كما قلنا هنا قبل أسبوعين، فلا نهاية منظورة للنيران من
غزة إلى إيران، وهذا الذي يجري في سوريا وجنوبها والسويداء اليوم، قد ينتقل قريبا إلى لبنان، ويدخل كيان
الاحتلال طرفا مباشرا بالنار في احترابات الدم الداخلية، وربما تتجدد الحرب على إيران، مع اقتراب موعد إطلاق آلية الزناد في أكتوبر المقبل، ولا يبدو أن حرب إبادة غزة قابلة لتوقف نهائي قريبا، رغم التذبذب الحاصل في مؤشرات بورصة مفاوضات الوساطة الجارية بالدوحة والقاهرة، فالأمر مرتبط ابتداء وانتهاء بتوجه واشنطن والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الضائع في متاهته الدولية، وقد تذهب به هلاوسه مع نصائح بنيامين نتنياهو قائده الميداني، إلى اعتقاد بائس، قد يرى معه أن الطريق لنيله جائزة نوبل للسلام مفروش بالدماء، وبدماء العرب والفلسطينيين بالذات .
وعلى جبهة الدم الفلسطيني، تبدو مواقف ترامب ذيلية تماما لكيان الاحتلال، ومفضوحة أكثر من مواقف نتنياهو نفسه، الذي يغلف كلامه أحيانا بمسحة خداع، وكلنا يذكر ما جرى على مائدة عشاء نتنياهو في المكتب البيضاوي، فكلما سألوا ترامب عن موقفه من شيء أحاله إلى نتنياهو، وقتها سأل بعض الصحافيين ترامب عن موقفه من خطته الشهيرة لتهجير الفلسطينيين، وإقامة الريفييرا إياها في غزة، ولم يجد ترامب عندها ما يقوله، وأشار إلى نتنياهو طالبا منه المساعدة، ورد نتنياهو متقمصا شخصية ترامب نفسه.
وقال، إن الرئيس الأمريكي يريد ترك حرية الاختيار للفلسطينيين في التهجير الطوعي، وعندما سألوا ترامب عن رأيه في حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية، لم يحر جوابا إلا بتكرار الإشارة باليد إلى نتنياهو، وكان رد نتنياهو صريحا في رفض إقامة أي كيان فلسطيني مستقل، وتصميمه على جعل قضايا الأمن كلها في يد إسرائيل من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، وإن كان لا يمانع ـ كما قال ـ في حكم جيوب الفلسطينيين لأنفسهم إداريا، وعلى نحو ما بدا في دعم الاحتلال لعملاء مثل، ياسر أبو شباب في غزة أو تامر الجعبري في الخليل، وألا تكون هناك من سلطة فلسطينية في رام الله، أو في غزة.
وحتى في تفاصيل النقاش اليومي حول هدنة الستين يوما في غزة، لا يمل ترامب من إشاعة أجواء تفاؤل مصنوع، ويذهب بالتوقعات من زحف أسبوع لأسبوع، وهو ما صار موضعا لسخرية الإعلام الإسرائيلي نفسه، وحين وضع نتنياهو العصى في العجلات، وعرض ما يسميه خرائط إعادة انتشار لقوات الاحتلال في غزة، تبقى 40% من إجمالي مساحة القطاع تحت سيطرة جيش الاحتلال، ثم لجأ إلى لعبة القص واللصق، وتقديم خرائط مراوغة جديدة، اعترض عليها المفاوض الفلسطيني، كما الوسيط المصري، وكان تعليق ترامب العلني ظاهرا في مغزاه، إذ اعتبر أن الحديث عن انسحاب إسرائيلي ـ أو إعادة انتشارـ مضيعة للوقت والجهد، فما يهمه هو ما يهم نتنياهو بالضبط، أي أن يجري تبادل متفق عليه للأسرى والرهائن.
واستهلاك وقت الهدنة في فرض شروط على حماس وأخواتها، تنزع سلاحها وتنفي قادتها، وتسحب مئات آلاف الفلسطينيين من الشمال إلى ما يسمونه المدينة الإنسانية في رفح، ودفعهم في ما بعد ـ مع تجدد الحرب بعد الهدنة القصيرة ـ إلى مصير التهجير الاختياري بألفاظ نتنياهو، والمدينة الإنسانية المزعومة تشبه ما سموه منظمة غزة الإنسانية الأمريكية الإسرائيلية، كلاهما عمل إجرامي بامتياز، ومثلما تحولت نقاط مساعدات المنظمة الإجرامية إلى مصائد موت لآلاف الفلسطينيين إلى اليوم، فإن المدينة الإنسانية إياها ليست سوى معسكر اعتقال نازي، كما اعترف بذلك حتى إيهود أولمرت رئيس وزراء العدو الأسبق، لا يقصد منه إلا أن يكون محطة احتجاز للفلسطينيين، والتهيئة لنقلهم نهائيا إلى سيناء المصرية .
ومع ما يبدو عليه الموقف العربي من هزال وتحلل رمى، فلا أحد ينتصر حقا لغزة سوى شعبها ومقاومتها، ولا حس ولا خبر في القصور أو في الشوارع، ولا يوجد مسؤول عربي، ولا حتى فلسطيني فعل ما يشبه أو يقارب ما فعلته وتعاقب عليه الإيطالية فرانشيسكا ألبانيزى المقررة الخاصة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، التي تصرخ كل يوم منددة بحرب الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة والضفة.
وتطالب كل دول العالم بمقاطعة إسرائيل العنصرية، وبادرت إدارة ترامب إلى معاقبتها، مؤازرة للكيان وجيشه الإجرامي، الذي يصفه نتنياهو بأكثر الجيوش أخلاقية في العالم، بينما هو أكثر الجيوش انحطاطا ووحشية في التاريخ، وهو يواصل حرب إبادة البشر والحجر والبشر المدنيين المسالمين، وبالذات الرضع والأطفال والنساء، وبطاقة نيران ومحارق جهنمية، يستشهد فيها ما يزيد على مئة فلسطيني يوميا، وتدير واشنطن المحرقة الرهيبة من بعيد ومن قريب، وتدعم حرب الإبادة بقنابلها الثقيلة الخارقة للتحصينات، وحتى بقاذفات بي 2 النووية، كما قرر الكونغرس الأمريكي مؤخرا.
ومع كل ذلك الهول الإبادي، لا يجد نتنياهو ولا ترامب حرجا في الحديث عن السلام وعن جائزة نوبل، ويتقبل ترامب ممتنا ترشيح حكومة نتنياهو للرئيس الأمريكي لنيل الجائزة، وكأننا في كوميديا سوداء من مسرح العبث، يرشح فيها مجرم حرب نظيره لنيل جائزة سلام، مع تواطؤ وعجز غير مسبوق في المجتمع الدولي، وقبله وبعده في المجتمع العربي، فلم تعد من قيمة لأي قانون دولي، وإن حدث العكس أحيانا، كما جرى مع إصدار المحكمة الجنائية الدولية لأمر اعتقال بحق نتنياهو، تغض دول أوروبية الطرف عنه، وتسمح بمرور طائرة نتنياهو في أجوائها، رغم كونها من الأعضاء المؤسسين لاتفاقية روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، ثم تضرب بقراراتها الملزمة عرض الحائط، ولا تعتقل المجرم المطلوب، ولا تمنعه من المرور بأجوائها ومع كامل العرفان والإعجاب بالمظاهرات المناهضة لحرب الإبادة في أغلب عواصم أوروبا.
وإن لم تنجح في زحزحة مواقف الحكومات إلا قليلا، وباستثناءات باهرة في أيرلندا وإسبانيا وبلجيكا والنرويج وسلوفينيا وغيرها، تضاف إلى صحوة حكومات في عالم الجنوب، من كولومبيا ونيكاراغوا وفنزويلا إلى جنوب افريقيا وغيرها، إلا أن يقظة الكثير من الضمائر، لم توقف النار المصبوبة فوق رؤوس الفلسطينيين حتى الآن، ولا أفادت في وقف مآسي تقطيع أجساد الفلسطينيين إلى أشلاء، لا يجد الفلسطينيون حتى فرصة تنفس لتكفينها ودفنها، لكن غزة الوحيدة الفريدة المعانية.
وكما لم يحدث لشعب آخر بإطلاق التاريخ الإنساني، غزة التي يكتوى أهلها بنار المحرقة، ويقاسون قتلا وتشريدا وتعطيشا وتجويعا، لو وزع على كل أهل الأرض لأرهقهم ألما، غزة التي هي تحت الإبادة تواصل كتابة أسطورتها الخاصة جدا، عذاب أسطوري مصحوب بصمود أسطوري إجباري، ورفض كامل لترحيلهم من الوطن المقدس، ورفد لجماعات
المقاومة المسلحة بمدد يومي من المقاتلين الاستشهاديين، آلاف الشباب ينضمون لجماعات المقاومة المحاصرة، وإذا كان لا بد من موت فلتكن الشهادة الأكرم عند الله والناس، وهو ما يفسر هذه الحيوية الفياضة المتجددة لأعمال المقاومة، رغم دمار كل شيء، ورغم هدم البيوت والشوارع وحرق الخيام كلها تقريبا.
ورغم دخولنا إلى الشهر الثاني والعشرين من عمر حرب الإبادة الأمريكية الإسرائيلية، فلا تزال جماعات المقاومة الفلسطينية بكامل عافيتها وعنفوان عملها الفدائي، وتخوض حرب استنزاف ضد جيش الاحتلال، وتدير كمائن عبقرية تنهك جيش الاحتلال وكيانه، الذي ظن أن استشهاد القادة يطفئ نار المقاومة ويمزق خلاياها، ويقرب ساعة القضاء على حماس وأخواتها، خصوصا مع حصار مطلق، لا تذهب معه إلى المقاومة طلقة رصاص ولا شربة ماء.
لكن المقاومة كانت كشعبها في رفض الاستسلام، وولدت بعد ذهاب القادة قوافل من القادة الجدد، يخوضون عملياتهم كجيش هائل التنظيم، ويصنعون سلاحهم وبنادقهم وعبواتهم الناسفة بأيديهم، ويحولون قذائف العدو وصواريخه التي لم تنفجر إلى سلاح للمقاومة بالهندسة العكسية، وهكذا صرنا في الشهرين الأخيرين إلى قاعدة كمين كل يوم، وفي كل مكان من خان يونس إلى الشجاعية والتفاح وجباليا وبيت حانون، وبذكاء عقول تحفظ الإيمان بالله وبفلسطين في القلب، وبجرأة تقفز بوقائع القتال إلى تعرض مباشر من المسافة صفر ومن دونها، وبتزايد متصل من قتلى ضباط وجنود العدو، صعد بأرقام خسائر العدو إلى عشرة آلاف قتيل وجريح حتى اليوم، حسبما تعلنه إسرائيل ذاتها، وما خفي كان أعظم وأفدح كثيرا .
وبالجملة، فإن جيش الاحتلال يقتل المدنيين عشوائيا وبخسة همجية، بينما المقاومة تقاتل بشرف على نحو أسطوري مذهل، وأذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير صدق الله العظيم.
القدس العربي