نشرت صحيفة "
نيويورك تايمز" الأمريكية، مقالا، للصحفية ميشيل غولدبرغ، تناولت فيه رؤية الدبلوماسي الأمريكي روبرت مالي، الذي لعب أدوارا محورية في صياغة سياسات الشرق الأوسط لدى الإدارات الديمقراطية منذ عهد بيل كلينتون، حول مستقبل عملية
السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
يرى مالي، بحسب التقرير، أنّ: "حل الدولتين، الذي شكّل حجر الزاوية في السياسة الأمريكية لعقود، قد وصل إلى طريق مسدود، بل ويصفه بالفكرة التي لم تكن قابلة للتحقق منذ البداية. ويطرح، رفقة المفاوض الفلسطيني السابق حسين آغا، في كتاب جديد عنوانه "الغد هو الأمس: الحياة والموت والسعي لتحقيق السلام في إسرائيل/ فلسطين"، مراجعة شاملة لتجربة امتدت أكثر من ثلاثة عقود من الفشل الدبلوماسي".
من أوسلو إلى الخراب
يعود مالي بذاكرته إلى اتفاقيات أوسلو عام 1993، حين بدت التسوية السياسية قاب قوسين أو أدنى، لتتحول بعد ثلاثين عاما إلى كابوس متواصل. يتساءل بمرارة: "هل هناك مقياس واحد يمكن القول بفضله إن الولايات المتحدة جعلت الأمور اليوم أفضل مما كانت عليه آنذاك؟".
الكتاب الذي ألّفه مع آغا، المستشار السابق للرئيسين الفلسطينيين، ياسر
عرفات، ومحمود عباس، يصف تلك المرحلة بكونها "عصر الأوهام". ويكتب المؤلفان: "لقد ولى زمن عملية السلام وحل الدولتين"، معتبرين أنّ: "المشروع كان في جوهره هدفا عقيما لم تتوفر له أي فرصة نجاح، خاصة في ظل امتناع واشنطن عن ممارسة أي ضغط حقيقي على
الاحتلال الإسرائيلي".
وأبرز: "اليوم مع تصاعد الاستيطان، ودمار غزة عقب السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، يبدو الحل أبعد ما يكون عن الواقع، لكنه ما يزال الخيار الوحيد الذي يتمسّك به بعض الساسة والدبلوماسيين "لغياب بديل يمكن تخيله".
وتابع: "على خلاف كثير من زملائه في المؤسسة الأمريكية، لم يكن مالي متأثرا بالثقافة الصهيونية الليبرالية التي طبعت جيل المسؤولين اليهود الأمريكيين. فوالده كان يهوديا مصريا قوميا عربيا معاديا للصهيونية، وتعرّف روبرت في طفولته على ياسر عرفات خلال رحلة عائلية إلى الجزائر".
مع ذلك، استرسل بالقول: "لم يتبنَّ مالي مواقف والده الراديكالية، بل نظر إلى الصراع باعتباره "مواجهة بين حركتين وطنيتين بحاجة إلى صيغة للتعايش". هذا المنظور جعله غريبا عن التيار السائد، ومكروها من قبل اليمين الأمريكي الموالي لإسرائيل".
خلال مسيرته، شارك مالي في قمة كامب ديفيد خلال عام 2000 مع كلينتون ورئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، إيهود باراك، وشغل لاحقا موقعا مؤثرا في إدارة باراك أوباما حيث قاد المفاوضات حول الاتفاق النووي الإيراني. كما عُيّن مبعوثا خاصا للرئيس جو بايدن إلى إيران، قبل أن يتم وضعه في إجازة إدارية عام 2023 على خلفية تحقيق يتعلق بوثائق سرية، وهي قضية يصفها بأنها "كافكاوية" انتهت دون توضيح أو إدانة.
اظهار أخبار متعلقة
نقد ذاتي.. واعتراف بالفشل
في حديثه للصحيفة، يعترف مالي بأنه لم يعد مقتنعا بجدوى السعي وراء "وهم الدولتين"، رغم أنه كرّس حياته المهنية لدبلوماسية السلام. ويقول: "عندما أعود بالذاكرة إلى الوراء، أتساءل عن مدى إيماننا الحقيقي بالهدف الذي كنا نزعم السعي إليه. مهما كانت نوايانا صادقة، فقد انتهى الأمر إلى العدم".
بالنسبة له، فإن تكرار الحديث عن الدولتين يخدم فقط شرعنة الاحتلال، إذ يوهم المجتمع الدولي بأن السيطرة الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية مؤقتة، فيما الواقع يكشف عن ضم متدرج للضفة الغربية وتطهير عرقي في غزة.
بين الدولة الواحدة والكونفدرالية
في كتابهما، يناقش مالي وآغا مجموعة من السيناريوهات البديلة. أحدها هو الدولة الواحدة ثنائية القومية، التي تقوم على المساواة الكاملة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لكنهما يقرّان بأن هذه الفكرة تبدو "جذابة نظريا" و"مرفوضة عمليا"، إذ لا الفلسطينيون ولا الإسرائيليون يبدون استعدادا للعيش في كيان موحّد.
أظهر استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، في أيار/ مايو الماضي، أن 14% فقط من الفلسطينيين يؤيدون الدولة الواحدة، بينما فضّل 47% العودة إلى خيار الدولة الفلسطينية على حدود 1967.
إلى ذلك، طرح آخر يتمثل في كونفدرالية فلسطينية أردنية، إذ يرى المؤلفان أن الإسرائيليين أكثر تقبلا لفكرة إشراك الأردن بسبب اعتبارات تاريخية وسياسية، غير أن الفكرة تصطدم بعقبات عديدة، أبرزها رفض الأردن استيعاب ملايين الفلسطينيين الجدد، وتناقضها مع الهوية الوطنية الفلسطينية.
التخلي عن الافتراضات القديمة
يؤكد مالي أن الأولوية اليوم هي كسر الجمود الفكري والتخلي عن الحلول المستهلكة. يقول: "علينا أن نفسح المجال، ولو قليلا، لهذه الأفكار البديلة، بدلا من القول إنها جميعها غير واقعية. التمسك بخيار أثبت فشله ليس واقعية، بل إنكار للواقع".
وبالنسبة له، فإن الوضع الراهن، المتمثل في تعميق الاحتلال والضم الزاحف والتدمير المنهجي لغزة، هو ما يجعل "الشعارات السهلة" حول حل الدولتين خطيرة، لأنها تبرر للمجتمع الدولي، وخصوصا أوروبا والحزب الديمقراطي في أمريكا، الاستمرار في دعم إسرائيل تحت غطاء "السلام الوشيك".
اظهار أخبار متعلقة
حاضر قاتم ومستقبل غامض
لا يقدّم مالي وآغا وصفة سحرية، لكنهما يصران على أن التمسك بالوهم أخطر من مواجهة الحقيقة. فإسرائيل، كما يقول مالي، لن تحل نفسها بنفسها، والفلسطينيون لن يتخلوا عن هويتهم الوطنية، والولايات المتحدة لن تمارس الضغط اللازم على تل أبيب.
النتيجة، في نظرهما، هي أن إسرائيل الحالية – بزعامة بنيامين نتنياهو – ستبقى الدولة الوحيدة بين النهر والبحر، مع استمرار مشروع الضم والتطهير العرقي بدعم من أطراف دولية، على رأسها إدارة دونالد ترامب إذا عاد إلى السلطة.
في النهاية، فإن كتاب "الغد هو الأمس" يقدم شهادة من داخل أروقة صناعة القرار الأمريكي على أن "حل الدولتين لم يكن سوى ستار لتأجيل الحقيقة".