رغم الدمار الهائل الذي خلفته حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة منذ عامين على قطاع
غزة، يعود موسم قطف
الزيتون وعصره هذا العام كعيد فلسطيني جديد للصمود والتشبث بالأرض، في وقت دُمرت فيه غالبية المزارع والمعاصر التي كانت تشكل ركيزة أساسية للاقتصاد الزراعي في القطاع.
قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كان المزارع حمادة صبح القاضي، البالغ من العمر خمسين عاما، يمتلك قطعة أرض تمتد على مساحة 90 دونما في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، زرعها مع أشقائه بمئات أشجار الحمضيات واللوزيات، إلى جانب 250 شجرة زيتون. كانت
الزراعة بالنسبة له أكثر من مصدر رزق، بل علاقة حياة مع الأرض التي رعاها كما يرعى أبناءه.
يقول القاضي لوكالة"وفا": "كنا نجمع نحو ثلاثة آلاف كيلوغرام من أجود أنواع الزيتون كل عام، نعصر نصفها ونبيعها بسعر 350 شيقلاً للتنكة (16 لتراً)، فيما نوزع النصف الآخر على العائلة والمحتاجين، التزاماً بوصية والدي الذي كان يقول دائماً إن بركة الزيت لا تكتمل إلا بالعطاء".
لكن تلك الأرض الخصبة تحولت اليوم إلى ركام وخراب بعدما جرفتها آليات الاحتلال وسوتها بالأرض. يضيف القاضي بحسرة: "أصبحت أنا وإخوتي العشرة وأولادنا الثمانون بلا مصدر رزق. كنا نعيش من خيرات الأرض، واليوم نعتمد على المساعدات والتكايا. كنا أسياد الأرض، وأصبحنا في حالة فقر وعوز".
ورغم الألم، يؤكد عزمه على العودة لإعمار الأرض فور انسحاب جيش الاحتلال من رفح، قائلا: "أرضنا هي ملحنا ورزقنا، ولا يمكن أن نعيش بعيداً عنها".
خسائر فادحة في قطاع المعاصر
في مدينة خان يونس، لم يكن حال أصحاب المعاصر أفضل. فقد خسر محي المصري، مدير المعصرة الإيطالية الحديثة المجاورة للمستشفى الأوروبي، كل ما بناه منذ تأسيس المعصرة عام 2016. كانت المعصرة تخدم مزارعي القطاع بطاقة إنتاجية يومية تصل إلى 50 طناً من الزيت، وتنتج سنويا بين 1000 و1300 طن، وتشغل 15 عاملا.
يقول المصري بأسى لوكالة"وفا": "تعب السنين ذهب في لحظة. كانت المعصرة بالنسبة لي كالحلم، بنيتها خطوة بخطوة، وتدميرها ترك أثراً كبيراً في نفسي. نحلم بإعادة بنائها لتعود لخدمة المزارعين، فمعظم المعاصر في غزة دُمرت بالقصف، وبدونها لا يمكن للمزارعين الاستفادة من محصول الزيتون".
اظهار أخبار متعلقة
80% من الأراضي الزراعية دمرت
أما رئيس مجلس إدارة جمعية خان يونس الزراعية التعاونية وعضو الأمانة العامة للاتحاد التعاوني بفلسطين محمد عبد الحميد الأسطل، فيصف الواقع الزراعي في غزة بأنه "كارثي"، موضحا أن ما بين 70 إلى 80% من الأراضي الزراعية دمرت بالكامل، بما فيها الأشجار المثمرة، وشبكات الري، والآبار الارتوازية.
ويقول الأسطل لوكالة"وفا": "المناطق التي لم يصلها الاحتلال مثل المواصي ودير البلح والنصيرات فقط بقيت قابلة للزراعة، لكن حتى الأشجار التي نجت تعاني من العطش، والإنتاج ضعيف ورديء، والأسعار ارتفعت بشكل كبير".
ويضيف أن الاحتلال يسيطر على أكثر من 57% من الأراضي الزراعية في القطاع، ويمنع المزارعين من الوصول إليها، ما يجعل عملية إعادة الإعمار الزراعي شبه مستحيلة في الوقت الراهن.
ويؤكد أن إعادة بناء القطاع الزراعي تتطلب خطة شاملة تشمل: إعادة تشغيل الآبار بالطاقة الشمسية، إصلاح شبكات الري، توفير أشتال الزيتون والحمضيات، فحص التربة والمياه الجوفية، وإعادة بناء الدفيئات الزراعية والثروة الحيوانية.
تراجع الإنتاج إلى أدنى مستوياته
من جانبه، يكشف رئيس جمعية غصن الزيتون، المهندس الزراعي محمد أبو عودة، عن أرقام صادمة لانهيار قطاع الزيتون في غزة، قائلاً: "انخفض عدد أشجار الزيتون من مليوني شجرة إلى 150 ألفاً فقط، والمساحات المزروعة من 50 ألف دونم إلى 4 آلاف دونم، بينما تراجع الإنتاج السنوي من 40 ألف طن إلى 3 آلاف طن فقط، منها 2000 طن عصير و450 طن زيت".
ويضيف أن نسبة الاكتفاء الذاتي من زيت الزيتون انخفضت من 100% قبل الحرب إلى 8% فقط اليوم، في حين ارتفع سعر الكيلو من 5 شواقل إلى 30 شيقلا، وسعر التنكة (16 لترا) من 500 إلى 2500 شيقل.
كما أشار إلى أن عدد المعاصر انخفض من 40 إلى 6 فقط، وخطوط الإنتاج من 68 إلى 15، ومصانع التخليل من 14 إلى 3، بينما توقف النشاط التسويقي والتصديري بالكامل.
ويقول أبو عودة إن القوى العاملة تضررت بشدة، حيث انخفض عدد المزارعين من 7 آلاف إلى 600 فقط، والعاملين في القطاع من 20 ألفاً إلى 2000، بينما بقيت النساء العاملات عند 2500.
ويختتم أبو عودة حديثه قائلا: "شجرة الزيتون في فلسطين ليست مجرد شجرة، بل هي رمز للتاريخ والهوية. ما جرى هو جزء من استراتيجية ممنهجة لتدمير الاقتصاد الفلسطيني واستهداف صمود السكان. نحن بحاجة إلى دعم عاجل لإعادة الحياة إلى هذا القطاع الحيوي".