مقالات مختارة

عولمة صينية واستعباد أمريكي

عبد الحليم قنديل
عربي21
عربي21
العرض العسكري الصيني الأخير هو الأكبر من نوعه لدولة منفردة في العالم المعاصر، كان العرض مزيجا مبهرا من استعراض القوة والدقة التنظيمية والامتياز التكنولوجي، وخصوصا حين تقارنه بهرج ومرج وبؤس عرض عسكري أمريكي أقيم قبل شهور، العرض الأمريكي المضطرب كان في مناسبة عيد الميلاد التاسع والسبعين للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بينما العرض الصيني يقام منذ عشر سنوات في ذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية.

ووافق هذه المرة الذكرى الثمانين لاندحار اليابان، وحضره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي كانت لبلاده ـ في الزمن السوفييتي ـ أولوية السبق لدحر ألمانيا النازية واقتحام برلين، بينما تغيب أو جرى تغييب الغرب كله عن الاحتفاء الصيني بذكرى النصر العالمي، رغم أن أمريكا بالذات، هي التي أنهت الحرب ضد اليابان بضربة قنابلها الذرية على هيروشيما ونجازاكي، وكان لافتا بشدة، أن الرئيس الصيني شي جين بينج، قد حذر الغرب من العودة إلى عقلية الحرب الباردة، وقال بوضوح، إن العالم الراهن أمام اختيار حاسم بين الحرب أو السلم، وأكد أن الصين صارت قوة لا يمكن وقفها، وبدت الإيحاءات ظاهرة في التصوير المتقن لاصطفاف وتحريك عشرات آلاف الجنود في ميدان «تيانا نمن»، أو «السلام السماوي» أكبر ميادين بكين والدنيا كلها.

وعلى الجانب الآخر من العالم، عبّر ترامب عن قلقه المفزوع مما رأى، ليس فقط من مشاهد طائرات الصين المقاتلة الأحدث من الجيلين الخامس والسادس، وسلاسل طائرات «جي 10» إلى «جي 20» و»جي 31»، بل من صواريخ «واي جي» المعروفة بلقب «قاتلة حاملات الطائرات» في أعالي البحار، ومن الصواريخ النووية العابرة للقارات الأسرع من الصوت بعشرات المرات، ومن نظم الدفاع الفضائي المصممة لإسقاط الأقمار الصناعية العسكرية، ومن المركبات البحرية المسيرة الأضخم في العالم، ومن الروبوتات المقاتلة بأحدث نظم الذكاء الاصطناعي.

ولم تكن الأوصاف مجرد افتراضات نظرية أو تخيلية، فقد أثبتت المقاتلات الصينية تفوقها الحاسم في الميدان على نظائرها الغربية، على نحو ما جرى في القتال العابر لأيام بين الهند وباكستان، الذي حققت فيه إسلام أباد تفوقا جويا مذهلا على جارتها الهند الأضخم بمراحل.

ورغم أن ما جرى عسكريا كان في خلفية الصورة، إلا أن الهند وباكستان معا كانتا من ضيوف الرئيس الصيني في العرض العسكري، وقبله مباشرة في عضوية قمة «منظمة شنغهاي للتعاون»، غير أن الأكثر إدهاشا للأمريكيين والأوروبيين عموما، كان الحضور والمشاركة النشيطة المنطلقة لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وحرصه على إبداء الحفاوة وتبادل الابتسامات مع الرئيس الصيني، وجولاته المطولة في سيارة الرئيس الروسي، والإعلان عن تفاهمات صينية هندية حول مشاكل المياه والحدود في التبت، وهو ما يهدد بتقويض التزامات مودي السابقة مع الغرب، إلى حد اعتبار الهند شريكا استراتيجيا للغرب في منطقة المحيطين الهادئ والهندي.

وعلى ما يبدو أنه ذهب مع الريح، في قمة «منظمة شنغهاي»، فقد تردد أن مودي يرفض الرد على مكالمات الرئيس الأمريكي ترامب، وبالذات بعد فرض الأخير رسوما جمركية أمريكية على صادرات الهند بنسبة 50%، ربما على سبيل العقاب للهند، وردعا لها عن الاستمرار مع الصين، في استيراد البترول والغاز الطبيعي الروسي بأسعار تفضيلية، وكان إجراء ترامب موضع استهجان من الهند، التي تضع مصالحها فوق كل اعتبار آخر.

وهكذا كانت صدمة ترامب متعددة الوجوه، فقمة منظمة «شنغهاي» والعرض العسكري الصيني بعدها، كانا معا أقوى إشارة على تقدم الصين لصياغة عالم جديد متعدد الأقطاب، يتناقص فيه الاعتماد على الدولار الأمريكي في التسويات التجارية العالمية، وتجتمع فيه الأقطاب الصاعدة على عولمة تجارية أكثر عدالة، يبرز فيها وزن الصين الشريك التجاري الأول لأغلب دول العالم، فيما تنزوي أمريكا تدريجيا من وراء أسوار الحماية ومضاعفة الرسوم الجمركية، وهي العصا التي يعتمد عليها ترامب لردع صعود الآخرين.

ولم تفلح مع الاقتصاد الصيني الأعظم بإنتاجيته وتنافسيته الفائقة وبمقدرة السياسة الصينية الهادئة المدروسة على إزالة الحواجز، وخلق أسواق جديدة، بما فيها سوق الهند جارة الصين، وبينهما ما صنع التاريخ من مشكلات، لم تحل دون الزيادة المطردة في التجارة بينهما، فالصين هي الشريك التجاري الأول للهند منذ سنوات بعيدة، وهي الشريك التجاري الأول لباكستان، غريمة الهند تاريخيا، بينما يفشل ترامب في ردع الصين أو عزلها تجاريا، ويذهب حصاد قراراته الهوجاء إلى حضن الصين، التي تضاعف تبادلها التجاري وتعاونها العسكري مع روسيا، فقد زار الرئيس الروسي جارته الصين لأكثر من عشرين مرة إلى اليوم.

وكانت الصين سندا أساسيا لروسيا في حربها مع الغرب في الميدان الأوكراني، وكانت المساندة الصينية القوية لروسيا عنصرا حاسما في صمود موسكو، وفي صقل مقدرتها على تجاوز آثار 24 ألف عقوبة اقتصادية غربية، فرضت على موسكو، وتصورت إدارة ترامب بأدائها العشوائي البهلواني، أن بوسع واشنطن فك الصلات بين موسكو وبكين، وأن توثيق صلات ترامب مع بوتين قد يساعد في عزل بكين، وهو ما حدث عكسه بالضبط، ما دفع ترامب إلى إعلان إحباطه الدوري لرابع مرة من الرئيس الروسي، ثم جاء الانقلاب الهندي على ترامب، والتقارب المضاف بين نيودلهي وبكين، ونفي رئيس الوزراء الهندي لدور يدعيه ترامب في وقف الاقتتال الهندي مع باكستان، ورفض مودي طلب ترامب ترشيح الأخير لجائزة «نوبل» للسلام، جاءت هذه التطورات كلها لتصدم ترامب بقسوة، وتخرجه عن شعوره العصبي المتقلب على الدوام.

وبالطبع، فقد لا يصح تجاهل الحقائق الصلبة في الوضع العالمي الراهن، فلا تزال أمريكا تحتفظ بموقع الصدارة رقميا في الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا، لكن ثبات واشنطن على كرسي العرش العالمي، يبدو مشكوكا في أمره، والسبب ببساطة في التقدم السريع لأطراف أخرى، كانت الصين ولا تزال أهمها، وربما تتعادل الصين مع أمريكا في سنوات قليلة مقبلة بحساب الأرقام الدولارية المجردة، وإن كانت الصين تجاوزت أمريكا اقتصاديا بحساب تعادل القوى الشرائية.

ثم إن الاقتصاد الصيني يتمتع بفوائض تريليونية هائلة، بينما يرزح الاقتصاد الأمريكي تحت ضغط دين عام فلكي يقارب نحو 35 تريليون دولار، وتتراجع الميزة النسبية الأهم لأمريكا في مجالات التكنولوجيا الأحدث، مقابل سعي الصين الحثيث المتسارع المخطط لسد الفجوة التكنولوجية المتضائلة، وفي مجال السلاح، تنفق أمريكا سنويا نحو 900 مليار دولار، بينما الإنفاق الصيني السنوي في حدود 250 مليار دولار.

لكن الفوارق في نواتج الإنفاق هائلة، فالمعدات الصينية تصنع بنصف تكلفة نظيرتها الأمريكية، والقواعد الأمريكية في الخارج (800 قاعدة) تلتهم شطرا كبيرا من الإنفاق الأمريكي العسكري، بينما الإنفاق الصيني يذهب في غالبه لتطوير الصناعة العسكرية، ما يعني ببساطة، أن فجوة الإنفاق العسكري السنوي بين البلدين، لا تعني وجود فجوة مناظرة في درجة الاستعداد والتجهيز العسكري المتطور، أضف إلى ذلك، ما تملكه الصين بفوائضها المالية من قدرة على مضاعفة الإنفاق العسكري، مع ما تمتاز به الصين من سمعة دولية مسالمة، ومن امتناع محسوب عن المشاركة في التدخل، أو استعباد الآخرين، وحرصها على شفع نقل سلاحها بنقل التكنولوجيا، ما يسهم في مضاعفة جاذبية وإغراء السلاح الصيني، تماما كما كان الصعود الصيني الأسطوري في مجالات الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا المدنية.

وبالجملة، يبدو المثال الصيني وكأنه يصنع العالم الجديد حقا، وليس العالم الموزع بين أسياد وعبيد، فقد كانت الصين نفسها، وعلى مدى قرون، ضحية الاستعباد الغربي، لكنها نهضت من رماد القرون، وحققت في الخمسة عقود الأخيرة، أكثر مما حققه الغرب كله في خمسة قرون منذ سقوط «غرناطة» واكتشاف الأمريكتين سنة 1492، وها هي الصين تستعيد بهاء الشرق القديم، وتتقدم الصفوف كقائد مقتدر للشرق والجنوب العالميين.

وتصنع «عولمة الضد» المناهضة للعولمة الأمريكية المتداعية موضوعيا، وإن كانت الأخيرة لا تزال تحارب بشراسة وحشية في منطقتنا بالذات، وتجد في أغلب دولها صورا مثالية للعبيد المطيعين، ولا يبدو ذلك غريبا ولا مفاجئا، فقد كنا ولا نزال في غربة عن تطورات العالم خلال نصف القرن الأخير، ولم نكن طرفا شريكا في عوالم العلم والإنتاج والتصنيع والتكنولوجيا الأحدث عسكريا ومدنيا، وارتضى الحكام فينا أوضاع الهوان والمذلة، وضاعت منا بوصلة التاريخ الذي تركنا من ورائه، وحتى إشعار آخر قد لا يجيء قريبا، اللهم إلا إذا جرت معجزة إفاقة، تنتشلنا من فوات الوقت، وتنتصر لبركة دم الشهداء والمعذبين على جبهة الجرح الفلسطيني.

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل