كتاب عربي 21

حديث المصالحة بين حل التنظيم أو الاعتراف بالنظام!

إن مثل هذه المبادرات الفردية قد تدفع بأجهزة في الدولة للتدخل لحلحلة الموقف باعتبار أنه لا مبرر لحرب الإبادة هذه، أو على الأقل للاطمئنان فلا تندفع في إجراءات تنكيل، أو إعادة اعتقال من سبق اعتقالهم.
مرة أخرى يتم الحديث عن المصالحة بين جماعة الإخوان المسلمين، والنظام المصري، وهي قضية ذهبت في اتجاه آخر، هذه المرة، لأسباب ميزتها عن سابقتها!

فلم تكن في السابق المبادرات مكتوبة، ولكنها أخبار تُنشر هنا وهناك، دون إمكانية التحقق من مصادرها، مثلما قيل عن لقاء جمع قياديًا بالجماعة وأحد الأذرع الإعلامية للسلطة في أذربيجان، وقيل إن اللقاء كان في تركيا بمنزل الدكتور أيمن نور، وكان ممثل الجماعة في هذا اللقاء هو الدكتور حلمي الجزار!

في هذه المرة فإن من أطلق المبادرة هو برلماني سابق عن الجماعة، ومن وُصف بالقيادي بها دون تسمية الموقع التنظيمي له، وبدا أيمن نور في الصورة، وشطح خيال البعض ونطح حدَّ تصور أن الأمير محمد بن سلمان هو من يتبنى المصالحة، ويدفع إليها، وأن لقاء نيوم الأخير الذي جمعه بالرئيس المصري ناقش ذلك، فبدت المبادرة كما لو كانت تنطلق من هذا الاتجاه، والذي عزز من هذا التصور، أن جريدة "الشرق الأوسط" السعودية نشرت المبادرة، وحصلت على تصريحات بهذا المعنى من صاحب المبادرة الدكتور محمد عماد صابر، والراعي الرسمي لها الدكتور أيمن نور!

لا نعرف إلى أي الفريقين ينتمي عماد صابر، وهناك جناحان في تركيا يتنازعان القيادة: جناح الدكتور صلاح عبد الحق، ومجموعة الدكتور محمود حسين، وليس هذا مهمًا؛ فالمهم أن صاحب المبادرة أعلن في وقت لاحق أن مبادرته تعبر عنه، ولإحساسه بالمسؤولية الأخلاقية تجاه المعتقلين، وهو يدعو إلى الاعتراف بالسلطة القائمة، والقبول بالأمر الواقع مقابل الإفراج عن المعتقلين، أي أنها مبادرة تمثل وجهة نظر صاحبها ولا تعبر عن الجماعة، لكنها في الوقت نفسه تتحدث عن اعتراف الجماعة بالسلطة، فكيف يمكن قبول هذا التناقض؟!

مع النظام ضد إسرائيل

وفي مثل هذه الأحوال لا يخلو الأمر من مزايدة قام بها بعض الأفراد (جهاد الحداد نموذجًا)، وهو قيادي في مجموعة محمود حسين، فات أن زعيم مجموعته قال كلامًا قريبًا من ذلك في بودكاست استمر لساعتين، من رجل لم يكن يطل على الناس في أي مناسبة، على نحو كاشف أنها محاولة لإثبات حضور لا أكثر!

فالدكتور محمود حسين اعتبر التحديات التي يواجهها النظام مدخلًا للتقرب منه بالنوافل، فهو مع مؤسسات الدولة، وإذا تعرضت مصر للحرب مع إسرائيل فسوف يقف بجانب الجيش ومع النظام؛ لأنه في حالة دفاع عن تراب الوطن، وهو سلوك إخواني قديم ثبت فشله، ومع ذلك لا يتوقف القوم عن استدعائه في كل أزمة!

عقب هزيمة يونيو/حزيران 1967، أرسل من هم داخل السجون رسائلهم للرئيس جمال عبد الناصر يطلبون إرسالهم على الجبهة لمواجهة العدو الإسرائيلي، حتى إذا انتهت الحرب عادوا من جديد للسجون بنفوس راضية. فمن أخبر القوم أن عبد الناصر لو خُيِّر بين الهزيمة بجيشه أو النصر بهم سيختار أن يُنسب النصر لهم؟!

مع الدعوة التي أطلقها مستشار الرئيس السوري موفق زيدان بحل جماعة الإخوان المسلمين نفسها في بلاد الشام، وجد البعض وجاهة في أن تحل الجماعة الأم نفسها، لوضع حد لهذا الثمن الذي يُدفع من لحم الحي.
لم يلتفت النظام حينذاك لهذه الرسائل، ومع ذلك عاد المرشد العام الحالي ليكرر نفس الكلام أثناء محاكمته، بالطلب بإرسالهم لمحاربة إسرائيل، فمن أخبره أن سلطة يوليو/تموز 2013 تريد أن تخوض حربًا ضد إسرائيل؟!

وهكذا يكرر الدكتور محمود حسين نفس النغمة. صحيح أن هناك تحديًا حقيقيًا يواجه مصر من محاولات إسرائيلية وأمريكية لفرض التهجير، بل والتحرش بالجيش المصري، لكن من صوَّر له أن النظام يحتاج إلى موقفهم المنحاز له، ولإثبات الحب العذري لمؤسسات الدولة؟.. إنه فقر الخيال، وخيال الفقر!

ما وراء المزايدات

وبعيدًا عن مزايدات نفر من الإخوان على مبادرة عماد صابر، فإن الأمر امتد لتكون المزايدة من غيرهم. وإذا كانت مجرد اجتهاد من مطلقها للإفراج عن المعتقلين، فهل لديهم تصور بديل لذلك، مع سجن طويل وقاسٍ لآلاف، وهي قسوة تنتقل للأسر التي لم تعد تجد ما تنفقه على نفسها، ولم تعد تجد ما تنفقه على عائلها في زياراتها للسجون؟ وبعض الأسر لديها أكثر من سجين، وبعضها لا يتمكن من زيارة سجنائها، حتى أن كريمة نقيب أطباء الأسنان الأسبق، والنائب بالبرلمان المصري سابقًا الدكتور حازم فاروق، كتبت تخاطبه بأنها لا تعرف كيف صارت هيئته، بينما المزايدون لا يبحثون إلا عن خلاصهم الفردي، عملًا، وجنسية أخرى، وحضورًا وسط من يزينون لهم أهمية معارضة الحد الأقصى، حيث يتم إعفاؤها حبًا وكرامة من البحث عن حلول. لنكون كمن وصفهم طه حسين بالذين لا يعملون، ويؤذيهم أن يعمل الآخرون!

الحل هو الحل

ومع الدعوة التي أطلقها مستشار الرئيس السوري موفق زيدان بحل جماعة الإخوان المسلمين نفسها في بلاد الشام، وجد البعض وجاهة في أن تحل الجماعة الأم نفسها، لوضع حد لهذا الثمن الذي يُدفع من لحم الحي. وهناك بطبيعة الحال من يتمسكون بالتنظيم ولو كان الثمن هو شحن كل المعتقلين للدار الآخرة. وبعضهم يعلن رفضه لهذا المقترح صراحة، كما لو كان المطلوب هو التحول من الإسلام، وهناك من يناقشون الأمر بحسبانه لن يؤدي إلى نتيجة، فهل يقبل نظام السيسي بهذا الإجراء؟!

ها نحن نصل إلى ذات الأزمة في كل محنة. فمنذ مقتل النقراشي، لقد حدث ما حدث، فماذا نفعل لرفع البلاء، والطرف الآخر يبدو كما لو كان ينتظر الفرصة للتنكيل بالجماعة، وها هي جاءت له على طبق من ذهب! فألم تحتاج كل هذه الأخطاء إلى وقفة بعد كل خطأ؟ وكم هو مؤلم على النفس أن يدفع الإنسان ثمنًا في معركة فقدت أهدافها؟ فمن المسؤول؟!

كان النضال له وجاهته في البداية، والدعوة لعودة الشرعية مرفوعة، والذين اعتُقلوا كان اعتقالهم لهذا السبب، ولعلهم كانوا ينتظرون انتصار إخوانهم في الخارج فيخرجون من السجون مع عودة الرئيس. لكن الآن هم يدفعون ثمنًا بدون قضية، وإذ ظهر الدكتور محمود حسين ضاحكًا مستبشرًا، يوم وفاة الرئيس محمد مرسي وكأنه رفع عن كاهله حملًا ثقيلًا، وقال بعودة الشرعية للشعب، فألم يفكر في نزيف الأرواح الذي يزهق في السجون، علام كان كل هذا؟!

وكيف لجماعة قديمة لم تضع تصوراتها لكل احتمال: من أول إقدامها على السلطة، إلى مواجهة الانقلاب، إلى تخيل الفض وقسوته، إلى مرحلة ما بعده، بل إلى مرحلة ما بعد فقد الورقة الوحيدة في المعركة وهي الخاصة بالرئيس المعزول؟!

منذ مقتل النقراشي، لقد حدث ما حدث، فماذا نفعل لرفع البلاء، والطرف الآخر يبدو كما لو كان ينتظر الفرصة للتنكيل بالجماعة، وها هي جاءت له على طبق من ذهب! فألم تحتاج كل هذه الأخطاء إلى وقفة بعد كل خطأ؟ وكم هو مؤلم على النفس أن يدفع الإنسان ثمنًا في معركة فقدت أهدافها؟ فمن المسؤول؟!
سيدفعون بالذباب الإلكتروني للتشويه، وكيف تطلب مراجعات ممن هم في السجون أو في القبور؟ لكن ما نعرفه جيدًا أن من أُوكلت لهم مهمة مواجهة الانقلاب هم في الخارج لا في السجون ولا في القبور. ومن يملك عقدة الأمر ويكلف الدكتور محمود حسين بالسفر مرتين مع ثورة يناير، وقبل 30 يونيو، ولم يُكلَّف بذلك عصام العريان أو البلتاجي، هو يعرف ما يفعل، ويعرف السقف المطلوب. هل لديهم ذباب إلكتروني؟ هذا ما يعرفه الجنين في بطن أمه إجابته!

ما وراء نشر جريدة الشرق الأوسط

والحال كذلك، فلا تثريب على من يجتهد من أجل الإفراج عن المعتقلين. لكن مع هذا فنحن إزاء مبادرة تفتقد لوجاهتها، لأن الأصل فيها أن تعبر عن الجماعة لا عن شخص مطلقها. لنصل بالتالي إلى بيت القصيد!

لا أعرف ملابسات نشر جريدة «الشرق الأوسط» السعودية للمبادرة، وتصريحات كلٍّ من صاحبها وراعيها أيمن نور. إنما القول إن ولي العهد السعودي يتبنى المصالحة هو كاشف عن أننا أمام خيال شطح ونطح. ومع خالص احترامي وتقديري للدكتور أيمن نور، فهو صاحب سوابق في مثل هذه الإيحاءات، لكنه يناور فلا تمسك عليه شيء، وذلك على عكس الراحل يوسف ندا، الذي كان في محاولته لإبطال كل حراك، يظهر بقصة جديدة لقتل الروح، وآخر مرة أضحك الثكالى وهو يقول إن قيادات بالجيش تواصلت معه وقالت إنها اقتربت من الانقلاب على السيسي!

بيد أني هذه المرة لا أمانع في مناورة أيمن نور، وأثمن مبادرة عماد صابر، فعلى المرء أن يسعى وليس عليه إدراك النجاح!

لكن هل يمكن تصور قبول السيسي بالمصالحة أو حتى بحل الجماعة؟ إن هذا السؤال إجابته في الإجابة على هذه الرشقة من الأسئلة:

هل يخشى السيسي فعلًا من الإخوان؟!

هل يخاف من أن يدعو الإخوان لثورة عليه؟

هل يعتبرهم منافسًا محتملًا له على الحكم؟

إن أزمته اقتصادية بالأساس، فهل لو أبرم مصالحة مع الإخوان، أو انشقت الأرض وابتلعتهم، عمّ الرخاء؟

وفي المقابل فإن مثل هذه المبادرات الفردية قد تدفع بأجهزة في الدولة للتدخل لحلحلة الموقف باعتبار أنه لا مبرر لحرب الإبادة هذه، أو على الأقل للاطمئنان فلا تندفع في إجراءات تنكيل، أو إعادة اعتقال من سبق اعتقالهم.

دعوا من يعمل يتفضل، فليس جائزًا استمرار اعتقال المعتقلين، ضمن ملفات طالبي اللجوء.

ولكل مجتهد نصيب!