في زمنٍ
تتكاثر فيه الأصوات وتختلط فيه النوايا، لم تعد الفكرة تُواجَه بفكرة، ولا
النقد
يُقابَل بحوار؛ صار الطريق الأسهل هو كسر القلم قبل قراءة ما يكتبه، وتحويل الكاتب
إلى هدفٍ للتأويلات والاتهامات والوصاية. وهكذا يصبح الدفاع عن الفكرة رحلة شاقة،
لا لأنها ضعيفة، بل لأن طريقها مليء بمن نصّبوا أنفسهم أوصياء على الحقيقة.
من هنا
تبدأ حكاية القلم المكسور.. ومعه معركة الفكرة من أجل البقاء.
حين
يُكسَر القلم من الداخل
يُكسَر
القلم حين يُكسَر صاحبه؛ حين تُشوَّه صورته وتُحرّف فكرته، وتُصنع حوله صورة ذهنية
من خيالٍ لا يرى في الإبداع إلا تهديدا. فكم من أصحاب القلوب الضيقة لا يحتملون
رأيا خارج النسق، فيحاربون الفكرة بتشويه صاحبها لا بمناقشتها.
والقلم لا
يُكسَر فقط بهجومٍ علني، بل حين تُقتل روحه وتُخنق
أفكاره، حين يُدفع صاحبه إلى
العزلة ويغرق في بحرٍ من الهموم، ويُستنزف في تفسير التأويلات ومواجهة سوء الظن في
مقاصده، حين يُحمَّل ما لم يقله ويُفسَّر كلامه بما لم يقصده. هناك تتحوّل الفكرة
إلى تهمة، والإبداع إلى عبء.
لا تتطوّر الأفكار إلا بالحوار البنّاء، لا بالطعن والسبّ والاتهام. فالكلمة لا تُثمر في بيئة تُجرّم السؤال وتُخوّن الاجتهاد
الاختلاف
ليس تهمة
إنّ النظر
إلى الأحداث من زوايا متعددة ليس ادّعاء بالعمق، ولا خروجا عن الصف، بل هو دعوة
للفهم، ورغبة في قراءة المشهد بوعي لا يخشى الأسئلة. فالاختلاف ليس غاية، بل وسيلة
لتوسعة الأفق، والخروج من الأزمات لا يكون بتغيير المرجعية، بل بالبحث عن أدوات
أدقّ لفهم مآلات الأمور.
ولا
تتطوّر الأفكار إلا بالحوار البنّاء، لا بالطعن والسبّ والاتهام. فالكلمة لا تُثمر
في بيئة تُجرّم السؤال وتُخوّن الاجتهاد.
الخوف..
الجذر الخفي لكسر الأقلام
غالبا ما
ينبع كسر الأقلام من خوفٍ داخلي لا يُعترف به؛ خوفٌ من التغيير، أو من اهتزاز
الصورة الذهنية التي يتكئ عليها البعض، أو من انكشاف هشاشة المواقف التي استقرّت
طويلا بلا مساءلة. ولأن مواجهة الفكرة تتطلب شجاعة واتساع أفق، يصبح تشويه صاحب
الفكرة أسهل بكثير من مناقشتها.
فالهجوم
على الإنسان طريقٌ سريع، أما مساءلة الفكرة فطريقٌ يحتاج إلى صدق وقدرة على
الاعتراف بالنقص.
الوصاية
باسم النقد.. وجه آخر للقمع
الوصاية
التي تتخفّى خلف النقد واحدة من أسهل طرق اغتيال الأفكار. فالكاتب يحمل فكرته في
عقله ووجدانه، تتحرك معه قناعاته بلا افتعال، وحين يشعر أن صوته يُشوَّه وفكرته
تُحارَب، ينهض للدفاع عنها بدافعٍ داخلي أقوى من أن يُسكَت.
وفي زحمة
الأحداث وتدافع المواقف، يجد صاحب القلم المكسور نفسه في صراعٍ مرهق: بين من
نصّبوا أنفسهم أوصياء يعملون بكل قوّة لقمعه، وبين حاجته إلى لملمة قلبه قبل لملمة
قلمه.
الوقت..
قاضي النوايا
على مدار
التاريخ، لم يَسلم المختلف؛ حتى أولئك الذين قدّموا لأوطانهم أغلى ما يملكون،
اتُّهموا بالخيانة، ثم اكتشف الناس لاحقا أن أوفى الرجال هم الذين زاد البعض عليهم
ظلما.
وفي مسيرة
العمل العام، يبقى الهمس واللمز حاضرين، ويظل الهجوم على النوايا بدل الأفكار هو
أقصر الطرق لقتل الإبداع. لكن التجربة تُهذّب ردود الفعل، والأعوام تعلّم ما لا
تعلّمه الكتب.
ومضة من
التأمل
تعود إلى
الذهن كلمات أليس مونرو في روايتها حب امرأة طيبة: "لماذا كنّ يعاملنه على
هذا النحو وتحدوهن رغبة شديدة في إذلاله؟ الجواب ببساطة هو: لأنه كان بإمكانهنّ
فعل ذلك."
بين المزايدات والانحرافات، تُوأَد الأفكار في مهدها، وتُطفأ شرارة الإبداع قبل أن تكتمل. وهكذا يفعل كل ذي أفقٍ ضيق؛ يضيق صدره أمام فكرةٍ تتجاوز نظره القصير، ويضطرب أمام صوتٍ لا يشبهه
تفتح هذه
العبارة بابا واسعا للتأمل في قسوة البشر، وفي أسباب التنمر التي لا ترتبط دائما
بجرم ارتكبه الضحية، بل أحيانا بمجرد قدرة الآخر على الإيذاء.
لكن لكل
قصة تفصيلها وعمقها؛ فالنفس البشرية أشبه بدهاليز مظلمة معقدة، خفية المسالك،
بينما العقول طرق مستقيمة يمكن السير فيها بسهولة. وبين الدهاليز والطرق، يتولّد
الصراع، ويُشدّ خيط رقيق بين الفعل وردّ الفعل.
وإذا
أطلقنا على هذا الصراع اسم الفن أو الحكمة، فإن اجتماع الاثنين يولّد السياسة،
والسياسة ليست مجرد "فن الممكن"، بل محاولة لتحويل المستحيل إلى ممكن.
غير أن الاستغراق في دهاليز النفوس المريضة يقود إلى الضياع، أما النفوس السويّة
فهي أكثر صفاء في علاقتها بعقولها، تمنحنا فرصة للتعلّم دون أن نتوه داخلها.
خاتمة: من
الذي يقتل الفكرة؟
بين
المزايدات والانحرافات، تُوأَد الأفكار في مهدها، وتُطفأ شرارة الإبداع قبل أن
تكتمل. وهكذا يفعل كل ذي أفقٍ ضيق؛ يضيق صدره أمام فكرةٍ تتجاوز نظره القصير،
ويضطرب أمام صوتٍ لا يشبهه، حتى لو كان ذلك الصوت أصدق منه وأوسع رؤية.
إن كسر
القلم أسهل من مناقشة الفكرة، لكن الأفكار الصادقة لا تموت. وسيبقى الزمن شاهدا يعيد الاعتبار لكل قلمٍ حاولوا كسره.. ولم ينكسر.