المشروع
الإسلامي ليس فكرة عابرة، ولا موجة تأتي وتذهب، بل هو امتدادٌ لرسالةٍ ربانية
رتّلتها النبوّات جيلا بعد جيل، وسارت بها قوافل الإصلاح من فجر الدعوة حتى اليوم.
ومع ذلك،
فإن هذا المشروع -بطبيعته الشاملة التي تهدف إلى بناء الإنسان والأمة والحضارة- لم
يتحرك يوما في فراغ، بل تشكّل دائما في قلب
صراع مركّب على القيم والوعي والمعنى؛ صراعٍ
تتبدّل أدواته عبر الزمن، لكن جوهره يبقى واحدا: من يملك تعريف الإنسان؟ ومن يحدّد
غايته ودوره في العالم؟
واليوم،
يقف المشروع الإسلامي أمام لحظة تاريخية دقيقة، لا تختزل في صعودٍ أو تراجعٍ
سياسي، بل تتعلّق بمكانته داخل عالم يُعاد تشكيله على مستويات متداخلة: سلطة،
واقتصادا، وتقنية، وأهم من ذلك على مستوى هندسة الوعي.
فالأزمة
لم تعد محصورة في إخفاق أنظمة أو سقوط تجارب، بل في محاولة تفريغ المشروع ذاته من
أي مرجعية قادرة على مقاومة منطق الهيمنة.
الأزمة لم تعد محصورة في إخفاق أنظمة أو سقوط تجارب، بل في محاولة تفريغ المشروع ذاته من أي مرجعية قادرة على مقاومة منطق الهيمنة
ومن هنا،
يصبح التمييز ضروريا -كما أكدت د. نادية مصطفى- بين مستويين كثيرا ما يُخلط بينهما:
الأمة الإسلامية بوصفها كيانا عقديا حضاريا حاملا للمعنى، والعالم الإسلامي بوصفه
وضعا جيواستراتيجيا داخل النظام الدولي.
فاستهداف
المشروع الإسلامي لا ينطلق فقط من حسابات سياسية أو أمنية، بل من إدراك عميق بأن
بقاء الإسلام إطارا حضاريا جامعا يشكّل تهديدا لمنظومة عالمية تقوم على نزع
الهوية، وتفكيك الروابط، وتحويل الإنسان إلى وحدة استهلاك أو بيانات.
أولا:
الفرص.. مساحات الفعل الممكن واستعادة المعنى
في هذا
السياق، تبرز جملة من الفرص التاريخية التي لا يجوز التقليل من شأنها. فرغم حملات
التشويه والتسطيح، تشهد مجتمعات كثيرة -خصوصا بين الأجيال الشابة- عودة متزايدة
إلى سؤال الهوية والمعنى، بعد أن انكشف فراغ نموذج الاستهلاك والترفيه الخالص.
هذا القلق
الوجودي يمنح المشروع الإسلامي فرصة متجددة، ليس بوصفه هوية دفاعية، بل باعتباره
مشروعا أخلاقيا يعيد الاعتبار للكرامة والغاية.
ويتعزّز
هذا المسار مع الانكشاف المتسارع لزيف المشاريع التي قُدّمت طوال عقود باعتبارها
بدائل نهائية: القومية، والعسكرية، والاشتراكية، والليبرالية المتوحشة. فقد سقطت
جميعها في "اختبار الإنسان"، حين عجزت عن تحقيق العدالة أو صيانة
الكرامة.
ومع كل
أزمة سياسية أو اقتصادية، يعود السؤال الجوهري إلى الواجهة: من يحمل مشروعا أخلاقيا
جامعا لا يقوم على القهر أو الاستغلال؟
وهنا
يستعيد المشروع الإسلامي مشروعيته بوصفه مشروعا قائما على منظومة من القيم في جميع
مناحي الحياة.
كما لا
يمكن تجاهل صمود التجارب الإسلامية، رغم القمع والتضييق واختلاف السياقات. فمن
تركيا إلى تونس، ومن غزة إلى السودان، ظلّت هذه التجارب قادرة -بدرجات متفاوتة-
على بناء حضور اجتماعي وخدماتي، وعلى الحفاظ على جذوة الفكرة حيّة.
هذا
الصمود لا يعني العصمة من الخطأ، لكنه يؤكد أن المشروع لم يُستنزف، وأن كل تجربة،
حتى المنكسرة منها، راكمت خبرة لا يجوز إهدارها.
وتأتي
فلسطين اليوم بوصفها المرآة الأخلاقية الأوضح لعالم مأزوم. فما أحدثته "طوفان
الأقصى" تجاوز البعد العسكري، ليكشف عمق التناقض في الخطاب العالمي حول حقوق
الإنسان والعدالة.
لقد أعاد
الحدث تعريف الظلم، وفضح ازدواجية المعايير، ومنح المشروع الإسلامي فرصة نادرة
لإعادة طرح خطاب المقاومة بوصفه دفاعا عن الإنسان، لا مجرد صراع جغرافي.
وفي الوقت
ذاته، يعيش المشروع الإسلامي داخل بيئة رقمية غير مسبوقة. فالتواصل لم يعد حكرا
على الدولة أو المؤسسة، وصار الهاتف أداة قادرة على إيصال الفكرة إلى الملايين.
غير أن
هذه الفرصة تحمل في طياتها خطرا موازيا، لأن الفضاء الرقمي نفسه ليس محايدا؛ إنه
فضاء يُعاد فيه تشكيل الانتباه والسلوك، وتُفرغ فيه المفاهيم لصالح الاستهلاك
والتسلية.
من هنا،
لم تعد المسألة مسألة حضور إعلامي، بل معركة حقيقية على الوعي في عصر الإنسان
الرقمي.
ثانيا:
التهديدات.. مسارات التفكيك البطيء وضرب الداخل
أزمة
البنية والتنظيم في المنظومات الإسلامية
في مقابل
هذه الفرص، تتراكم تهديدات لا تقل خطورة، وفي مقدمتها الانقسام الداخلي. فاختلاف
الرؤى في ذاته سنّة، لكن تحوّله إلى صراع مراكز، وغياب المؤسسية، وتصدير الخلافات،
والتساهل في الثوابت تحت ضغط الواقع، يحوّل الخلاف إلى عامل تفكيك.
والبراغماتية
التي تُفرّغ المشروع من روحه لا تُنقذ معتقلا، ولا تُسقط استبدادا، بل تمنح الخصم
شرعية مجانية وتضرب جوهر المشروع القيمي.
وفي هذا
السياق، لا يمكن الحديث عن المشروع الإسلامي في واقعه المعاصر دون التوقف عند
جماعة الإخوان المسلمين، لا بوصفها المشروع كله، بل بوصفها عموده الفقري التاريخي
والتنظيمي.
فالإخوان
لم يكونوا يوما التعبير الوحيد عن المشروع الإسلامي، لكنهم شكّلوا على مدار قرن
كامل بنيته الأكثر تماسكا، وقدرته الأوضح على تحويل الفكرة إلى فعل، والمعنى إلى
تنظيم، والقيم إلى حضور اجتماعي ممتد.
ومن هنا،
فإن عملية إضعاف الإخوان، أو تفكيكهم، لم تكن يوما معركة آنية، بل مسارا متواصلا،
يتجدّد بتغيّر الأدوات والظروف. غير أن الهجمة الراهنة تبدو أشدّ خطورة من
سابقاتها، لأنها لا تستهدف الجماعة من جبهة واحدة، بل من جميع الجبهات وفي توقيت
واحد: من التصنيف إلى التشويه، ومن الاحتواء إلى التفريغ.
والخطر
الأكبر في هذه المرحلة لا يكمن في التصنيف وحده، مهما بلغت قسوته، بل في تفريغ
التنظيم من مضمونه عبر الانقسامات الداخلية، تمهيدا لتحقيق الحلم القديم المتجدّد:
استبدال الجماعة بالبنى المفككة والجُزر المنعزلة.
هذه الجزر
تُقدَّم أحيانا بوصفها "تطويرا" أو "تحررا من عبء التنظيم"،
لكنها في الواقع تمثّل أخطر أشكال الإضعاف، لأنها تُنتج وهم العمل للمشروع
الإسلامي، بينما يتم تفريغه من قدرته على الفعل والتأثير من حيث لا نشعر.
تتخذ الحرب على الوعي شكلها الأخطر؛ حرب لا تُدار فقط بالقمع المباشر، بل عبر تشويه المرجعيات، والتحكم في الانتباه، وصناعة إنسان مستهلك فاقد للبوصلة، يعيش داخل منظومة رقمية تُعيد تشكيل رغباته وحدود تفكيره
فالتنظيم،
مهما كانت الملاحظات عليه، كان دائما أداة حماية للمعنى، وضمانا للاستمرارية،
وسياجا يمنع ذوبان المشروع في مبادرات فردية معزولة يسهل احتواؤها أو إطفاؤها. أما
تفكيكه لصالح جُزر متناثرة، فهو لا ينهي المشروع دفعة واحدة، بل يستنزفه ببطء،
ويحوّله من قوة تغيير إلى طاقة مشتتة، تعمل كثيرا وتؤثر قليلا.
ويتعزّز
هذا المسار التفكيكي مع ضغوط دولية لا تستهدف فقط إسقاط تجارب أو احتواء حركات، بل
تسعى إلى تطويع المشروع نفسه، ودفعه للتحول إلى مكوّن رمزي منزوع الأثر، لا يهدد
البنية العميقة للنظام الدولي، ولا يطرح بديلا حضاريا حقيقيا.
معركة
الوعي والاقتصاد: التفكيك الهادئ للمجتمع
وفي هذا
السياق، تتخذ الحرب على الوعي شكلها الأخطر؛ حرب لا تُدار فقط بالقمع المباشر، بل
عبر تشويه المرجعيات، والتحكم في الانتباه، وصناعة إنسان مستهلك فاقد للبوصلة،
يعيش داخل منظومة رقمية تُعيد تشكيل رغباته وحدود تفكيره.
ويتكامل
ذلك مع تضييق ممنهج على العمل الخيري والتربوي، وتجفيف المساحات الوسيطة بين الفرد
والمجتمع، بما يصنع أجيالا تعيش قطيعة حادة بين الدين والواقع.
ولا ينفصل
كل ذلك عن البعد الاقتصادي، حيث يتحول الفقر إلى أداة ضبط سياسي واجتماعي. فالهشاشة
المعيشية تُضعف القدرة على المقاومة والمشاركة، وتحوّل الناس إلى رهائن للضرورة. ومن
هنا، فإن أي مشروع إسلامي يتجاهل العدالة الاجتماعية والكرامة الاقتصادية محكوم
عليه بفقدان جذوره الشعبية.
خاتمة
لقد واجه
المشروع الإسلامي عبر تاريخه إمبراطوريات وملوكا وجيوشا، ولم يستطيعوا استئصال
الهوية الإسلامية من قلب هذه الأمة، حتى وإن ضعفت أحيانا أو تم تشويهها أحيانا
أخرى. لكن الخطر الحقيقي أن يُهزم من داخله، حين يضعف الوعي، أو ترتخي العزائم، أو
تُساوَم المبادئ.
ومع ذلك،
فإن سنّة الله ماضية: كل تهديد يحمل في داخله فرصة، وكل محنة تلد من رحمها منحة،
وكل انكماش يعقبه فتح. ويبقى شعار المشروع الإسلامي -في كل عهد- كما قال موسى عليه
السلام: "كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ".