رغم أن الرئيس الأمريكي صرّح أكثر من مرة بأن على الحرب في
غزة أن تنتهي واصفا إياها مرة بـ«المأساة» ومرة أخرى بـ«الكابوس» إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث.
هل أن
ترامب سيوقف فعلا شلاّل الدم وحرب التجويع المستمرة منذ عامين أو أنه يتظاهر بذلك؟ وما يفضحه أكثر عجز حكومة
نتنياهو الفاشية على الحسم العسكري وفرض الاستسلام على المقاومة.
ما يؤكد ذلك أيضا، أن ترامب خيّب ظن حتى أهالي الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين في غزة، وهم الذين تعلّقوا بأهدابه رجاء وطمعا في أن يكون هو المنقذ الحقيقي لأبنائهم لكن الرجل لم يعطهم سوى معسول الكلام، مفضلا الاصطفاف مع نتنياهو عمليا وائتلافه اليميني الفاشي… لكن المشكل أن نتنياهو يتعثّر في مبتغاه فيفضح حليفه الأمريكي أكثر وأكثر.
في الاجتماع الأخير للمجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر للشؤون الأمنية اقتبس نتنياهو أقوال ترامب حيث قال لوزرائه، وفق ما ذكرته القناة 12 الإسرائيلية «دعوكم من الصفقات الجزئية وادخلوا بكامل القوة وانهوا الأمر». لم تكن هذه الأقوال لترامب الوحيدة بهذا المعنى فقد سبق أن نقل عنه القول إنه لا يملي على إسرائيل ما يجب أن تفعله، وإن على نتنياهو أن «ينهي المهمة» ويقضي تماما على حركة «حماس» تمهيدا لما يصوّره له خياله الجامح عن قطاع غزة بلا فلسطينيين يقام فيه مشروع سياحي ضخم.
الرجل لم يكتف بذلك، بل شرع في بحث مستقبل القطاع مع كل من توني بلير، غراب الشؤم وعرّاب الصفقات الدنيئة، وجيراد كوشنير الذي لم يظهر سوى الآن بعد أن سال لعابه بما يظنه أرباحا ضخمة في الطريق، ورون ديرمر العضد الأيمن لنتنياهو، في غياب كامل لأي تمثيل فلسطيني وعربي بما يخفيه ذلك من نظرة استعلاء واحتقار لكليهما على أساس أن ما يقرّره هؤلاء هو ما سيرى النور غصبا عن الكل.
الولايات المتحدة مع ترامب لم تعد مؤيدة لإسرائيل، كما عهدناها في كل العهود ديمقراطييها وجمهورييها، بل هي اليوم شريك كامل في الجريمة المتواصلة في غزة، وهو ما يفسّر السخط والتوتّر الأمريكيين في التعامل مع قرارات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، وما يقوم به ويصرّح المقررون الأمميون الخاصون، لاسيما فرانشيسكا ألبانيز مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالأراضي الفلسطينية المحتلة، لأن واشنطن تدرك تماما أنه عندما تحين ساعة الحساب لجرائم لن تسقط بالتقادم ستكون هي بدورها في قفص الاتهام نفسه لما وفّرته من غطاء سياسي ودعم عسكري، بل ومساهمة على الأرض في قتل المدنيين وتجويعهم وتشريدهم. وتبقى النقطة المضيئة هو الرأي العام الأمريكي وطليعته الشبابية الذي لم يعد يقبل بهذه التبعية المعيبة للجرائم الإسرائيلية.
ومثلما ما تلوك الألسن الغربية اتهام «معاداة السامية» عند كل انتقاد للممارسات الإسرائيلية الاجرامية، فإن ما يجب استعماله اليوم عند النظر للمواقف والسياسات الأمريكية هو تعبير «معاداة الفلسطينيين»، كما قال خبير الشؤون الإسرائيلية الأكاديمي الفلسطيني مهنّد مصطفى. أكثر من ذلك، هناك سياسات أمريكية واضحة لنزع الإنسانية عن الفلسطينيين فلا تقيم وزنا بالمرة لعذاباتهم المختلفة مقابل التركيز السمج والممل عن المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة وما جرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وكأن التاريخ بدأ من هناك وانتهى هناك.
الرئيس محمود عباس وفريقه وأجهزته عاجزة عن استخلاص الدروس والعبر من كل ما جرى منذ اتفاق أوسلو إلى اليوم
وتكريسا لهذا التوجه وإمعانا فيه، جاءت القرارات الأمريكية الأخيرة الخاصة بمنع الرئيس الفلسطيني وفريقه من دخول الأراضي الأمريكية لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة والاجتماع الدولي الخاص بالدولة الفلسطينية، والذي سيشهد اعترافات جديدة بها، بل وتعليق دخول كل حاملي جوازات السفر الفلسطينية. إنه نفس معادٍ واحتقاري لا سابق له ولا فرق هنا بين «حركة إرهابية» مثل «حماس» وأي تيار فلسطيني آخر ما زال يؤمن بـ«الحلول السلمية» وبأن واشنطن قادرة على أن تلعب دور «الوسيط» الضامن لأي تسوية تاريخية معه أنها تبدو الآن مستحيلة بالكامل، بل هي خداع للنفس.
المؤلم في هذا المشهد القاتم، الذي يعيد القضية برمتها إلى خطاب الخمسينيات والستينيات الذي لا يرى أية إمكانية للتعايش مع
الاحتلال الإسرائيلي أو التصالح معه أو الاعتراف به، أن القيادة الفلسطينية متمثلة في الرئيس محمود عباس وفريقه وأجهزته عاجزة عن استخلاص الدروس والعبر من كل ما جرى منذ اتفاق أوسلو إلى اليوم، وما زالت على نفس الخطاب الذي لم لا جديد فيه أبدا.
آخر مقابلة تلفزيونية للرئيس عبّاس لقناة «العربية» تؤكد ذلك بشكل لا لبس فيه. لم يفهم «أبو مازن» بعد، أو الأرجح أنه فاهم تماما، أن واشنطن لا يمكن أن تعطيه شيئا مهما بدا هزيلا، ومذلاّ كذلك، وأن ما من حركة تحرر وطني انتزعت حريتها واستقلالها منّة من أحد، وأن الدور المطلوب أمريكيا من السلطة لا يتعدّى تخفيف العبء المدني عن الاحتلال الذي يستمر في قضم الأرض ويستعد لضم أجزاء كبرى من الضفة الغربية. هذا واضح تماما، لكن المصيبة أن قيادة منظمة «تحرير» تبدو وكأنه لا قِبـَــل لها بأعباء وتضحيات التحرير، والأنكى أنها تدين وتشهّر بمن اختار طريقه بعيدا عنها!!
القدس العربي