مدونات

عُملة الخير والعمل..

فراس السقال
التصاميم الجديدة للعملة السورية
التصاميم الجديدة للعملة السورية
شارك الخبر
الزراعة بركة وعمارة

الزراعة عملٌ طيّبٌ مبارك، جعلها الله سببا للرزق والحياة، وربطها بالإحسان والنفع العام، فقال تعالى: "أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ" (سورة الواقعة)؛ تذكيرا بعظمة الخالق في إنبات الزرع. وفي السنّة عدّها النبي ﷺ من الصدقات الجارية، إذ قال: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة" (رواه البخاري). وقد كان السلف يرون الزراعة كسبا طيّبا وتوكّلا صادقا، يجمع بين الأخذ بالأسباب وحسن الظنّ بالله. فبالزراعة تُعمر الأرض، وتتحقق الكفاية، ويستمر الأجر ما دام النفع قائما.

من هذا المنطلق الإيماني والعملي، تأتي التصاميم الجديدة للعملة السورية، لتكون إعلانا صريحا بالانحياز لعطاء الخالق الذي لا ينضب، ولتعيدنا إلى "الأصل"، إلى صنع الله الذي لا يضاهيه صنع، وإلى خيرات الأرض التي كانت وما زالت هي الضمانة الحقيقية للبقاء والازدهار.

زراعة باقية لا تزول

إنّ العودة إلى رموز الأرض تحمل حكمة عميقة، فالقلاع التاريخيّة قد تُهدم وتتحول إلى ركام، والآثار العريقة قد تُسرق وتُنهب -وقد حصل ذلك على يد النظام البائد- وحتى النواعير قد يأتي يوم تتوقف فيه عن الدوران وتتآكل أخشابها. إنّها مقارنة بين الجماد الذي يزول وبين الحياة التي تتجدد، فالزراعة هي العطاء الذي لا يطاله الهدم، لأنّ بذرته في التراب وعمره ممتد مع تعاقب الفصول مادامت السماوات والأرض.

ثروة الإنسان والحيوان والبيئة

وحتى الثروات التي تلهث خلفها الأمم، من آبار النفط والغاز التي لا بدّ أن تجفّ يوما، أو الذهب الذي قد ينتهي أو تتقلب قيمته، تظلّ جميعها عاجزة أمام قيمة الزرع. فالثمار والزروع باقية ولازمة بوجود الكائنات، وفائدتها تشمل كلّ شيء بلا استثناء، بها يعيش الإنسان، وعليها يقتات الحيوان، ومن خلالها تتنفس الطبيعة وتنقى البيئة، وبخضرتها تتجمل الأرض وتزدان.

رموز توحدنا

كما كان استبعاد صور الأشخاص من العملة الجديدة فكرة في غاية الذكاء والحكمة، فالأشخاص قد يفرقهم الجدل، أمّا الأرض فهي الجامع الوحيد لكلّ السوريين بمختلف مكوناتهم وأطيافهم وأعراقهم. هذه الصور هي لغة عالميّة يفهمها ويحبها الجميع، تلمّ شتات القلوب حول هوية سورية جامعة أساسها الإنتاج لا التمييز، وتفتح صفحة جديدة للنظر إلى الحاضر والمستقبل بدلا من الانكفاء على الماضي والأسلاف.

الزراعة تطلق يد صناعة

وهذا التوجّه هو أيضا تبشير بنهضة صناعيّة كبرى، فمن هذه المحاصيل ستزدهر غدا معامل الكونسروة، وتدور مطاحن الدقيق، وتتحرك مغازل القطن والحرير، وتنتعش صناعات العطور الفاخرة المستخلصة من عبق الوردة الشاميّة. إنّها علاقة فطريّة بين الأصل والفروع، فمتى ما ازدهر الأصل، تبعته الفروع بالضرورة، لتتحول كلّ ثمرة إلى محرّك يدفع عجلة الاقتصاد إلى الأمام.

تجارب عالميّة ناجحة

والتاريخ يخبرنا أنّ الكثير من البلاد العالميّة نالت شهرتها من زروعها، ففرنسا ارتبط اسمها بالعطور، ودول حوض المتوسط عُرفت بزيتونها، بينما اشتهرت كندا وأوكرانيا بكونهما سِلال غِلال العالم بفضل القمح. هؤلاء جعلوا من منتجات أرضهم علامات تجاريّة عالميّة تطرقُ كلّ باب، وهو الطريق الذي ينبغي لنا أن نسلكه بكلّ اجتهاد وعزيمة.

كما تتميز هذه الفئات بتناسق ألوانها البديعة التي لا تقتصر وظيفتها على الجمال فحسب، بل تُسهّل تمييز الفئات النقدية بوضوح وتمنح النفس شعورا بالراحة والتفاؤل.

قرارنا في رغيفنا

إنّ النظر إلى هذه العُملة يبعث في النفس تفاؤلا واقعيا، فهي تذكرنا بأنّ السيادة تبدأ من امتلاك "قوتنا اليومي". إنّها دعوة للعمل كطريق وحيد للاستقلال، فمن يزرع ويحصد يملك قراره. وهكذا، تتحول الليرة في يد المواطن من ورقة نقديّة إلى أيقونة تذكره بأنّ الله منحنا كنوزا لا تفنى، وأنّ العودة إلى الأرض والاجتهاد فيها هما الخطوة الأساسية نحو مستقبل مشرق يعمّ فيه الرخاء على الجميع.
التعليقات (0)