شهدت الساحة
السياسية والاجتماعية في الولايات المتحدة تحولا تاريخيا صامتا، لكنه يحمل أصداء زلزال
قادم. فبينما ظلت واشنطن عقودا طويلة ضامنا تقليديا للدعم المطلق للاحتلال
الإسرائيل،
كشفت استطلاعات رأي حديثة عن انقلاب جذري في توجهات جيل المستقبل، جيل "زد"،
هذا التحول ليس مجرد تذبذب عابر، بل هو مؤشر على بداية نهاية عصر الهيمنة السردية الإسرائيلية
داخل العمق الأمريكي، ويشي بتشكّل بيئة سياسية واجتماعية مناهضة للاحتلال.
الفجوة
الجيلية تنذر بالخطر
تُعد الأرقام
الصادرة عن استطلاع جامعة هارفارد بمثابة ناقوس خطر لرواية الاحتلال الإسرائيلي التقليدية،
فقد أظهر الاستطلاع أن 60 في المئة من جيل "زد" الأمريكي يفضلون حركة المقاومة
الإسلامية "حماس" على الاحتلال الإسرائيلي في سياق الصراع بين أهل الحق وأهل
الباطل، بينما لم يتجاوز دعم تل أبيب بينهم نسبة 40 في المئة.
يُعتبر هذا التحول الجيلي نتاجا مباشرا لتغير جذري في الأدوات المعرفية، فقد تحولت منصات التواصل الاجتماعي، من تيك توك إلى إنستغرام، إلى سلاح لتغير الأدوات وفعّال
وتؤكد
هذه البيانات دراسات أخرى، حيث أشار استطلاع غالوب إلى أن التعاطف مع
الفلسطينيين بين
الديمقراطيين
الشباب قد تجاوز التعاطف مع الاحتلال الإسرائيلي لأول مرة، كما سجل مركز
بيو للأبحاث أدنى مستويات الرضا عن سلوك الحكومة الإسرائيلية ضمن الفئة العمرية
18-29 عاما. هذه الفجوة الهائلة مع الأجيال الأكبر سنا، التي لا تزال أسيرة لنموذج
الدعم التقليدي، تبرهن أن جذور هذا التحول باتت راسخة وتتطلب إعادة تقييم شاملة للسياسة
الأمريكية.
عامل التسريع..
السوشيال ميديا وكسر جدار الفلترة الإعلامية
يُعتبر
هذا التحول الجيلي نتاجا مباشرا لتغير جذري في الأدوات المعرفية، فقد تحولت منصات التواصل
الاجتماعي، من تيك توك إلى إنستغرام، إلى سلاح لتغير الأدوات وفعّال. يعتمد جيل
"زد" بشكل حصري تقريبا على هذه المنصات التي تتيح للناشطين والمدنيين الفلسطينيين
نشر مقاطع حيّة ومباشرة للدمار والقتل والمجازر وحرب الإبادة في غزة. هذا التدفق المعلوماتي
المباشر والمؤثر عاطفيا نجح في نسبة الرقابة والفلترة التي طالما مارسها الإعلام الأمريكي
التقليدي المُتهم بالانحياز، لقد ساعدت هذه المقاطع في تفكيك صورة "الجيش الأكثر
أخلاقية" بفعالية فائقة، وبناء تعاطف فوري وقوي مع الجانب الإنساني الفلسطيني،
مما شكّل موقفا مناهضا للاحتلال مبنيا على حقائق مصوّرة.
الجامعات الأمريكية.. المقاومة كرمز للعدالة
لم يعد
التلقين المناهض للاحتلال الإسرائيل حكرا على اليسار التقدمي، فقد تحولت الجامعات الأمريكية،
كما رصدت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، إلى مركز للعدالة ولتجذّر العداء الطلابي
للاحتلال الإسرائيلي.
بالنسبة
للتيارات الجامعية الجديدة، لم تعد فلسطين مجرد صراع سياسي، بل هي رمز للعدالة الاجتماعية
والحقوق المدنية، إنهم يرون في مقاومة الاحتلال امتدادا لنضالات الأقليات وحركات التحرر
العالمية التي يدرسونها في مناهجهم النقدية. هذا التبني الأخلاقي لقضية المقاومة هو
الذي يغذي حركات المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية (BDS)،
ويجعل من المستحيل على الحكومات محاولة إعادة صياغة الرواية أو قمع هذا التوجه الشعبي
المتنامي.
نجاح المقاومة يتجاوز الحدود الجغرافية
إن التحوّل
في الرأي العام الأمريكي مرتبط بشكل وثيق بنجاح المقاومة الفلسطينية في كسر الهيمنة
الإعلامية للاحتلال الإسرائيلي العالمية، بالرغم من الكلفة الإنسانية الهائلة والتفوق
العسكري النوعي، حققت المقاومة إنجازات محورية: الصمود العسكري غير المتوقع، وكسرت
بنجاح الاحتكار الإعلامي عبر السرديات المباشرة من الميدان، وفرضت نفسها كلاعب لا يمكن
تجاوزه في أي مباحثات سياسية.
نجح الجيل الجديد في اختراق جدار الفلترة وبناء سردية تقوم على العدالة والحق، مستخدما أدوات عصرنا. إن هذا التحول يهدد بأن الدعم الشعبي الأمريكي لإسرائيل لن يبقى مضمونا على المدى الطويل، مما يفرض ضغوطا غير مسبوقة على صانعي القرار في واشنطن
إن مشاهدة
الجرائم الموثقة، كقصف المستشفيات والمجازر الجماعية، أدت إلى تأطير الصراع لدى الشباب
الأمريكي من كونه صراعا معقدا إلى كونه "قضية أخلاقية إنسانية"، تجسدت بقوة
في قصص فردية مثل قصة "أماني"، التي اختصرت مأساتها الوجه الإنساني للحصار
والحرب.
الفخ السياسي..
ترامب ونتنياهو في علاقة متوترة
في خضم
هذا التحول، يجد القادة أنفسهم في ورطة؛ يحاول الرئيس ترامب استثمار ملف غزة لتحقيق
مكاسب انتخابية عبر تصوير نفسه كمهندس سلام، لكن أي توسع في الحرب يهدد بتخريب هذه
الصورة.
في المقابل،
تحولت علاقته بنتنياهو (المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية) إلى فخ سياسي لكلا الطرفين،
فأصبح نتنياهو عبئا، بينما يسعى ترامب لاستغلال ورقة غزة لإظهار قدرته على احتواء الأزمة
وربما إخضاع حليفه القديم، هذا التوتر في القمة يعكس التوتر الشعبي المتصاعد في القاعدة.
مستقبل
الدعم ليس مضمونا
ما نشهده
اليوم ليس مجرد موجة غضب عابرة، بل هو تغيير منهجي في الوعي الأمريكي، لقد نجح الجيل
الجديد في اختراق جدار الفلترة وبناء سردية تقوم على العدالة والحق، مستخدما أدوات
عصرنا. إن هذا التحول يهدد بأن الدعم الشعبي الأمريكي لإسرائيل لن يبقى مضمونا على
المدى الطويل، مما يفرض ضغوطا غير مسبوقة على صانعي القرار في واشنطن.
إن المستقبل
السياسي والدبلوماسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط قد يرتسم ملامحه جيل جديد يرى
في المقاومة الفلسطينية حركة تحرر مشروعة، وعليه، فإن على الإدارة الأمريكية أن تدرك
أن عصر الشيكات على بياض قد شارف على الانتهاء.