أوروبا والغرب بشكل عامّ يغير عقيدته العسكرية، هذا شيء غير جديد، لأنه كان متوقعا منذ 30 سنة، يوم سقوط جدار برلين: الجميع كان يحتفي بموت الدب على يدي غورباتشوف ويلتسين، لكن اليوم، صار التغيير علنيا مع نهاية حقبة الحرب الباردة التي لم تكن “سوى حلم في الكرى أو خلسة المختلس”، وعادت الحمّى بنهاية العقد التنازلي وعودة روسيا إلى الساحة الدولية اقتصاديا وأمنيا مع الصين والدول الحليفة.
استراتيجية
الغرب التوسعية لمحاصرة لروسيا، التي أكلت ثورة الانفصال أجزاء من أطرافها، ذهب كثير منها باتجاه الغرب، فيما بقي بعضها حليفا أو صديقا. حرب أوكرانيا غيّرت العقيدة لدى كل الأطراف، على اعتبار أن الكل بات يعرف ماذا يريده الطرف الآخر.
الولايات المتحدة، تعمل هي الأخرى على تغيير عقيدتها، بل قد غيّرتها فعلا، وانتقلت مع ترمب إلى حقبة جديدة تحكمها الليبرالية الجديدة التي، على خلاف ليبرالية الديمقراطيين العالمية، تعمل على تغيير عقيدة الأمن الوطني من باب تقوية الداخل قبل تقوية الانتشار الخارجي لقوّاتها وقواعدها في جغرافيا العالم مترامية الأطراف: هذا الأسلوب يفهم منه أن القوة العالمية الكبرى هي في بداية مرحلة الانكماش أمام القوى الاقتصادية والعالمية الجديدة ومنها الصين وروسيا مع “البريكس” وحلفائها في منطقة شرق آسيا والقوقاز. الأمريكان يقرؤون التاريخ كما يقرؤه الأوروبيون.
انهيار أي بلد أو حضارة، يبدأ من الداخل: الصراع الداخلي أولا الناجم عن مختلف المتغيرات
لكن بتوقعات مختلفة: الغرب الأوروبي، الذي انتقل موقعه الجيوسياسي من المركزية الأوروبية الأولى خلال قرون بدءا من القرن الثامن عشر، باعتبارها القوة الكبرى، تتراجع إلى المرتبة الرابعة خلف الولايات المتحدة والصين وروسيا وحلفائها الاقتصاديين، هذا من دون الأخذ بعين الاعتبار تخلُّف قوتها العسكرية، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار القوة العسكرية الردعية النووية. الولايات المتحدة تدرك أن أوروبا تتخلّف، فيما الصين تسارع الخطى لتصبح القوة الاقتصادية وحتى الأمنية الأولى بعد ربع قرن، وبالتحالف مع روسيا وما جاورها، تصبح الولايات المتحدة ثاني قوة، لتتدحرج إلى المرتبة الثالثة، حسب الخبراء، بعد أقل من نصف قرن، إذا ما صدقت التوقعات الاقتصادية، وإذا ما نجا العالم من احتكاك عسكري عالمي قد يأتي على العلاقات الدولية وبنية العالم الوجودية أصلا.
تغيير الولايات المتحدة لعقيدتها الأمنية، لتصبح محاربة
الهجرة والمخدرات عدوّا أول، تراهما أمريكا عوامل محدّدة في مسألة الأمن القومي، فهو مبنيّ على حقائق كون أن انهيار أي بلد أو حضارة، يبدأ من الداخل: الصراع الداخلي أولا الناجم عن مختلف المتغيرات، والذي قد يصل إلى حد الحرب الأهلية، وهو ما تخشاه القوى المهيمنة سواء لدى الديمقراطيين أو الجمهوريين.
الصراع الداخلي هو الذي يخيف الإدارة الأمريكية باتجاهيهما، يضاف إلى ذلك الهجرة الجنوبية مع المكسيك وكندا، وتجارة
المخدرات، التي جعل منها ترمب حصان طروادة ليهدد بها دول الكاريبي القريبة. الأمن القومي الأمريكي ينتقل مع ترمب إلى الداخل والمحيط القريب، فيما بدأ يرى أن حروب أمريكا القديمة عليها أن تنتهي، لكثرة تكلفتها وتأثيرها على الداخل. وبما أن ترمب يرى أن “أمريكا أولا”، فلا غنى عن تقوية العلاقات مع الخارج والحلفاء، لكن ليس عبر الدعم والإنفاق، بل بفرض واقع جديد للرسوم والتعامل مع البقية كما لو كانت شركات اقتصادية، إلا مع الكيان، الذي يعتبرها بحاجة إلى دعم، لكن ليس إلى الأبد. وهذا ما يخشاه الكيان مع ترمب: الدعم لن يكون إلى الأبد إذا لم يسارع هذا الأخير إلى إبرام صفقة مع الجيران وحلّ قضية غزة وحتى مسألة الدولة الفلسطينية. هذا ما سيعمل عليه ويتكوف مع وزراء خارجية الوسطاء.
الشروق الجزائرية