في الوقت الذي تتواصل فيه المفاوضات غير المباشرة بين “حماس” والكيان الصهيوني في الدوحة لإبرام اتفاق جديد لوقف إطلاق النار مدته 60 يوما، تصعّد
المقاومة الفلسطينية عملياتها البطولية ضدّ جنود
الاحتلال في شتى مناطق
غزة، وتوقع بهم المزيد من الخسائر الموجعة.
آخرها عملية بيت حانون التي أدّت إلى مقتل 5 جنود صهاينة وجرح 14 آخر، وإن كنّا متأكّدين أنّ العدد أكبر بكثير مما أعلن عنه الاحتلال، بدليل أنّ عمليات إجلائهم استغرقت 5 ساعات كاملة، كما جهّز الاحتلال أماكن لهبوط مروحيات الإجلاء في 5 مستشفيات، مع أنّ مستشفى واحدا يمكنه استيعاب العدد المعلن عنه من الجرحى، ما يعني بوضوح أن الاحتلال يتكتّم عن خسائره الحقيقية حرصا على تخفيف الصدمة عن “شعبه”.
اللافت للانتباه أنّ هذه العملية التي وصفتها أوساط صهيونية بـ”الاستثنائية” جاءت في منطقة بيت حانون بشمال القطاع، والتي اجتاحها الاحتلال مرارا وتكرارا، وكان في كل مرة يعلن أنّه قد تمكّن من “تطهيرها”، لتعود المقاومة مجدّدا وتوجّه لجنوده ضربات جديدة تؤكّد بها مدى رسوخها في أرضها واستعصائها على الهزيمة.
طريقة تنفيذ عملية بيت حانون تعدّ أبلغ ردّ على كلّ من قال إن الاحتلال يقترب من القضاء النهائي على المقاومة وأنّها باتت تعدّ أيامها الأخيرة؛ فهاهي تثبت أنّها قد تكيّفت مع تطوّرات الحرب، وانتقلت إلى حرب استنزاف حقيقية، ولا تزال فاعلة وقادرة على توجيه ضربات موجعة تلو الأخرى للعدو..
منذ أيام، تمكّن مقاوم واحد في خان يونس من الوصول إلى ناقلة جند كان بها سبعة جنود، وألقى عليهم عبوّة من الفوهة العلوية للناقلة، فتفحّموا جميعا، واستغرق الأمر ساعات لإخماد الحريق، وبعد أيام أخرى، تمكّن مقاوم آخر من الوصول إلى دبابة وإلصاق عبوّة “شواظ” بها وتفجيرها، وانسحب آمنا مع أنّه كان في مكان مكشوف للعدو.. وهذا يعني ببساطة أنّ 21 شهرا كاملا من القتال وحرب الإبادة لم تضعف معنويات المقاومين الأشاوس قيد أنملة، بل زادتهم إيمانا وثباتا وعزما على الثأر لعشرات الآلاف من الشهداء، من النساء والأطفال والمدنيين الذين قتلهم العدو بدم بارد في مجازر يومية مروّعة.
ومقابل هذه الشجاعة النّادرة للمقاومين وبسالتهم في القتال وروحهم المعنوية العالية، ما زالت صحف العدو تكشف يوميّا مدى التذمر الواسع لجنود الاحتلال من طول أمد الحرب وخسائرها المتواصلة ورغبتهم في إنهائها بأي شكل.. منذ أيام قليلة، نشرت “هآرتس” شهادات مدوّية لخمسة جنود احتياط قبلوا الكشف عن أسمائهم وصورهم، وقد وصفوا الأوضاع في غزة بـ”المرهقة” و”المريرة” وأكّدوا للصحيفة، أنهم يعانون من إنهاك متزايد، وإجهاد بدني ونفسي شديدين، ومن الخوف المستمر من أن يأتي الدور عليهم ويقتلون في غزة. واعترف أحدهم أن شعر رأسه بدأ يتساقط من فرط التوتّر، لاسيما بعد أن أبيدت إحدى فرقهم العسكرية بالكامل في معركة مع المقاومة وبقي هو على قيد الحياة بأعجوبة، وخلص إلى القول حرفيّا: “نحن ننهار، قد يبدو من الغريب أن نعترف بذلك، لكنّ الأمر يبدو معجزة أنّ “حماس” لم تستغل الأمر أكثر من ذلك”!
هذا الحقائق الميدانية الصارخة التي تتميّز بعودة المقاومة وضراوتها في الأسابيع الأخيرة، دفعت ناحوم برنياع، المحلّل في صحيفة “يديعوت أحرونوت” إلى التأكيد أن “مركبات جدعون تنتهي بفشل مدوّ، الجيش الإسرائيلي لا يقرّ بذلك علنا، لكنّ الإحباط كبير”.
و”عربات جدعون” هو الاسم الذي أطلقه رئيس الأركان الجديد زامير على “عمليته” التي أطلقها في غزة منذ استئناف الحرب في 18 مارس، وكان يريد بها تحقيق ما عجز عنه سلفه هاليفي، أي استئصال “حماس” وإطلاق سراح الأسرى بالقوّة، لكنّه بعد قرابة أربعة أشهر من المواجهات الضارية مع المقاومة، واجه نتنياهو واعترف له أنه “لا يستطيع السيطرة على 2 مليون فلسطيني في غزة”، وطلب منه إنهاء الحرب وعقد صفقة تبادل للأسرى. أليس هذا اعترافا مدوّيا بخسارة الحرب وبأنّ “حجارة داوود” التي أطلقتها المقاومة قد دمّرت “عرباته”؟
لذلك، حينما تقبل “حماس” بهدنة الستين يوما حتى لو لم تؤدّ إلى نهاية الحرب، فهي لا تفعل ذلك من منطلق ضعف وهزيمة، بل حرصا على إنهاء معاناة فلسطينيي القطاع الذين يتعرّضون منذ 21 شهرا كاملا لحرب إبادة شاملة، ومجازر يومية وحشية، وتشريدا متواصلا، وتجويعا جهنّميا، وتدميرا واسعا لبيوتهم ومنشآتهم… فهي تقبل الهدنة لإغاثتهم وتمكينهم من التقاط أنفاسهم، وأملا في نهاية الحرب، ولكنّ إذا عاد العدو بعدها، عادت.
الشروق الجزائرية