يُحب العرب أن يبحثوا، ولو بعدسة مُكَبرة، عن خلاف بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فتارة يقولون إن الرئيس ترامب هو من يمنع إسرائيل من الهجوم على
لبنان، وتارة أخرى، يقولون إنه من يمنعها من استكمال حرب الإبادة في
غزة، لكن الحقيقة هي أن الولايات المتحدة قد قررت تلزيم
الشرق الأوسط كله لإسرائيل، وليس فلسطين، ولبنان، وسورية فقط.
دعونا نبدأ من الآخر، عندما يكون العرب على استعداد لتطوير علاقاتهم مع دولة
الاحتلال رغم كل الجرائم التي ارتكبتها في السنتين الأخيرتين، لن يكون هناك ما يجعل إدارة ترامب تُفكِر مرتين في استراتيجيتها وقراراتها.
عندما تُلزم دولة عربية نفسها بشراء الغاز من إسرائيل حتى العام 2040 وبقيمة 35 مليار دولار، وعندما تقوم أخرى ببناء مجمع صناعي على أراضيها لإنتاج طائرات بدون طيار إسرائيلية وبقيمة 2.3 مليار دولار، وعندما تقوم دولة عربية ثالثة بالتعاون مع إسرائيل في ليبيا والسودان واليمن، فإن ما تقوله إستراتيجية الأمن القومي الأميركي ضمنياً عن تلزيم الشرق الأوسط لإسرائيل، يُصبح مسألة ممكنة ومعقولة.
إستراتيجية الأمن القومي ليست حول إسرائيل والشرق الأوسط بطبيعة الحال، وما يرد فيها، لا يجد له بالضرورة تجسيداً في سياسات البيت الأبيض اليومية، لكنها تُعبر عن تصورها لأولوياتها وإستراتيجيتها لحماية مصالحها، وبالتالي فإن الشرق الأوسط يتم النظر إليه فيها من هذه الزوايا فقط.
تُجادل الإستراتيجية بأن الولايات المتحدة قد بالغت في إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الاوسط على مدى عقود لحاجتها للبترول، لكن بعد أن أصبحت هي دولة مُصدرة له، فإن السبب التاريخي لتركيز القوات الأميركية فيه لم يعد قائماً.
لكن هذا لا يعني أن الشرق الأوسط قد فقد أهميته تماماً، لأن الإستراتيجية تعيد تعريف مصالحها في المنطقة مُركزة على ثلاث قضايا هي: حماية إسرائيل التي تصفها بأنها مصلحة حيوية لها، ضمان بقاء الممرات البحرية في المنطقة مفتوحة، منع تصدير الإرهاب من المنطقة أو ضد مصالحها فيها.
تُشير الإستراتيجية أيضا الى مسألتين إضافيتين: أن الولايات المتحدة تَقبل المنطقة كما هي (لا يوجد لديها مشاريع نشر الديمقراطية فيها)، وأن مصلحتها تَكمن في توسيع علاقاتها التجارية مع دول الخليج العربي في الذكاء الصناعي والطاقة النووية والتقنيات الدفاعية.
المؤكد أنها لا تقصد بناء السلام من خلال لجم دولة الاحتلال وإلزامها بإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية واللبنانية والسورية
أما طريقتها لحماية مصالحها، وهنا بيت القصيد، فهي ليست من خلال زيادة وجودها العسكري فيه، وإنما من خلال نقل «الأعباء» و»بناء السلام»، وهي الكلمات المفتاحية في الاستراتيجية الأميركية. ومع أن الإستراتيجية لا تُفَصِل ما تعنيه بهذه الكلمات، لكن المؤكد أنها لا تقصد بناء السلام من خلال لجم دولة الاحتلال وإلزامها بإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية واللبنانية والسورية، فهي لا تأتي على هذه المسائل بالمطلق، ولبنان لا يرد فيها أصلاً.
أما فلسطين فتذكر فيها بكلمات لا معنى لها: مثلاً تقول الإستراتيجية «أن الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني لا يزال شائكاً» وأن وقف إطلاق النار في غزة وإطلاق سراح «الرهائن» أحرز «تقدماً نحو سلام أكثر ديمومة» وان «داعمي حماس أصبحوا ضعفاء»، وبخلاف ذلك لا تقول الإستراتيجية شيئاً، بل إنها أسقطت حل الدولتين، الذي كان جزءاً من إستراتيجية الأمن القومي في عهدي أوباما وبايدن.
أما سورية، فهي تُذكر في سياق مكافحة الإرهاب وفي مجال إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة، لكن أراضيها المُحتلة وصراعها مع دولة الاحتلال، والانتقال السياسي فيها، لا يتم ذكرهما.
وإذا كانت الإستراتيجية لا تهدف الى نقل الأعباء وبناء السلام من خلال إنهاء العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين والعرب عموماً، فأي أعباء سيتم نقلها وأي سلام يتم الحديث عنه؟
التفصيل الذي تُقدمة الإستراتيجية هو أن واشنطن ستعمل على تحميل الشركاء الإقليميين مسؤولية أكبر في الأمن والاستقرار، بدلاً من خوض الحروب طويلة المدى في المنطقة، وان ذلك سيتم من خلال إحياء التحالفات الإقليمية كرافعة للتنفيذ من خلال تمكين «الحلفاء» من تولي دور أكبر في ردع الخصوم واحتوائهم وإدارة الازمات، وهو ما يعني عملياً الاستمرار في تمكين إسرائيل بشكل أكبر في الشرق الأوسط عسكرياً واقتصادياً وسياسياً بجعل التطبيع مساراً إقليمياً.
حيث تقول الإستراتيجية «إن لدى الولايات المتحدة مصلحة واضحة في توسيع اتفاقيات أبراهام إلى مزيد من دول المنطقة، وحتى إلى دول أخرى في العالم الإسلامي، باعتبار ذلك جزءاً من هندسة الاستقرار الإقليمي».
لكن مَن هم الشركاء الإقليميون الذين سيتم نقل الأعباء لهم؟ وهل بإمكانهم فعلاً ضمان أمن واستقرار المنطقة؟ من المؤكد أن الولايات المتحدة ترى في دول الخليج العربي شركاء لها، لكنها قطعاً لا تنظر إليهم إلا من باب الاستثمارات الاقتصادية، لأن جميع هذه الدول تسعى الى عقد معاهدات دفاعية معها لحماية أمنها. ومن المؤكد أيضا أنها لا ترى في مصر شريكاً أمنياً، فالأخيرة ترفض مثلا إرسال قوات لغزة لقتال حركة حماس، وكذلك الحال بالنسبة لتركيا.
وبالتالي لا يبقى فعلياً غير دولة الاحتلال كشريك يمكن الاعتماد عليه ونقل الأعباء له، وهو بالضبط ما ترمي اليه الإستراتيجية الجديدة: تمكين أكبر لإسرائيل في المنطقة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً بطريقتين: الاستمرار في الاستثمار في تطوير قدراتها العسكرية والتقنية، ومحاولة إجبار «الشركاء الإقليميين الآخرين» على الانفتاح أكثر عليها والتطبيع معها بما يفتح لها من تمكين إضافي أكبر أمنياً واقتصادياً وسياسياً.
بكلمات أخرى، الإستراتيجية الأميركية الجديدة في جزئها الخاص بالشرق الأوسط تهدف الى «تَلزيم» هذه المنطقة لإسرائيل بكل ما في الكلمة من معنى.
آخذين بعين الاعتبار أن دولة الاحتلال إن لم تتمكن من إغلاق أي من الحروب التي بدأتها في غزة ولبنان وسورية واليمن وإيران، فإنها لن تستطيع القيام بالمهمة الجديدة الموكلة لها، ولن تستطيع أيضاً عقد «الشراكات» المطلوبة منها مع دول الإقليم طالما أن هذه الملفات مفتوحة، وبالتالي فإن الأولوية ستكون لإغلاق هذه الملفات للانتقال بعدها لحمل العبء الذي تريده الولايات المتحدة.
بوجود حكومة ومجتمع متطرف في دولة الاحتلال، وبوجود ما تراه الأخيرة فرصة لها قد لا تتكرر أبداً (إدارة أميركية مؤيدة لكل ما تقوم به، وإقليم لا يريد الدفاع عن نفسه ومصالحه)، فإن إغلاق هذه الملفات لن يكون إلا من خلال تحقيق الحد الأعلى من الأمن «والأرض» لها، وهو ما يعني عملياً محاولة إغلاق هذه الملفات بإخضاع الخصوم عبر إجبارهم على الاستسلام بالضغط العسكري.
هذا يعني أن المنطقة لا تزال تعيش أجواء الحرب، وهي قد تبدأ في أي وقت ضد المقاومة في غزة ولبنان، وضد إيران، وربما أيضاً اليمن، بينما ستستمر دولة الاحتلال في توسيع وجودها ودورها في سورية.
الأيام الفلسطينية