قضايا وآراء

"الأوطاد" في تونس: من مواجهة دولة "الاستعمار الجديد" إلى التحالف الاستراتيجي معها

عادل بن عبد الله
"حرف الصراع عن مداراته الاجتماعية والاقتصادية إلى مدار الصراع الهوياتي القاتل"- جيتي
"حرف الصراع عن مداراته الاجتماعية والاقتصادية إلى مدار الصراع الهوياتي القاتل"- جيتي
لقد جاءت "الثورة التونسية" وجميعُ محطاتها الانتخابية -منذ المرحلة التأسيسية- لتؤكد وجود "قوى نوعية" أو "أقليات أيديولوجية" لا علاقة لأهميتها بقاعدتها الانتخابية أو عمقها الشعبي. فقوة هذه "الأقليات" ترتبط أساسا بالدولة وبالمجتمع المدني، وكذلك بتقاطعاتها الاستراتيجية في أغلب الأحيان مع النواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي (المرّكب الجهوي-الأمني-المالي) رغم بعض الخلافات أو الصراعات السياقية التي فرّقت بينهم سواء قبل الثورة أو بعدها.

ورغم اختلاف مسميات هذه "الأقليات" واختلاف مرجعياتها الأيديولوجية، فإنها تشترك جميعا في أصولها اليسارية الماركسية أو القومية (بجناحيها الناصري والبعثي). ولعلّ أهم هذه الأقليات هي تلك التنظيمات المنتمية إلى "العائلة الوطنية الديمقراطية" المعروفة اختصارا باسم "الوطد" (الوطنيون الديمقراطيون). وهي "عائلة" كان لها تأثير عظيم -من خلال تموقعاتها المختلفة في الإعلام والثقافة والنقابات المهنية والأمنية والمنظمات الحقوقية وغيرها- في نسف مسار الانتقال الديمقراطي؛ من خلال تغذية الصراعات الهوياتية ومن خلال الاستهداف الممنهج لأي مشروع مواطني يتخارج مع أساطير الدولة-الأمة ويطرح إعادة التفاوض السلمي على المشترك الوطني بعيدا عن وصاية النخب، كما كان لها دور محوري في التمهيد لإجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 ودعمها من خلال أهم رموزها وإن لم يكن كلهم.

"عائلة" كان لها تأثير عظيم -من خلال تموقعاتها المختلفة في الإعلام والثقافة والنقابات المهنية والأمنية والمنظمات الحقوقية وغيرها- في نسف مسار الانتقال الديمقراطي؛ من خلال تغذية الصراعات الهوياتية ومن خلال الاستهداف الممنهج لأي مشروع مواطني يتخارج مع أساطير الدولة-الأمة ويطرح إعادة التفاوض السلمي على المشترك الوطني بعيدا عن وصاية النخب

بحكم علاقة التعامد الوظيفي بين رموز الوطد وورثة المنظومة القديمة بعد الثورة، وبحكم الدفاع المستميت من هؤلاء عن البورقيبية باعتبارها "الخطاب الكبير" الذي لا يحق لأي فاعل جماعي وضعه موضع التساؤل والمراجعة، فإن غير المختص في التاريخ السياسي لتونس سيجد صعوبة في تصديق أن هذا "الوطد" ذاته هو من اعتبر دولة الاستقلال دولةً للاستعمار الجديد، وهو نفسه من قدّم العديد من المنتسبين إليه شهداء في انتفاضة الخبز، وهو من شارك بكثافة في الأحداث التي سبقت الثورة التونسية.

ولا شك عندنا في أن "الوطد" الذي عرفه التونسيون بعد "الثورة" لم يكن هو وطد المسافة النقدية الجذرية من "طبيعة المجتمع" ومن دولة الاستقلال الصوري عن فرنسا، ولم يكن هو وطد الشعارات الثورية المتخففة من الوصم الأيديولوجي، بل هو وطد يجد أصوله النظرية في أحداث كلية منوبة سنة 1982، أي تلك "المجزرة" التي كان الطلبة الإسلاميون "ضحيتها"؛ لا بأيدي الأجهزة الرسمية، بل بأيدي خصومهم الأيديولوجيين من اليساريين. لقد كانت واقعة منوبة فاتحة علاقة التعامد الوظيفي بين الدولة وبين "الوطد" وبعض مكونات اليسار، وهي علاقة ستصبح أحد ملامح نظام المخلوع بعد قرار النظام استئصال حركة النهضة عبر مقاربة أمنية-قضائية كان للوطد فيها دور مركزي تنظيرا/تبريرا وممارسة.

رغم نزعة الاستعلاء التي طبعت كلامه خلال عشرية الانتقال الديمقراطي (أو العشرية السوداء كما يُسميها أغلب مكونات اليسار الوظيفي وورثة المنظومة القديمة وأنصار تصحيح المسار)، فإن الوطدي السابق محسن مرزوق لم يكن مجانبا للصواب عندما صرح ذات مرة بأن الواحد منهم -أي من "الحداثيين" على مذهب النخب التونسية- يعادل ألف شخص من غير "الحداثيين". كما أنه لم يقل غير الحقيقة -أي حقيقة نظرة "الحداثيين" لخصومهم- عندما قسّم التونسيين على أساس "لون الدم": أصحاب الدماء الحمراء وأصحاب الدماء السوداء. فهذه الشخصية اليسارية التي احتلت مواقع متقدمة في حركة نداء تونس (الواجهة الأساسية للمنظومة القديمة وحلفائها في اليسار الوظيفي) لم تقم إلا بتجلية ما يخفيه غيرها.

وإذا كان "الوطنيون الديمقراطيون" يحصرون نظريا مفهومي الوطنية والديمقراطية في أطروحاتهم الفكرية، فإنهم عمليا قد قبلوا منذ عهد المخلوع أن يكونوا -في أغلبهم الأعم- جزءا من "عائلة ديمقراطية" أكبر بقيادة النواة الصلبة لما كانوا يُسمونه في أدبياتهم السياسية منظومة "الاستعمار الجديد". وهي "انعطافة" جذرية تجلت في انزياح شق كبير من اليساريين "من تبني المقولات الصلبة للماركسية اللينينة وتفرعاتها إلى مواقع أيديولوجية جديدة يتم فيها التركيز على المساواة الجندرية بدلا من المساواة الطبقية أو بالترافق معها. كما يحتل فيها الدفاع عن الحريات الفردية الخصوصية وحقوق الأقليات مكانة محورية" (الدكتور عبد اللطيف الهرماسي، تفاعلا مع مانيفستو اليسار التونسي": أي يسار وأية سردية؟ المفكرة القانونية، 4 نيسان/ أبريل 2024).

في مقاله الوارد أعلاه، أشار الدكتور الهرماسي -وهو مناضل معروف ينتمي إلى اليسار الاجتماعي- إلى علاقة هذه "الانعطافة" بالتمويلات الغربية (خاصة التمويلات الألمانية والفرنسية)، كما لم يغب عن فكره الموضوعي الطبيعة الحداثوية المتطرفة لسردية اليسار الوظيفي في عهد المخلوع. ولكن ما غاب عن أطروحة الدكتور الهرماسي هو ربط هذا اليسار بفكرة التناقض الرئيس والتناقض الثانوي وبالموقف الماركسي من الإسلام في ذاته، وليس من الإسلاميين فحسب، وكذلك ربط علاقة التعامد بين الوطد وبعض مكونات اليسار الماركسي والقومي؛ وبين الدولة باحتياجات منظومة الحكم التجمعية إلى هذه السردية المتطرفة على صعيدين: أولا على صعيد مواجهة "الإسلاميين"، فالنظام يحتاج إلى شريك/ حليف موثوق لمواجهة هؤلاء، وهو ما يتوفر في اليسار، خاصة الوطد الذي يشهد تاريخه أنه "عدو وجودي" للإسلاميين منذ واقعة كلية منوبة، ولذلك كان من مصلحة النظام تصعيد هؤلاء إلى مواقع القرار والتنفيذ الأمني والمدني والسياسي، وثانيا حاجة النظام إلى فكر يساري متطرف يوازي ما يسميه "التطرف الإسلامي" ليظهر أمام الرأي العام بمظهر "المعتدل" بين تطرفين. كما أن الدكتور الهرماسي لم يفصّل القول في الدور المحوري للغرب في بناء هذا التحالف بين النواة الصلبة للحكم وبين اليسار الوظيفي.

بتبني اليسار الوظيفي أو يسار الدولة "أكثر التأويلات ليبرالية وفردانية لبنود الميثاق العالمي لحقوق الانسان والمعاهدات الدولية"، فإن هذا اليسار -خاصة الوطد- قد أصبح عدوا وجوديا للإسلاميين ولكل التأويلات التي "لا تترك مجالا للخصوصيات الثقافية" كما ذكر الدكتور الهرماسي نفسه. ولكنّ عداوة اليسار المرتد عن مقولة الصراع الطبقي لمنظومة الحكم -أو للرجعية البرجوازية- دُفعت إلى هامش الخطاب والممارسة بحكم "المشترك الحداثي"، بينما احتلت عداوة "الرجعية الدينية" صدارة المشهد بحكم صدور تلك "الرجعية" عن منظومة فكرية ما قبل حداثية.

وقد كانت الثورة التونسية "نظريا" فرصة لهذا اليسار قد يختار مسلكا من المسلكين اللذين تبناهما منذ سبعينات القرن الماضي: إما استعادة الخطاب النقدي لدولة الاستقلال باعتبارها دولة الاستعمار الجديد، وللبورقيبية باعتبارها أيديولوجيا هذا الاستعمار "المُتونس"، والبحث بالتالي عن تأسيس سردية "مواطنية" جديدة مع خصومهم الأيديولوجيين من الإسلاميين، وإما مواصلة الدور الوظيفي الذي لعبته أغلب مكونات اليسار خلال حكم المخلوع، وبالتحديد بعد احتياج النظام لها في صراعه ضد حركة النهضة، وهو الصراع الذي أدى إلى انفتاح "التجمع" والبناية الرمادية (أي وزارة الداخلية) والمجتمع المدني والنقابات والإعلام أمامها للقيام بدورين أساسيين: خدمة النظام وتبرير سياساته القمعية القائمة على "العنصرية الثقافية" والتمييز على أساس الهوية الأيديولوجية (في مستوى الأفكار وفي مستوى "الصورة المرئية")، وكذلك منع ما يُسمّونه "اختراق" أجهزة الدولة والمجتمع المدني من "الإسلاميين"، أي منع الاشتغال الطبيعي والحر لكل الأجسام الوسيطة "القانونية" ومنع أي وجود للإسلاميين فيها.

لا يخفى على أي متابع للشأن التونسي أن "الوطد" بمختلف أطيافه الوازنة قد اختار الفرضية أو الإمكان التاريخي الثاني، أي مواصلة علاقة التذيل للنواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي وخدمة استراتيجيتها في استعادة التوازن؛ بعد الاختلال المؤقت الذي أعقب رحيل المخلوع ورافق المد الثوري في الفترات الأولى من "الثورة".

كان "للأوطاد" من مواقعهم المختلفة دور مركزي في عودة ورثة المنظومة القديمة إلى الواجهة باعتبارهم جزءا من "العائلة الديمقراطية"، كما كان لهم دور كبير في حرف الصراع عن مداراته الاجتماعية والاقتصادية إلى مدار الصراع الهوياتي القاتل، ولم يدخروا جهدا في تسميم المشهد العام عبر أذرعهم النقابية والحقوقية والإعلامية

فقد كان لـ"الأوطاد" من مواقعهم المختلفة دور مركزي في عودة ورثة المنظومة القديمة إلى الواجهة باعتبارهم جزءا من "العائلة الديمقراطية"، كما كان لهم دور كبير في حرف الصراع عن مداراته الاجتماعية والاقتصادية إلى مدار الصراع الهوياتي القاتل، ولم يدخروا جهدا في تسميم المشهد العام عبر أذرعهم النقابية والحقوقية والإعلامية، وفي الدعوة -منذ الأشهر الأولى من الثورة- إلى "البيان رقم واحد"، أي إلى الانقلاب على التجربة الديمقراطية الهشة، خاصة بعد أن أظهرت كل المحطات الانتخابية عدم تمثيلهم للإرادة الشعبية بالمقدار الذي يدّعونه وتدعيه كل الأقليات الأيديولوجية. وهو ما جعلهم يحرصون على غلق "الفاصلة الديمقراطية" عبر دعمهم اللامشروط للمرحوم الباجي قائد السبسي وحركته بمنطق "الانتخاب المفيد"، ثم سعيهم بعد ذلك إلى إنضاج الشروط الموضوعية والفكرية لإجراءات 25 تموز/ يوليو 2021. ولم يمنعهم موقف "تصحيح المسار" الرافض لأي شراكة مع كل "الأجسام الوسيطة" (بما فيها الأجسام الوظيفية) من دعمه عبر ترشحات فردية وعبر إسناد حزبي لم يشذ عنه إلا شق "الوطد الموحّد" الذي يقوده زياد الأخضر، وهو شذوذ لم يعن ولا يمكن أن يعنيَ بأي حال من الأحوال إمكانية أي التقاء موضوعي/ تكتيكي مع الإسلاميين باعتبارهم العدو الوجودي الحقيقي لليسار الوظيفي.

إن سؤال الدكتور الهرماسي الوارد في عنوان مقاله المرجعي (أي يسار؟ أي سردية؟) هو سؤال قد أجاب عنه الوطد وباقي مكونات اليسار الوظيفي قبل الثورة وبعدها بصورة لا تقبل اللبس (فهم جميعا يسار السلطة، سردية الاستعمار غير المباشر)، ولكنها إجابة لا يمكن أن تختزل اليسار كله ولا يمكن كذلك أن تحجب باقي الأصوات اليسارية التي تتحرك خارج هذا الوعي الوظيفي، بل تتحرك ضده نظريا وعمليا. وليس صوت الدكتور الهرماسي ذاته وكذلك أصوات العديد من ممثلي اليسار الاجتماعي إلا إجابة مواطنية مختلفة لا تحتل مركز المشهد اليساري الآن-وهنا، ولكنها تمتلك القوة النظرية والصلابة الأخلاقية وعناصر حداثة "ما بعد استعمارية" تؤهلها لأن تحتل ذلك المركز ولو بعد حين.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)

خبر عاجل