط تدفق محدود للناخبين، رغم شعور عام بعدم الاكتراث، كما نقلت الوكالة عن أحد الناخبين قوله: "صوّتُ بدافع العادة لا الأمل، فالأوضاع لا تتغير سوى في وجوه النواب"، فيما قالت بان بهنام، وهي من الأقلية الآشورية، إن "العراقيين ما زالوا يغادرون البلاد يائسين، لكن التصويت أصبح مجرد عادة أكثر من كونه أملاً بالتغيير".
وأوضحت الـ"أسوشيتد برس"، أن الأجهزة الأمنية ألقت القبض الأسبوع الماضي على 46 شخصاً بتهمة شراء وبيع بطاقات انتخابية بشكل غير قانوني في عدد من المحافظات، وضبطت بحوزتهم نحو 1841 بطاقة، وأضافت أن نتائج الانتخابات قد تواجه طعوناً قانونية، بعد تصريح رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان بأن موعد الاقتراع غير دستوري، مبيناً أن التصويت كان يفترض أن يُجرى في 24 تشرين الثاني/نوفمبر بدلاً من 11 منه، وهو ما يمكن أن تستخدمه بعض القوى السياسية كـ"ورقة احتفاظ" يمكن اللجوء إليها إذا تعقّد تشكيل الحكومة، واليوم أعلنت مفوضية الانتخابات أن عدد الشكاوى المتعلقة بالتصويت الخاص والعام وصلت إلى 101 شكوى.
تحذير الصدر.. "لغم" يهدد تشكيل الحكومة
بعد إغلاق صناديق الاقتراع، نشر مقتدى الصدر تغريدة أكد فيها أنه "سيتحرك مستقبلاً" إذا رأى أن النتائج تؤدي إلى "إعادة العراق إلى ساحة الفساد"، وبعد ساعات من التغريدة، وجه عتباً واضحاً إلى المرجعية الدينية بشأن موقفها من الانتخابات المغاير لموقف الصدر الذي دعا إلى المقاطعة.
ونشر صالح محمد العراقي، الذي يُطلق عليه وصف "وزير الصدر"، نصاً بعنوان (عتب محب)، نقله عن مقتدى الصدر، وتضمن تعليقاً على دعوة ممثل المرجع الديني علي السيستاني، الشيخ عبد المهدي الكربلائي، إلى المشاركة في الانتخابات واختيار الأصلح.
وأعادت قناة كربلاء التابعة للعتبة الحسينية التي يُشرف عليها عبد المهدي الكربلائي، نشر مقطع مصور لعبد المهدي، يعود لسبع سنوات سابقة، حث فيها آنذاك على المشاركة بالاقتراع، وبيّن أن المقاطعة لا تنفع في دفع الفاسدين، بل ويتبنى انتخاب الأصلح، وعلى إثر ذلك، التقى نجل المرجعية محمد رضا السيستاني بعبد المهدي الكربلائي، معاتباً إياه -بحسب منصات تواصل مقربة من المرجعية- على ما سببه من إحراج مع المقاطعين وموقف قناة كربلاء بإعادة بث خطاب قديم فُسِّر على أن المرجعية متحزبة وليست محايدة.
وبسبب امتلاك التيار الصدري قاعدة اجتماعية واسعة وقدرة على تحريك الشارع، حتى مع غيابه الكامل عن العملية الانتخابية، فإن التقديرات تشير إلى أن أي حكومة تتشكل دون مراعاة توازنات التيار الصدري قد تواجه حالة اعتراض شعبي أو سياسي في مراحل مبكرة من عملها.
ماذا بعد إعلان النتائج؟
يُحدد الدستور العراقي جدولًا زمنيًا لتشكيل الحكومة بعد الانتخابات، وفي غضون 15 يومًا من التصديق، يتعين على الرئيس المؤقت دعوة البرلمان المنتخب حديثًا للانعقاد، ورغم ذلك فإن كل خطوة تُعد فرصةً للكتل السياسية لانتزاع تنازلات، وتبادل المناصب، وتعزيز أسس نظام المحاصصة المعمول به نظريًا منذ عقدين.
ويُفترض أن تُنتخب الجلسة البرلمانية الأولى، برئاسة أكبر الأعضاء سنًا، رئيسًا ونائبين له بالأغلبية المطلقة، وغالبًا ما تُصبح هذه الفترة ساحةً للمفاوضات السياسية، حيث تُؤجل الأحزاب التصويت وتُبقي الجلسة "مفتوحة" لأشهر، كما حدث في عام 2022، ريثما تتوافق على المواقف وأشكال التحالفات، وبمجرد اختيار رئيس مجلس النواب، تتوجه الأنظار صوب الرئاسة، التي تتطلب تصويتًا برلمانيًا بأغلبية ثلثي الأعضاء، وربما تظهر بعض العوائق مع اشتداد المناورات السياسية، حيث يُمكّن أقلية الثلث من عرقلة تمرير أي اسم قبل أن تُبرم الصفقات خلف الكواليس.
وعندما يتم اختيار الرئيس في نهاية المطاف، يكون أمامه 15 يومًا لترشيح رئيس وزراء من "الكتلة الأكبر". وهنا يبرز التحدي الأكبر؛ ففي حكم صدر عام 2010، فسّر المجلس الأعلى للقوات المسلحة مصطلح "الكتلة الأكبر" على أنه الكتلة التي تُشكّل بعد الانتخابات، وليس القائمة التي فازت بأكبر عدد من المقاعد، وهو ما سمح آنذاك لائتلاف نوري المالكي بالتفوق على ائتلاف إياد علاوي الفائز. وقد رسّخت هذه السابقة، التي أُعيد اعتمادها عام 2019، عملية وُصفت بـ"الابتزاز" بعد الانتخابات كسمة أساسية لتشكيل الحكومة.
بمجرد ترشيحه، يُمنح رئيس الوزراء المكلّف 30 يومًا لتقديم حكومته وبرنامجها إلى البرلمان للتصويت على الثقة، وتشهد هذه المرحلة أيضًا مفاوضات مكثفة، حيث تُقسّم الوزارات المرشّحة بين الكتل الرئيسية، وتستحوذ كل كتلة على حقائب وزارية رئيسية تتناسب مع عدد مقاعدها البرلمانية. ومنذ عام 2005، بلغ متوسط الفترة من التصويت إلى تشكيل الحكومة حوالي 224 يومًا، وتُوزّع المناصب الوزارية والمناصب العليا وفقًا لنظام نقاط غير موثق رسميًا، يُحسب بناءً على عدد المقاعد التي يحصل عليها كل حزب.
الانتخابات.. فرصة لتقاسم الغنائم
قال معهد
تشاتام هاوس إن الانتخابات في العراق ليست استفتاءً على أداء الحكومة، بل فرصة للنخب الحزبية الراسخة لإعادة توزيع سلطتها فيما بينها، وستكون المقاعد التي تُحصد في صناديق الاقتراع بمثابة أوراق ضغط تستخدمها النخب إلى جانب أدوات نفوذ أخرى، بما في ذلك العنف والتعبئة الشعبية، في ظل تنافس الأحزاب على المناصب الحكومية العليا. ورغم أن النظام لا يقسم السلطة صراحة على أساس عرقي أو طائفي على الورق، فإنه في الممارسة العملية يظل خاضعًا بشكل عميق للنظام الطائفي العرقي الذي تم تأسيسه بعد عام 2003.
كيف يتم حشد الناخبين؟
ما زال الكثير من العراقيين يُصوّتون فعليًّا بناءً على شبكات المحسوبية والحوافز المالية أو المادية والتبعية، لذا، ينظر كثير من العراقيين إلى الانتخابات على أنها ممارسة للمحسوبية والفساد. وعلى مدى سنوات، استَحْضَرَ السياسيون العراقيون سياسات الهوية والولاءات العرقية والطائفية لحشد قواعدهم، وإقناع الناخبين بأن واحدًا منهم فقط هو القادر على حماية مصالحهم أو الدفاع عنها ضد التهديدات الخارجية.
وفي الآونة الأخيرة، أدت حركات الاحتجاج العراقية - التي دعت إلى إنهاء النظام العرقي والطائفي - إلى حشد شعبي يستخدم لغة المجتمع المدني وهي الدعوة إلى "الإصلاح"، ومع تراجع الإقبال، اتسمت انتخابات 2025 باستغلال السياسيين لمناصبهم وأموالهم لكسب الأصوات، أما من يشاركون في الانتخابات، فهم على الأرجح أقل ميلاً لأن يكونوا مواطنين عاديين يُدلون بأصواتهم بحرية، بل أولئك المرتبطين بالنظام بشكل أو بآخر.