في جلسات المقاهي المتخمة باللغو، يهذر يساري يتكلم من أنفه: "لم نطلب
من حماس أن تقود معاركنا القومية فنحن أدرى بشعاب مكتنا". ويسند موقفه رفيق
غفل من زمن طويل عن ستالينغراد واحتفظ فقط بصورة شارب ستالين. إن نصر بيرهيس ليس
نصرا، بل هو كارثة (Une victoire
à la Pyrrhus, ou victoire pyrrhique). ونصر بيرهيس
هو مثال للنصر المكلف بشريا.
المقاومة لم تتوقف عند هذا اللغو، لقد مضت إلى معركتها
عارفة بالأثمان وأسندها شعب عجيب فضل الشهادة على العيش الرخيص في المنافي، وهي
تقف الآن وعلى أكتفاها مسؤولية أمة مقهورة
وتفاوض على مستقبلها في الممرات الضيفة لاستخراج نتيجة نصر لا تتوقف عند غزتهم
الشهيدة. ومن لم يرَ أهمية
المفاوضات الجارية على مستقبل المنطقة فقد حشر نفسه في
زاروب مطعم بيروتي أو تونسي متخم بالصدف البحري، وقد سبق لمظفر النواب أن وصف
ببلاغة لا مزيد عليها وضع الثوريين المتخمين بالسمك والكلام. هذه مفاوضات على مصير
أمة، سنحاول تبين بعض أبعادها بثقة في المقاوم العارف بأبعاد معركته في الزمان
والمكان.
ماذا يعني بقاء السكان في أرضهم؟
أقر العدو مذلولا بأنه توقف عن حلم التهجير، بما يعني بقاء السكان في
أرضهم. خراب هي وأنقاض وخيام تحت الحر وتحت القر لزمن سيطول برغبة العدو الأخيرة
في التعذيب السادي، لكن الذي أخرج تلك الفئة من المقاتلين من رحمه قادر على خوص
معركة تفتيت الإسمنت وإعادة صبه في قوالب، فالطوب أسهل صبا من صناعة الرجال.
يذهب المفاوض للجولة الأخيرة وبيده ورقة قوية؛ شعبه يرفض التهجير ويتمسك بالأرض ولا يحسب دماءه المدفوعة، والعدو خضع، انتهت الحيل، سيتكرر أمامه مشهد الحج الغزاوي من الجنوب إلى الشمال، ولن يجد مهربا من التسليم
بقاء مليوني ساكن في
غزة يعني إعلان الملكية النهائية للأرض، إعلان موجه
للعالم الحي والحر والذي لم يقصر. انتهى التهجير ولن يجد العدو مبررا لخوض عملية
تخريب أخرى، فهو مندحر، لقد تمتع بالتدمير وهذه طبيعته ولكن إعلان حرب أخرى سيكلفه
أكثر، هذا إذا بقي لديه جنود، فالخراب الأعظم وصل إلى قلب جيشه. كان جيشا له دولة
والجيش انكسر، فماذا يبقى من الدولة؟ حقيقة ساطعة ولو رفض كثير من المخمورين مصرين
على أنه عدو لا يقهر. يذهب المفاوض للجولة الأخيرة وبيده ورقة قوية؛ شعبه يرفض
التهجير ويتمسك بالأرض ولا يحسب دماءه المدفوعة، والعدو خضع، انتهت الحيل، سيتكرر
أمامه مشهد الحج الغزاوي من الجنوب إلى الشمال، ولن يجد مهربا من التسليم. غزة
مربع عربي محرر بثمن مكلف، ولكنه محرر وعلى الجوار العربي أن يعي الحقيقة، وسيلح
عليه السؤال: ما جدوى الحصار والتجويع؟ ثم سيبدأ في التملق باسم الحل الإنساني،
وستعبر قوافل التضامن، ربما يصير السماح لها أفضل لهذا الجوار من منعها، لقد خبرنا
تقاليد النفاق وخطاب النفاق. يملك المفاوض أن يقول: نحن باقون بأرضنا فأرونا ماذا
أنتم فاعلون الآن.
ماذا يعني بقاء المقاومة بين
شعبها؟
النواة الصلبة باقية وسنعرف أسماء الشهداء، ولكن الرحم الولاّد للقيادات ما
زال غنيا.. النواه الصلبة سيكون لها أثر في ما بعد المعركة، ستناور لتوحد المؤلفة
قلوبهم وهذا جزء من المعركة نتفهمه. القيادة من خلف الصفوف قيادة مقبولة، والعدو
لن يجد منفذا للطعن والكيد والجوار العربي المنافق سيخضع، أما تسليم السلاح
والتوقف عن حفر الأنفاق فهذا دخل في باب أماني العدو المستحيلة.
هذه لحظة مفصلية نصم فيها الآذان عن حديث الحانات: "انتهت المقاومة".
لنقلها بمعرفة كاملة بالأثمان، إنه ميلاد جديد للمقاومة التي ستكمل معركة تحرير
الأرض، وليس أعرف بهذا الأمر من العدو المرتبك. إنه يستشرف مستقبله أفضل من كل
المخذلين من حول المقاومة، إنه يرى الجيل الذي ولد في معركة الطوفان، والعدو يعرف،
وشعب غزة باق ويقدر المعركة القادمة. يقول المفاوض سلاحنا بأيدينا إذا كنتم تنوون
المزيد من الحرب.
رسائل إلى الجوار الذليل
العدو (صديقهم وحليفهم) فشل ولم يقض على إزعاج المقاومة، لقد أسنده الجوار
بما استطاعوا من البندورة حتى ماء الشرب، لكن حلمهم في إنهاء النزاع لم يتحقق
وزادهم العدو ذلة بإذلال خيارهم المتمثل في عباس الضفة. خيار السلم لم يجلب السلم،
بينما خيار الحرب أوقف العدو عند حده ومنعه من كل نصر. كل القوة الغاشمة فشلت في
الحسم، وهي منذ ثلاثة شهور لا تمارس إلا متعة القتل وكل قتيل (شهيد عندنا) تعلقت
روحه في رقبة من حاصره وجوّعه متمنيا إغلاق ملفه؛ الملف مفتوح.
بقي للجوار أن يناور لعله يفوز على الأقل بصفقات الإعمار ليغطي عورته
الفاضحة. إن سؤالا معلقا فوق حاكم مصر بالخصوص: ما الفائدة من بقائك الآن؟ أنت غير
مفيد بل مكلف، وسيُنظر في دورك ومصيرك، وليس لترامب صديق ولكن له آلة حاسبة دقيقة.
لقد كشفت تلك القافلة التضامنية التي خرجت من تونس أهمية الضغط الإعلامي على العدو وعلى أنظمة الحصار، لقد زرعت فيهم رعبا وهذه لحظة طلب النجدة من قوافل من العالم برا وبحرا وجوا. أصدر السيد ممداني إشارة عالية من نيويورك: "تبني قضية الحق الفلسطيني تجلب الأنصار في صندوق انتخابي"؛ إشارة بالغة الدلالة يمكن لمن يخاطب الطبقة السياسية الغربية أن يحولها إلى قناعة راسخة
هنا يفاوض
الفلسطيني وهو يملك ورقة لا يصرح بها. المقاومة لم تنته يا دول
الحصار/ الجوار، تحدثوا مع المقاومة من موقع مختلف، المقاومة هي المخاطب الوحيد في
غزة ولو موهت وجودها بغلاف سياسي. يقول المفاوض للمحاصِر: إن شعوبكم ترانا
وتناصرنا فخافوا من شعوبكم أنفع لكم.
هل سيكون الأمر متيسرا كما نكتبه؟ إنه أمر أعسر من القتال المباشر، ولكن
جزء من النصر داخل غزة يربك من حاصر غزة فهو نصر خارجها أقره العدو قبل الصديق.
طلب النصرة من العالم
يحتاج المفاوض عن المقاومة أن يطلب النجدة الإنسانية من هذا العالم الغربي
المتحرك، لقد قدم لهم سرديته الحقانية وأسقط سردية العدو، وهذا يحتاج استثمارا إعلاميا
وتضامنا إنسانيا. لقد كشفت تلك القافلة التضامنية التي خرجت من تونس أهمية الضغط
الإعلامي على العدو وعلى أنظمة الحصار، لقد زرعت فيهم رعبا وهذه لحظة طلب النجدة
من قوافل من العالم برا وبحرا وجوا. أصدر السيد ممداني إشارة عالية من نيويورك:
"تبني قضية الحق الفلسطيني تجلب الأنصار في صندوق انتخابي"؛ إشارة بالغة
الدلالة يمكن لمن يخاطب الطبقة السياسية الغربية أن يحولها إلى قناعة راسخة.
نتوقع ضيق الزواريب التفاوضية والضغوط في كل لحظة، ولكن هذا زمن الخروجات
الإعلامية لأنصار الحق الفلسطيني لبدء قوافل التضامن المحرجة للجوار المرتبك
وللعدو المتراجع. شعوب العالم مع الحق الفلسطيني ولا يجب أن تبرد الموجة بل أن
تشتعل.
نثق في ذكاء المفاوض كما وثقنا إلى حد الذهول في حامل البندقية. الجالسون
إلى الطاولة في الدوحة يرون أبعد من غزة، إنهم يرون العرب وقد تحرروا بسلاح غزة
والباقي على الشعوب المقهورة في كل العالم. ذلك المغنّي بذلك الشعار الجبار يجب أن
يصل إلى غزة ويرفع شعاره فوق خرائبها.