نكتب عن مآلات صفقة ترامب مع النظام الرسمي
العربي للغدر بغزة، ونصِفُ
الصفقة بصفقة الغدر ونبحث عن أسباب الاتفاق الغادر بالمقاومة.
نعم هناك اتفاق على الغدر لا نجادل فيه، وسببه ما علمنا القرآن الكريم عن
الذين جاءهم الأنبياء بالتوحيد فقالوا "هذا ما وجدنا عليه آباءنا". نسمي
هذا في علم النفس الاجتماعي بالخوف من
التغيير، ونجد عليه أدلة كثيرة في التاريخ
العربي الحديث؛ فكلما لاحت بارقة تغيير التفت عليها الأنظمة والكثير من النخب
المصطنعة لتقاوم التغيير وتلغي نتائج ما تحرك وتقطع الطريق على ما يمكن أن يكون؛
فما هو كائن يبدو لهم مفيدا ومريحا ويعد بالخلود. حرب الطوفان وعدت بتغيير عميق
واتفاق الغدر بها يدخل تحت باب "دع كل شيء في مكانه، فنعم كل شيء في مكانه".
لقد كتبنا عن التلازم الوجودي بين النظام الرسمي العربي وبين الكيان واختصرنا في
شعار إذا سقط أحدهما سقط الآخر؛ هنا ظهر الغدر وهنا وعد التغيير.
حرب التحرير الوطني والربيع العربي
وعود بالتغيير
حرب الطوفان وعدت بتغيير عميق واتفاق الغدر بها يدخل تحت باب "دع كل شيء في مكانه، فنعم كل شيء في مكانه". لقد كتبنا عن التلازم الوجودي بين النظام الرسمي العربي وبين الكيان واختصرنا في شعار إذا سقط أحدهما سقط الآخر؛ هنا ظهر الغدر وهنا وعد التغيير
حدثنا آباؤنا الذين شاركوا في معارك التحرير الوطني من الاستعمار المباشر أن
قوما كثرا جايلوهم كانوا يقولون لهم: هل ستقدرون على فرنسا المدججة بالسلاح؟ فإذا
رأوا تصميمهم تحولوا إلى مخبرين يرشدون إلى مخابئ
المقاومة. ولكن المحررين انتصروا
رغم الوشاة والمخذلين وبنوا دولا وتحمسوا لها، لكن الدول انقلبت عليهم وأعادت سيرة
القمع الاستعماري بل استعادت تراث القمع السلطاني السابق حتى على الاستعمار نفسه.
لقد كانت هذه الدول ترى تجارب بناء الديمقراطية في الغرب تجري أمامها وكانت
تجارب مفتوحة على تغيير دائم، لكن عوض تبني نماذجها ارتدت إلى كل ممارسات الطواغيت؛
حيث لا تغيير ولا حرية. والغريب أن شعوبا كثيرة رأت ذلك أمرا عاديا، فالحاكم لا
يكون إلا طاغية؛ صورة الحاكم الديمقراطي لم تدخل في مخيالها. والأغرب من كل ذلك أن
النخب الجديدة التي نشأت مع هذه الدول صارت هي من تقود تيار القبول بالواقع السيئ
وتجد له مبررات وتحمي الأنظمة من كل احتجاج.
لم يتوقف الاحتجاج على التسلط والقهر، فكان الربيع العربي تتويجا لحراك متقطع
وطويل شد أزره أخيرا وثار ثورة حرية، وكان مطلبه الأول التغيير والخروج إلى أفق
أرحب. وقبل أن يفلح في ترسيخ مطالبه وجد نفسه يواجه خوف الأنظمة والنخب من التغيير،
وإن لم تقل النخب التي عارضته هذا ما وجدنا عليه آباءنا، ولكنها عملت على الحفاظ
على ما وجدت عليه الآباء من خنوع واستكانة ورضا بالمقسوم.
والغريب الذي سيظل غريبا أبدا هو أن القائلين بذلك نخب قرأت كراسات التغيير
الكونية ونظّرت للحريات، بل احتكرت الحديث عن الحرية والديمقراطية، فلما جاءتها
الحرية على طبق من دماء الجمهور الطيب نكصت على أعقابها وحمت الأنظمة، فإذا هي
لسان الانقلابات العسكرية باسم الحفاظ على الدولة، رغم أن شارع الربيع العربي لم
يتبن نقض الدول أو تخريبها لصالح بدائل فوضوية أو وضع اللادولة؛ حالة فاضحة من رفض
التغيير قادتها نخب الدول الحديثة التي جاءت بها معارك تحرير وتغيير. انتهى الربيع
العربي مؤقتا إلى الوضع الذي كانت عليه الشعوب قبله، وإن كنا نأمل أو نظن أن قهرا
كثيرا قد خُزِّن في النفوس وأنه يتربص لعودة.
الطوفان كان وعدا بالتغيير أكبر من
غزة
لدينا قناعة ثابتة بأن الربيع العربي كان ذاهبا إلى تحرير فلسطين وإن لم
يقدم خارطة طريق تحرير مباشر، ولكن "لن نترك غزة وحدها" كانت جملة في
سياق تحرير تتربص لمعركة، فلما منعت من الفعل التغييري انفجر الطوفان معتمدا على
نفسه فأعاد الوعد بالتغيير لأوسع من غزة (ربما كان يضمر أن لن يترك القاهرة
وحدها).
هنا تبين للنظام الرسمي العربي ونخبه المبرراتية أن وعد التغيير حقيقي،
لذلك فهو مخيف ويهدد سلامة مكاسبها التي ظنتها خالدة، فبدأ الخذلان والتثبيط، وقيل
للفلسطيني المقاوم بدمه ما قيل لآبائنا ذات معركة: هل تقدرون على الكيان المدجج بالسلاح؟
وقد قدروا عليه بدمهم فاتضح مشروع التغيير أكثر. كان التلازم بين وجود الكيان
ووجود النظام الرسمي العربي مهددا؛ ماذا لو سقط الكيان؟ ستتغير المنطقة برمتها،
سيكون على مكونات النظام أن تبحث لها عن مواقع تحفظ مصالحها دون خدمة الكيان، وهذه
ليست متاحة أمام شارع ثائر. فالتغيير لا يكون إلا جذريا ماحقا، وستكون هناك بلا شك
مرحلة من الاضطراب "والخوف ونقص في الأموال والأنفس والثمرات" التي ليس
للشعوب منها شيء، إنما هي مكاسب النظام ونخبه.
كل يوم في غزة ببنادقها القليلة كان تهديدا للنظام القائم، كل جندي
صهيوني
يسقط كان يسقط من جسد النظام العربي قبل أن يحسب نقصا في جيش الكيان. ذاك الجندي
كان يحمي النظام الرسمي العربي، لذلك وجب إيقاف النزيف في جيش الكيان أولا.
الاحتقار الكبير الذي يظهره الكيان ورئيس حكومته للنظام الرسمي العربي هو الدليل الأوضح على أن هذا الكيان لا يقبل بصفقة مهما كانت مفيدة له؛ إن غطرسته تدفعه إلى المزيد من إذلال حُماته وخاصة حماته العرب
كان النظام العالمي يرى ويقيس مسار المعركة، فهو حامي الكيان وحامي حُماته
من حوله، فكلهم كيان واحد معاد للتغيير. حلف عالمي كان يشتغل ضد مقاتل حاف وجائع
ولكنه مؤمن بالتغيير، وعندما تبين أن الكيان تهشم وأنه إلى زوال وأن حلفا شعبيا
عالميا يقوم ضده بوعي جديد (وعي بالتغيير)؛ سارع النظام إلى موجة الاعتراف الورقي
بدولة فلسطين وسارع رأسه (الترامبي) إلى عقد الصفقة. حركتان متلازمتان مهمتهما
إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الكيان ومن وجود حُماته من حوله، على أمل إعادة الوضع إلى
ما كان عليه قبل الطوفان. هنا نرسخ فكرة سيقدم عليها الزمن الأدلة؛ وعد التغيير لن
يتوقف.
"دم الشهداء ما يمشيش هباء"
زودتنا الثورة الليبية على حثالة من حثالات النظام الرسمي العربي بهذا
الشعار المبني على إيمان عظيم بحسن الجزاء الإلهي، لذلك نرسخ يقينا بأن الطوفان لن
ينتهي بصفقة ترامب، ومعركة التحرير والتغيير لم تضع أوزارها، والفلسطيني في مقدمة
المعركة لم يرم السلاح. وما يبدو للبعض الشفوقين على المقاومة كمأزق سيكون هو نفسه
المخرج نحو المزيد من ترسيخ نتائج الطوفان، أي تهشيم الكيان وما يتبع تهشيمه من
سقوط النظام الرسمي العربي الذي يحاول المساهمة في إنقاذه، وهو يظن أنه ينقذ نفسه.
إن الاحتقار الكبير الذي يظهره الكيان ورئيس حكومته للنظام الرسمي العربي
هو الدليل الأوضح على أن هذا الكيان لا يقبل بصفقة مهما كانت مفيدة له؛ إن غطرسته
تدفعه إلى المزيد من إذلال حُماته وخاصة حماته العرب الذين نرى الذلة على وجوههم
في التلفزات.
لقد رفضوا التغيير الذي يجعلهم يحتمون بشعوبهم من كل عدوان (لم نسمع نظاما
عربيا واحدا يقول ماذا لو أحتمي بشعبي من العدو؟). والعدو يعرف ذلك أوَ ليس قد صنع
النظام العربي بيديه! معرفته بهم أشخاصا ومؤسسات تدفعه إلى المزيد من الابتزاز
والإذلال، وهنا مقتلهم ومقتله مهما أجلوا المعركة. إن العدو يكثف الألم والغضب في
نفوس شعوب مُنعت من نصرة غزة ففهمت بالقوة أن نصرة غزة تبدأ من داخل كل قُطر
مقموع. وإفشال الصفقة يعني المزيد من القمع ولن يغلق الملف ولن تهدأ النفوس ولن
يمكن تمويه الدم الصريح الذي سال في غزة، ولن يعود الكيان وحماته إلى ما قبل
الطوفان.
هنا يحضر دم الشهداء؛ لقد اتضح الغدر بغزة واتضح أكثر الخوف من التغيير في
باقي المنطقة، لكن الطوفان خرج من غزة إلى العالم وعلى النظام الرسمي العربي أن
يبحث له عن شرعية أخرى. إن ما وجدوا عليه آباءهم قد ولى إلى غير رجعة. ما زال هناك
دم على الطريق ولكنه دم التغيير وتبدل الأحوال. من كان يظن أن نظام البعث في سوريا
سيزول؟