صحافة دولية

هيرست يرثي هيرست الآخر: صوت متمرد كلماته تصدع بالحق من قبل ومن بعد

هيرست عرف بمواقفه المناهضة للاحتلال وممارساته في فلسطين المحتلة- الغارديان
هيرست عرف بمواقفه المناهضة للاحتلال وممارساته في فلسطين المحتلة- الغارديان
رثى الكاتب البريطاني ديفيد هيرست رئيس تحرير موقع "ميدل إيست آي"، زميله الذي يحمل نفس الاسم، ديفيد هيرست محرر شؤون الشرق الأوسط في صحيفة الغارديان) والذي توفي عن 89 عاما الأربعاء.

وفي مقال رثاء نشرها موقع ميدل إيست آي، استعاد الكاتب سنوات عمل الراحل في الغارديان، حين كانت الصحيفة تعطي أولوية للرأي غير الغربي وتولي اهتماماً واسعاً بالأخبار الدولية.

كما أشاد بإسهاماته الكبرى، وفي مقدمتها كتابه الشهير البندقية وغصن الزيتون، الذي وصف المشروع الصهيوني بأنه استعمار استيطاني بالإضافة إلى كتاباته التي وثقت محطات في تاريخ الشرق الأوسط.

وفيما يلي نص المقال:
يشدني الحنين إلى أيام الغارديان عندما كان ديفيد هيرست، الذي توفي يوم الإثنين عن تسعة وثمانين عاماً، محرر شؤون الشرق الأوسط المتميز في الصحيفة.

كانت صحيفة تأخذ على محمل الجد الرأي غير الغربي، وكانت تهتم بشدة بما يجري في الشرق الأوسط وبالأخبار الأجنبية عموماً.

كان لديها مراسل واحد في بيروت، ومراسلان في القدس، ومتعاونون محليون في كل عاصمة عربية. كان قسم الأخبار الأجنبية يشتمل على فريق متفان من المحررين.

ولكنها كانت لها أيامها الغريبة والرائعة.

كانت صحيفة الكتاب، وكان المراسلون هم من يضعون الأجندة لقسم الأخبار، وليس العكس من ذلك، كما آلت إليه الأمور اليوم. كان يصعب علينا الوصول إلى مراسلنا في باريس لأنه كان يرفض الاحتفاظ بجهاز هاتف. كان إعداد التقارير وإرسالها يستغرق من المراسلين وقتاً، يمتد أحياناً إلى أسابيع.

كانت الغارديان مليئة بالأخطاء المطبعية، وكانت المطبعة الموجودة في شارع غريز كثيراً ما تتعطل بعد سحب الطبعة الأولى حتى بات يطلق عليها اسم "غرونياد" (بدلاً من غارديان).
وكانت لها ميزة أخرى، وهي أنها كانت توظف صحفيين يحملون نفس الاسم. فقد كان فيها صحفيان كل واحد منهما اسمه بول ويبسترز، أحدهما كان مراسلنا في باريس، بينما كان الآخر محرر الأخبار الأجنبية.

وكان فيها صحفيان كل واحد منهما اسمه ديفيد هيرست، أو على الأقل هكذا كان يكتب الاسم باللغة العربية.

كان هناك الرجل الذي كنت أشير إليه بعبارة "ديفيد هيرست الحقيقي"، الصحفي المتميز المتخصص في الشؤون العربية والذي ألف الكتاب المبدع "البندقية وغصن الزيتون"، والذي نجا من الاختطاف مرتين في بيروت في أوج الحرب الأهلية هناك، والذي كتب تقارير حصرية حول تدمير حماة على يدي حافظ الأسد وحول تسميم الكرد بالغاز في حلبجة على يدي صدام حسين.

وكان هناك كاتب هذه الكلمات: شاب متحمس وجاهل، تم تغيير اسم عائلته على عجل في عام 1943 على متن سفينة حربية بريطانية متجهة نحو شواطئ الإنزال بالقرب من ساليرنو في إيطاليا أثناء الحرب العالمية الثانية.

كان والدي ملازماً في الجيش البريطاني. قال له قائد وحدته إن القوات البريطانية لا يمكنها أن تدخل ساحة الوغى تحت قيادة ضابط يحمل اسماً ألمانياً.

كان والدي يهودياً نمساوياً، ولذا تسبب له ذلك الموقف بإهانة مضاعفة. ولكنه في نهاية المطاف تحول من هيرشتريت الألماني إلى هيرست الإنجليزي، وكتب الاسم على النحو التالي Hearst تمييزاً له عن أسماء مشابهة في النطق لأشخاص يحيطون به ولكنها تكتب إما Hirst  أو Hurst .

تحسباً مما قد أسببه لزميلي الأعلى قدراً والأكثر تميزاً، والبريء تماماً، فقد اخترت منطقة أخرى من العالم أتخصص فيها وأكتب عنها، فرحت أتعلم اللغة الروسية.

أثر القرين
ولكن، وكما ينبغي له، جرني الشرق الأوسط وأعادني إلى مركز الجاذبية فيه كما لو كان قوة من قوى الطبيعة، وأشبه بالحبكة التي في رواية "سكوب" لمؤلفها إيفلين واه، غدونا كلانا في أذهان قرائنا شخصاً واحداً.

كنت أتلقى شيكات البي بي سي الموجهة إليه. وذات مرة أجريت مقابلة مع دبلوماسي إيراني رفض التصديق، رغم إنكاري مرات عديدة على مدى تسعين دقيقة، أنني لست من نجا من محاولات الخطف في بيروت.

وفي زيارة لي إلى مدينة أوتاوا بكندا، احتشد جمهور من المعجبين في قاعة يحمل كل منهم في يده نسخة من كتاب "البندقية وغصن الزيتون" للحصول على توقيع مني. فلما وعيت لما كانوا يريدون مني تداركت الأمر وأوقفتهم. ثم جاءت الإنترنيت لتزيد الطين بلة.

لم يحصل بيني وبين سميي هيرست تواصل إلا لفترات محدودة في أواخر أيام عمله في الغارديان، سرعان ما تبين لي أن تلك كانت أيضاً أواخر أيامي هناك.

في عهد بلير في بريطانيا في أواخر التسعينيات من القرن الماضي وفي مطلع الألفية الجديدة، قررت الغارديان عن وعي إدارة ظهرها لليسار وللنقابات، وكذلك لجذورها كصحيفة متحررة من القيود أيام كانت تصدر في مانشستر، وذلك سعياً منها لكسب آفاق جديدة في الولايات المتحدة.

إلا أن تلك الخطة فشلت، وكم علا صرير الأسنان أسفاً على ما تكبدته الصحيفة من تكاليف. فالولايات المتحدة لديها وسائل إعلامها الليبرالية الخاصة بها، ناهيك عن أن الأمريكان لم يرغبوا في أن يتلقوا دروساً من قبل البريطانيين في كيفية التصويت في انتخاباتهم.

بعد عدة محاولات للهبوط على الساحل الشرقي، تُركت الغارديان طافية في وسط المحيط الأطلسي، تماماً كما آل إليه حال بلير نفسه.

نتيجة لذلك، وجد هيرست صعوبة جمة في نشر كتاباته في الصحيفة التي ظل مراسلاً لها على مدى أربعة عقود.

وغدت مقالاته الطويلة وذات الطابع الأكاديمي تتنقل من يد إلى يد ما بين قسم الأخبار الأجنبية وقسم المقالات المطولة، ثم من هنا إلى هناك، كما لو كانت حبات من البطاطس الساخنة، لا يرغب في التعامل معها أحد.

لم تكن مقالاته تستحق مثل هذا التعامل على الإطلاق. فرغم أنها لم تكن مما يتناسب مع التصميم الجديد ذي الطابع المتصلب، إلا أنها كانت مقالات رائعة من حيث عمق التحليل والإبداع الصحفي.

ما كنت تجد كلمة واحدة في غير محلها ضمن جمله الطويلة، والويل والثبور لأي محرر يتدخل فيحذف فاصلة أو يغير مكانها.

كان هيرست من ذلك الجيل الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، ولم تكن تزعجه أو تنال من يقينه التيارات المحدثة أو الآراء الشعبوية أو حتى التقاليد الجامدة.

البندقية وغصن الزيتون
العنوان الكامل للكتاب هو "البندقية وغصن الزيتون: جذور العنف في الشرق الأوسط". بلا هوادة، يمثل الكتاب إدانة تحليلية دامغة للصهيونية باعتبارها مشروعاً استعمارياً استيطانياً.

تم نشر الكتاب في لحظة لم تكن هي الأفضل بالنسبة لمثل هذا العمل. كان ذلك في عام 1977، السنة التي زار فيها الرئيس المصري أنور السادات القدس، وكان العالم مهووساً بفكرة تحقق السلام في زمننا.

كان هيرست واحداً من القلة القليلة التي تمردت. تعرض كتابه للتنديد من قبل الصحف القليلة جداً التي تجرأت على نشر مقالات تحدثت عنه.

كانت الواشنطن بوست هي الصحيفة الكبرى الوحيدة التي لمسته حينذاك، والتي وصفته بالعبارة التالية: "إنه شهقة اتهامية وسط الأوتار المفتوحة لنشيد الأمل".

أما صحيفة ذي نيو ريبابليك (الجمهورية الجديد) فقالت عنه: "إنه الكتاب الأكثر عداءً لإسرائيل على الإطلاق والذي تم نشره باللغة الإنجليزية من قبل شخص يدعي أنه معلق جاد".

في المقابل، عندما نشرت جوان بيترز كتابها الذي أعادت فيه كتابة التاريخ تحت عنوان "من قديم الزمان: أصول الصراع العربي اليهودي على فلسطين"، والذي زعمت فيه أن الفلسطينيين ليسوا أكثر أصالة في هذه الأرض من المهاجرين الصهاينة، استقبل كتابها بحفاوة بالغة.

حينها كتب رونالد ساندرز الذي ألف كتاباً حول وعد بلفور واصفاً كتابها بأنه "قد يغير الكلام كله حول فلسطين."

أما مارتن بيريتز محرر صحيفة ذي نيو ريبابليك، فأعلن أن كتابها "سوف يغير رأي جيلنا. ولو تم فهمه فإنه سوف يؤثر على تاريخ المستقبل."

لم يتغير الكثير. ومع ذلك، تعزز مكانة كتاب هيرست، وبينما توالت طبعاته الواحدة تلو الأخرى، نما حجماً وسما سمعة.

اظهار أخبار متعلقة



اتفاقيات أوسلو
كتب هيرست عن اتفاقيات أوسلو التي وقعها زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين في سبتمبر / أيلول 1993 قائلاً: "كانت هذه هي الخطوة الرسمية الأولى في عملية إنهاء الاستعمار التي خضعت لها كل هذه المشاريع الاستعمارية الأوروبية، ولكن في الوقت نفسه، كانت الدولة اليهودية هي الاستثناء العظيم الذي يثبت القاعدة، وكانت أيضًا الاستثناء الأخير والمحدود للغاية.

"فبالتأكيد، كان الفلسطينيون، وفقًا لأيّ حساب تاريخي حقيقي، هم من قدّموا التنازل الحقيقي؛ فبالنسبة لهم، كان ذلك تاريخيًا خسارةً مُطلقة مقابل مكسبٍ إسرائيليٍّ مُطلق. وبمعاييره الخاصة، كان انسحاب عرفات مُذهلًا، أعظم من انسحاب السادات، ولا يضاهيه بحال، وهو الذي ندّد به قبل ستة عشر عامًا ووصفه بـ"الردة".

"كان تخليه الرسمي عن 78% من فلسطين التاريخية متوقعًا. لكنه بالإضافة إلى ذلك تخلى عمليًا عن فكرة العودة لجميع من شُرد منهم عامي 1948 و1967، أي نصف الشعب الفلسطيني، والذين لم يزالوا منذ ذلك الحين يعتبرون العودة هي الهدف الأسمى للنضال."

تعرف الصحافة بأنه الصيغة الأولى للتاريخ، وذلك لسبب، ويندر أن تتجاوز أحكامها الآنية اختبار الزمن. ولكن كلمات هيرست لم تزل تعبر عن قراءة صحيحة للواقع اليوم كما كانت حينما خطها بقلمه.

لم يكن هيرست صحفياً يكتب عن ذاته. كان لابد من إقناعه بأن يكتب تقريراً عن اليوم الذي نجا فيه من الخطف، وحتى حينذاك كان زاهداً في وصفه للحدث لأنه ظن، وكان في ذلك محقاً، أنه ينبغي أن تكون الأولوية للاهتمام بكل الشرور الأخرى التي كانت تعاني منها بيروت العزيزة على قلبه، والتي كان يقيم فيها في منطقة الكورنيش.

أشعر بالاعتزاز أنني قمت بنشر آخر مقالين له في موقع ميدل إيست آي. وها نحن اليوم نعيد نشر أهدهما.

لا أعلم إن كان هيرست قد حاول نشرهما في الغارديان، ولكنني متأكد من أنه لو سعى إلى ذلك ماذا سيكون الجواب.

ما خسرته الغارديان كسبه ميدل إيست آي.

أحيي سميي. وكل ما أرجوه هو أن نتمكن جميعاً من الاستمرار على خطاه والوفاء له من خلال التقيد بمنهجه والتمسك بمعاييره.
التعليقات (0)

خبر عاجل