شهدت
الانتخابات البرلمانية
العراقية التي جرت في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 مفصلا سياسيا جديدا في مسار الحكم ببغداد، بعدما تصدّر ائتلاف "الإعمار والتنمية" بزعامة رئيس الوزراء محمد شياع
السوداني النتائج الأولية بـ 46 مقعدا.
ويضع هذا التقدم البلاد أمام خريطة سياسية تتشكل من جديد وسط نسبة مشاركة بلغت 56.11 بالمئة، وهي الأعلى منذ عام 2018، فيما تستمر التساؤلات حول ما إذا كانت القوى السياسية قادرة على بناء تحالفات تضمن استقرارا فعليا لمؤسسات الدولة، أم أن العراق سيظل في دوامة الانقسامات التي آلفت المشهد السياسي منذ الغزو الأمريكي في 2003.
السوداني يتصدر والمشاركة ترتفع
أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات النتائج الأولية بعد احتساب 99.98 بالمئة من محطات الاقتراع.
وأظهرت النتائج تقدما واضحا لائتلاف "الإعمار والتنمية" على المستوى الوطني، بالتزامن مع تسجيل نسبة مشاركة مرتفعة بلغت 56.11 بالمئة من أصل 21.4 مليون ناخب مسجل، حيث أدلى قرابة 12 مليون ناخب بأصواتهم عبر التصويت العام والخاص وتصويت النازحين، حيث تناقض هذه الأرقام حالة العزوف التي شهدتها انتخابات 2021 والتي لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 41 بالمئة، ما يجسد عودة نسبية لثقة الجمهور بالعملية الانتخابية.
وأبرز التصويت الخاص للقوات الأمنية دورا واضحا في رفع نسبة المشاركة، إذ شارك أكثر من مليون منتسب بنسبة بلغت 82.5 بالمئة، فيما بلغت نسبة تصويت النازحين 77 بالمئة، وأسهم هذا الإقبال الملحوظ في صعود النسبة النهائية إلى مستويات غير مسبوقة منذ سنوات.
تباين كبير بين المحافظات
وأظهرت نتائج المشاركة تفاوتا لافتا بين المحافظات العراقية، حيث سجلت محافظات كردستان وغرب العراق أعلى نسب مشاركة، حيث حازت دهوك على 76.07 بالمئة، وأربيل على 71.65 بالمئة، تلتها الأنبار بنسبة 66.98 بالمئة، ثم صلاح الدين بـ 66 بالمئة.
في المقابل، جاءت المحافظات الجنوبية في ذيل القائمة، إذ سجلت ميسان 40.11 بالمئة فقط رغم أنها مسقط رأس رئيس الوزراء السوداني، تلتها النجف بـ 43.62 بالمئة، ثم واسط وكربلاء بنسبة تقارب 47 بالمئة، أما
بغداد التي تضم 71 مقعدا برلمانيا فقد سجلت نسبة مشاركة بلغت 48.76 بالمئة، وهو رقم يثير التساؤلات حول الحذر السياسي والتغيرات الديموغرافية.
ائتلاف "الإعمار والتنمية" يتصدر الخريطة الوطنية
حقق ائتلاف السوداني تقدما كبيرا بحصوله على 1,317,446 صوتاً، ما يمنحه 46 مقعدا برلمانيا، ليصبح القوة الأكبر داخل الإطار التنسيقي.
وتمكن الائتلاف من تصدر ثماني محافظات هي بغداد، النجف، المثنى، كربلاء، ميسان، ذي قار، القادسية وبابل، وحل ثانيا في صلاح الدين، وحصل في العاصمة بغداد على 411,026 صوتا، متقدما بفارق كبير على حزب "تقدم" الذي نال 284,109 أصوات.
المشهد السني
على صعيد القوى السنية، تمكن حزب "تقدم" بزعامة رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي من تثبيت حضوره في الأنبار وصلاح الدين، حيث حقق 212,489 صوتا في الأنبار و82,729 صوتا في صلاح الدين، وعلى المستوى الوطني حصد الحزب 945,209 أصوات تؤهله لـ 28 مقعدا، ما يجعله القوة السنية الأولى والقوة الثالثة على مستوى العراق.
الأحزاب الكردية بين الثبات والتحالفات
حافظ الحزب الديمقراطي الكردستاني على موقعه المتقدم بحصوله على 1,099,826 صوتا و26 مقعدا، وتصدر في دهوك وأربيل وأجزاء من نينوى، أما الاتحاد الوطني الكردستاني فحصد 548,296 صوتاً تؤهله لـ 15 مقعدا، وتصدر في السليمانية وكركوكـ وتشير هذه الخريطة إلى استمرار الانقسام التقليدي بين الحزبين، مع احتفاظ كل طرف بعمقه الجغرافي.
قوى الإطار التنسيقي.. تراجع نسبي
حل ائتلاف "دولة القانون" بزعامة نوري المالكي رابعاً وطنياً بـ 710,437 صوتاً و27 مقعداً. كما حققت منظمة بدر حضوراً لافتاً بحصولها على 556,607 أصوات و18 مقعداً، وتصدرها في محافظة ديالى. أما كتلة "الصادقون" التابعة لعصائب أهل الحق فحازت 685,964 صوتاً و27 مقعداً.
غياب التيار الصدري يترك فراغا واسعا
واصل التيار الصدري مقاطعته للعملية الانتخابية للمرة الثانية، وهو ما أثر بشكل مباشر على نسب المشاركة خصوصاً في المحافظات الجنوبية. فوز السوداني جاء مستفيداً من غياب التيار الذي كان قد حاز 73 مقعدا في انتخابات 2021.
بدوره، أكد الباحث السياسي، عائد الهلالي أن أشار إلى أن مقتدى الصدر يراقب المشهد السياسي عن كثب، وأن صيامه عن العمل السياسي لن يستمر طويلا، إذ يطالب القوى الحالية بإصلاحات حقيقية.
المشهد المقبل.. مفاوضات معقدة
مع ظهور النتائج، يدخل العراق مرحلة معقدة من المفاوضات، فالدستور يمنح الكتلة الأكبر حق ترشيح رئيس الوزراء، لكن الخلاف يكمن في تعريف تلك الكتلة: هل هي الفائزة في الانتخابات، أم تلك التي تتشكل داخل البرلمان بعد التحالفات؟ هذه الإشكالية كانت محور نزاع سياسي منذ 2010 وحتى اليوم.
السوداني بحاجة لتحالف واسع، إذ لا يستطيع تشكيل حكومة بـ 46 مقعدا فقط، ما يعني ضرورة التفاهم مع الحلبوسي والديمقراطي الكردستاني، إضافة إلى مكونات الإطار التنسيقي الذي يسعى هو الآخر لفرض نفسه ككتلة أكبر.
دور الولايات المتحدة وتراجع النفوذ الإيراني
يشير الدكتور إحسان الشمري، رئيس مركز التفكير السياسي العراقي، إلى أن تزامن الانتخابات مع التحولات في السياسة الأمريكية تجاه العراق، وما وصفه بـ"الاستدارة الأمريكية"، قد يؤثر بصورة مباشرة في رسم ملامح الخارطة السياسية المقبلة في البلاد.
وأضاف أن هذا التغيير يأتي في وقت تعاني فيه إيران من انكسار مشروعها الإقليمي في لبنان وسوريا وعدة مناطق أخرى، وهو ما يدفعها إلى إعادة تموضع نفوذها عبر نتائج الانتخابات العراقية، لأنها لا تريد أن تخسر العراق حتى على المدى المتوسط، لما يمثله من أهمية لمصالحها الاستراتيجية.
كما أوضح الهلاي أن المجتمع الدولي والإقليمي يراقب التجربة العراقية عن قرب ويريد استمرار نجاحها، وأن أي تأخير في تشكيل الحكومة سيُنظر إليه سلبًا.
وبين أن السوداني يتمتع بقبول إقليمي ودولي واسع نتيجة سياساته المتوازنة، وعلاقاته الجيدة مع واشنطن ودول الجوار العربي.
توازنات جديدة داخل البيت الشيعي
وفي قراءته للنتائج، أشار الشمري إلى أن تقدم ائتلاف "التنمية والإعمار" الذي يقوده رئيس الوزراء محمد شياع السوداني يمثل "لحظة فارقة" في المشهد السياسي العراقي، خصوصا أنه تفوق على "الإطار التنسيقي" الذي يمثل القوى الشيعية التقليدية.
ويرى أن العراق اليوم أمام توازن قوى جديد داخل البيت الشيعي، في ظل تراجع واضح للزعامات التقليدية التي هيمنت على الحكم طوال العقدين الماضيين.
يعتبر الشمري أن تقدم السوداني يمثل "لحظة فارقة" في البيت الشيعي، لأنه تفوق على الإطار التنسيقي الذي ظل ممسكا بالقرار السياسي منذ 2003، ويعتقد أن هذه النتائج تعبر عن "تصويت عقابي" من الجمهور ضد الأحزاب الشيعية التقليدية التي خيّبت آمال العراقيين طوال عقدين.
ويضيف أن الإطار التنسيقي قد يسعى لإعلان نفسه الكتلة الأكبر أو حتى تفجير قائمة السوداني من الداخل لإضعافه، كما حدث في تجارب سياسية سابقة.
تحذيرات من تكرار سيناريو 2021
يقول الشمّري إن التحالفات السابقة مثل تحالف "الصدر وتقدم والديمقراطي" لن تتكرر، لأن هذه القوى لا ترغب بالدخول في صراع شيعي شيعي جديد، كما يرى أن القوى السنية والكردية ستنتظر "اتفاق البيت الشيعي" قبل إعلان مواقفها النهائية.
من جانبه، أشار الباحث في الشأن السياسي، مخلد حازم إلى أن مرحلة تشكيل الحكومة الجديدة لن تكون سهلة، لكنها تستدعي تعاون الكتل السياسية لتجنب الانسداد السياسي، خصوصا مع وجود مخاطر إقليمية قد تؤثر على الداخل العراقي.
جيل الشباب وإحباط ما بعد الانتخابات
يختتم الشمّري بأن الجيل الشبابي العراقي يعيش "أعلى مستويات الإحباط" بسبب غياب قوى مدنية جديدة وغياب التغيير الحقيقي، ويرى أن هذا الإحباط قد يقود إلى موجة احتجاجات جديدة، خصوصاً مع استعداد التيار الصدري للعودة إلى الساحة عبر عنوان "المعارضة الشعبية".