قضايا وآراء

إيران بين الادعاء بالانتصار والتحول الجيوسياسي.. قراءة تحليلية

نحن نعيش اليوم نهاية حضارة عالمية تشكّلت منذ قرون وسببها نصرة الباطل واستعلاء الظالم على المظلوم..
شهدت الأسابيع الأخيرة تصعيدًا حادًا في التوترات الإقليمية بين إيران من جهة، وإسرائيل وحلفائها الغربيين ـ خاصة الولايات المتحدة وفرنسا ـ من جهة أخرى. وقد خلف هذا التصعيد تباينات واضحة في الروايات السياسية والدبلوماسية، لا سيما في تقييم ما إذا كانت إيران قد خرجت منتصرة من هذه المواجهة أم لا. في هذا السياق، يحاول هذا المقال تقديم قراءة تحليلية معمقة للأبعاد السياسية والجيوسياسية والاستراتيجية لما حدث، متسائلًا عن طبيعة "الانتصار" وحدوده، وعن التحولات التي أحدثها هذا الصراع في موازين القوى الإقليمية والدولية

أولًاـ حدود الانتصار.. حينما يتخلى الحلفاء

رغم الخطاب المعلن والمساند لبعض الدول المهمة في المنطقة لإيران ‏واعتبار أن إسرائيل هي الدولة المعتدية وأنها هي التي هاجمت إيران، فإن المتابع للشأن الإقليمي يلاحظ غيابًا فعلياً واضحًا للدعم الفعلي من شركاء طهران. فقد التزمت كل من الصين وروسيا وتركيا وباكستان عدم التدخل الفعلي في الحرب.

بينما حمّلت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية إيران مسؤولية التصعيد.

وأرى ‏أن ما حدث ما هو إلا جولة أولى للحرب، وأن الدول الفاعلة ستعيد أنفاسها من صدمة لم تكن منتظرة، لتؤثّث بيتها وتعيد حساباتها، لتعود للحرب.

إنّ الردّ الإيراني الزاجر والقاطع ـ حسب رأيي ـ لم يكن منتظرا بل أصبح كابوسا لمن أرادوا الحرب. كما تبين أن إيران جاهزة ومستعدة لتطيل المعركة، وأنه إن طالت الحرب فقُصفت إسرائيل وازدادت دمارا مما يجعل حركة نزوح ثلث شعبها إلى بلدانهم الأصلية أمرا لا رجعة فيه، وقصف التواجد الأمريكي الاستراتيجي في الخليج مما يجعل الخسارة الاستراتيجية الأمريكية كبيرة الذي سيؤثر سلبا على اقتصاد الولايات المتحدة.
إنّ الردّ الإيراني الزاجر والقاطع ـ حسب رأيي ـ لم يكن منتظرا بل أصبح كابوسا لمن أرادوا الحرب. كما تبين أن إيران جاهزة ومستعدة لتطيل المعركة، وأنه إن طالت الحرب فقُصفت إسرائيل وازدادت دمارا مما يجعل حركة نزوح ثلث شعبها إلى بلدانهم الأصلية أمرا لا رجعة فيه، وقصف التواجد الأمريكي الاستراتيجي في الخليج مما يجعل الخسارة الاستراتيجية الأمريكية كبيرة الذي سيؤثر سلبا على اقتصاد الولايات المتحدة.

إن إيران تعلم كل العلم أنه لا روسيا ولا الصين ولا الباكستان ولا تركيا سيسمح بسقوط نظام طهران لتستولي عليه ‏الولايات المتحدة ليصبح كزحف الغول في المنطقة، فكلما طالت المعركة إلا وأصبح تدخل هذه البلدان يقينا لنصرة إيران للحفاظ على أمنهم القومي..

كما أن التقدم الإيراني كان ثابتا فقد أوفت بما وعدت في خطى جريئة ومذهلة، فلأول مرة تضرب تل أبيب وحيفا ‏ليخلف ذلك الدمار الهائل بل وتجرأت على ضرب القواعد الأمريكية في قطر.

فقد أظهرت إيران في هذه الأزمة قدرتها على شنّ ضربات دقيقة ومتزامنة عبر وحداتها المختلفة، واستعرضت بذلك جاهزيتها لحرب طويلة المدى وبأسلحة متطورة دون الاعتماد على غطاء دولي أو دعم مباشر من حلفاء تقليديين.

ثانيًا ـ الانتصار الداخلي.. التلاحم الشعبي غير المتوقع

ما لم يكن متوقعًا لإسرائيل ‏والولايات المتحدة والغرب عموما ما حدث داخليًا في إيران، إذ التحم الشعب ـ على تنوعاته ـ خلف قيادته في لحظة غير مسبوقة، ما شكّل صدمة للمحللين الإسرائيليين والغربيين الذين راهنوا على الانقسامات الداخلية والانقلاب على طهران، بل شهدت البلاد مظاهرات داعمة للسلطة الإيرانية، فارتفعت معدلات التطوّع في الحرس الثوري والجيش أثر إيجابياً على مؤشر “الشرعية الشعبية” المفقودة منذ احتجاجات 2022، حتى أن المجتمع أصبح المصدر الرئيسي للرقابة أعقاب الهجمات الإسرائيلية، فقد تجنّد المواطنون للكشف عن العملاء داخل المجتمع، وهو ما سمح بقدر كبير لسقوط أوكار التجسس  ما شكل نقطة تفوق في الحرب. وقد أعلن الحرس الثوري عن كشف عدد من الخلايا المرتبطة بأجهزة الموساد الإسرائيلي قبل تحركاتهم، ما عزز صورة المجتمع الحامي داخليًا للدولة.

ثالثًا ـ الحفاظ على القدرات النووية

على الرغم من التصعيد، لم تتعرض المنشآت النووية الإيرانية لأي ضرر يُذكر، كما أن الخطاب الدولي لم يتجاوز حدود التحذير دون اتخاذ إجراءات حقيقية، ما يُعد انتصارًا استراتيجيًا لإيران في الحفاظ على مشروعها النووي الذي بات في مرحلة متقدمة، بحسب تقارير غربية.

رابعًا ـ تغيير قواعد اللعبة الجيوسياسية:

هكذا وبعد الجولة الأولى باتت إيران رقماً صعبًا لا يمكن تجاوزه في أي معادلة تخص أمن الشرق الأوسط، وأعادت التموضع كفاعل رئيسي يُحسب له ألف حساب في الخليج، وسوريا، ولبنان، واليمن وخاصة فلسطين

خامسًا ـ اللحظة الحاسمة.. الخروج من الاتفاق وصناعة القنبلة

أشارت بعض التقارير أن إيران على بُعد "أسابيع" من القدرة التقنية لإنتاج قنبلة نووية. وهذا ليس سرًا، فلو انسحبت إيران من الاتفاق النووي، لأصبح يقينا أنها ستصنع قنابلها الذرية الردعية، وعندها فقط يمكن لها أن تعيد مقولة ‏شارل ديغول بعد أول تجربة نووية فرنسية في 13 فبراير 1960 في منطقة الصحراء الكبرى بالجزائر حيث قال "الآن يمكن لفرنسا أن تتحدث عن السلام".

سادسًا ـ الانتصار المستدام يمرّ عبر مراجعة العلاقة مع المجتمع السني

رغم ما حققته إيران من مكاسب رمزية وإعلامية عند الشعوب الإسلامية عموما إلا أن استمرار هذه المكاسب مرهون بقدرتها على مراجعة علاقتها مع العالم الإسلامي السني. إن توظيف هذا التعاطف يحتاج إلى خطاب جامع وفعل واضح وسياسات تتجاوز إرث الطائفية والحروب بالوكالة.

لقد أعطى هذا الاعتداء الاسرائيلي على ايران لحظة تأمل بين مديري المذهبين السني والشيعي، فالشعوب الإسلامية تقف اليوم في معظمها مع ايران وهي فرصة جديدة أعطيت لها لاصلاح ما فرط من إرادة توسعية داخل العالم السني بتشيعه، فهذا طريق  لن يؤول لجمع شمل ولا وحدة صف ولا لاستقلال عن الغرب.

كما انه ليس من السهل ان تنسى المذابح في العراق وسوريا في حق السنة. ولئن لم تنتبه السياسة الإيرانية القادمة لمفهوم الوحدة في مفهومها الشامل فتصلحه، فستخسر ما اكتسبته من تعاطف اكتسبته خلال هذا الاعتداء الغاشم في سبيل الوحدة بمفهومها الشمولي فإن الانتكاسة داخل المجتمع السني أكيدة.

أرجو أن يكون كل هذا حافزا لإيران لتنفتح على العالم السني بطريقة تحفظ للكل تنوعه. ولعليّ سأرى انعكاسا لذلك في السياسة الإيرانية على الصعيدين الداخلي والخارجي القادمين.

سابعًا ـ إسرائيل الخاسر الأكبر

تواصل إسرائيل سياسة تفجير الصراعات متجاهلة العالم بأسره لتضع نفسها كعبء على المنظومة الأوروبية الغربية التي أوجدتها.

ـ عبء أمني: باستمرارها في إشعال الصراعات في منطقة حيوية لأوروبا من ناحية التزود بالطاقة. 

ـ عبء قيمي: نتيجة استمرار حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي يُرتكب في غزة، مما يسحب أوروبا إلى مستنقع قيمي يفضح ازدواجية المعايير بانحيازها المطلق "لطفلها المدلل".

ولّد هذا الانزلاق القيمي انشقاقاتٍ عميقة داخل الذات والمجتمعات الأوروبية، مما يؤثر في التغيرات الاجتماعية والسياسية داخل أوروبا.

هذا الانهيار القيمي سيمثل يومًا ما زلزالًا سياسيًا وشعبيًا يدعو إلى وقف الدعم والمساندة لإسرائيل، مما يعني تهديدًا حقيقيًا لوجود استقرار بين السلطة والشعب في أوروبا ونرى يوميا هذا المنحى لتُلزم أوروبا بالتنازل عن مساعدة اسرائيل. فلقد أبرزت هذه السياسات الإسرائيلية المنفلتة مواقف أوروبية متباينة ومتفسخة:

ـ دول مثل إسبانيا، إيرلندا، بلجيكا وقفت موقفًا صارمًا ضد حرب الإبادة. في المقابل، ألمانيا التي اصطفت بشكل غير مشروط في دعم إسرائيل.

ـ تكرّس الحكومة اليمينية المتطرفة حالة القلق الوجودي لدى المجتمع الإسرائيلي.

فلو سحبنا هذا الوضع وقارناه على المستوى التشريحي والنفسي للجسم البشري فسنجد أن هذا التهديد الوجودي يجعل الإنسان يفقده وظائف قشرة المخ المتطورة والتي تميز الإنسان بإنسانيته وقدرته على التواصل والتفكير والتخطيط فتنقل عقله إلى مستوى العقل الحيواني الذي يتصرف بمبدأ "اضرب أو اهرب" (fight or flight).

أظهرت إيران في هذه الأزمة قدرتها على شنّ ضربات دقيقة ومتزامنة عبر وحداتها المختلفة، واستعرضت بذلك جاهزيتها لحرب طويلة المدى وبأسلحة متطورة دون الاعتماد على غطاء دولي أو دعم مباشر من حلفاء تقليديين.
وهذا يمثل بداية للتدمير الذاتي لدولة الكيان. فالعنف وإثارة الجهاز السمبثاوي على المدى الطويل هو استهلاك للطاقة الذاتية والنفسية لجسد هذه الدولة (المنهك بالعنصرية)، ما يعني إيذاناً بتهديد وجودها تهديداً حقيقياً، خصوصاً أن هذه الدولة لديها مشكلة في التاريخ والجغرافيا في المنطقة، التي لا تنتمي إليها لا من قريب ولا من بعيد فمحاولة الاستمرار بنظرية “اضرب أو اهرب” لا يمكن أن تستقيم أبداً.

هذه السياسات المعتمدة على عنف اليمين المتطرف القولي والفعلي من أقوال لبن غفير، وسموتريتش، ونتنياهو المتطرفة أدت إلى خسارة إسرائيل خسارة مذلة من الناحية القيمية، حتى من جهات كانت من أشد المتعاطفين والمناصرين لها.

فلو فتحت إسرائيل حدودها، لهرب كل من يحمل جنسية غربية من داخل إسرائيل نحو أوروبا الشرقية أو الغربية أو حتى إلى القارتين الأمريكية والأسترالية.

إضافة لموقف ترامب الصارم في إنهاء الحرب على غير انتظارات اليمين المتطرف  فالحديث عن إسرائيل بات تاريخا.

ثامنا ـ الولايات المتحدة وتغير النظام العالمي

منذ 11 سبتمبر أصبحت أمريكا اللاعب الوحيد في العالم. أما اليوم، وبعد الحرب الإيرانية الإسرائيلية والتدخل الأمريكي، فقد سقطت الأحادية القطبية للولايات المتحدة كليا وتليها الهيمنة الغربية الأوروبية على بلدان العالم الثالث. فقد برزت الصين وروسيا كلاعبين عالميين مؤثرين، حتى في مجال الفضاء، وأصبحت لدول مثل الهند وباكستان وتركيا وإيران أدوار متزايدة في المنطقة، بما في ذلك في البحر الأبيض المتوسط.

موت حضارة لم تدم أكثر من ستة قرون

نحن نعيش اليوم نهاية حضارة عالمية تشكّلت منذ قرون وسببها نصرة الباطل واستعلاء الظالم على المظلوم، وهي الحضارة الغربية الحديثة التي بدأت مع النهضة الأوروبية واستمرت في التوسع حتى بلغت ذروتها بعد الحرب الباردة. لكن اليوم، نشهد أفول هذا النموذج، وصعود نظام دولي متعدد الأقطاب، يعيد توزيع القوة والنفوذ بين الشرق والغرب، وبين الدول الكبرى والقوى الإقليمية، داخل الأرض وخارجها.

الأيام القادمة هي الكفيلة أن تخبرنا عن حقيقة من انتصر في هذه الجولة من الحرب.

أرى أن إرادة إيقاف الحرب ليست حقيقة وذلك الرد الإيراني المفاجئ فقد كان غير منتظر ومتطورا، ما دفع  ـ حسب رأيي ـ ‏إلى هدنة تكتيكيا لإعادة الحرب، وما لم تنتصر غزة والقضية الفلسطينية فإن صناع القرار في إسرائيل لن يتركوا دق أبواب الحروب

ناشط سياسي من تونس