جمع فلسطين ولبنان في العنوان ليس عشوائيا، ولا تفسره فقط علاقات الجوار الجغرافي اللصيق على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، فسوريا أيضا في الوضع ذاته، لكن ما يجرى فيها اليوم، قد يجعلها في تناقض موقوت مع المعنى الكفاحي الجامع للجوار الفلسطيني
اللبناني، الذي دفعت إليه تطورات سلبية هائلة جرت في المنطقة العربية على مدى نحو نصف القرن الأخير، وبالذات في أقطار الطوق العربي المحيطة بكيان
الاحتلال “الإسرائيلي”، وبروز أدوار حركات
المقاومة اللبنانية وعلى رأسها “حزب الله”، خصوصا بعد اجتياح جيش العدو لأراضي لبنان واحتلال العاصمة بيروت، وطرد المقاومة الفلسطينية، وكان البديل لبنانيا بهوى فلسطيني عقائدي جامع، لعب فيه الدور الأكبر وزن القيادي الشهيد الرمز التاريخي السيد حسن نصرالله، الذي أعاد اكتشاف رابطة “العروة الوثقى” بين لبنان وفلسطين، فقد كان لبنان ـ وجنوبه بالذات ـ محلا لاعتداءات “إسرائيلية” شرسة منتظمة حتى قبل إعلان كيان العدو في 15 مايو 1948.
لا نتحدث هنا فقط عن خطط وتصورات واردة في أصل المشروع الصهيوني “التوراتي” الزائف، بل عن وقائع أرض لم يتوقف العدوان عليها، وحتى بلغ ذروته في اجتياح 1978 واجتياح 1982، وقبلهما في نشوء مقاومات لبنانية من موارد وانتسابات أيديولوجية وسياسية متنوعة، وكان دور الإمام موسى الصدر سابقا وممهدا لظهور “حزب الله”، ثم القيادة الفريدة للسيد نصر الله، التي اتصلت 32 سنة، قد تكون شابتها أخطاء من نوع التورط في حروب سوريا الطائفية، لكنها طورت أساليب المقاومة العربية من نوع مختلف، وجعلت لبنان الأضعف جيشا هو الطرف المشرقي الأقوى المهدد وجوديا للكيان.
ثم انتقل إغراء النموذج اللبناني إلى قلب فلسطين بالذات في القدس والضفة الغربية وغزة، وحين بدأت ملحمة “طوفان الأقصى”، انطلاقا من
غزة، كان السند المسلح الأقوى يأتي من “حزب الله” بالتزام مبدئي وأخلاقي صارم، ثم كان ما يعرفه الكافة من تداعيات، ومن وحدة حال متصلة إلى اليوم في عين النار، فلم يتوقف العدوان أبدا على جبهة فلسطين كما على جبهة لبنان، وظل الهدف المشترك لقوى العدوان الأمريكي “الإسرائيلي” على الجبهتين معا هو، نزع سلاح المقاومة، فكما يريدون نزع سلاح “حماس” وأخواتها في فلسطين، فهم يريدون في الآن ذاته نزع سلاح “حزب الله” في لبنان.
ولم يكن عبثا ولا مصادفة، أن تسيل دماء شهداء فلسطين ولبنان معا على أرض واحدة، ليس فقط حين كانت حرب الإبادة الشاملة جارية، بل إلى اليوم، وعلى طريقة ما جرى أخيرا في مخيم “عين الحلوة” الفلسطيني بجوار صيدا حاضرة الجنوب اللبناني، وفي اليوم ذاته الذي تواصل فيه ارتقاء المئات من شهداء “حزب الله” وفلسطين، وفي عدوان متصاعد، لم يتوقف ساعة منذ إعلان وقف النار قبل عام كامل في لبنان، وبالطريقة التي تحدث في غزة، رغم إعلان وقف النار وحرب الإبادة قبل أسابيع.
الهدف من حرب الإبادة الأمريكية الصهيونية لم يتحقق
والسبب الجوهري هو نفسه في الميدانين، ومنطوقه أن الهدف من حرب الإبادة الأمريكية الصهيونية لم يتحقق، فلم ينجح العدو في إنجاز هدف القضاء على المقاومة العربية من نوع مختلف، التي بدأت كمقاومة استشهادية كان “حزب الله” فيها هو العنوان الأول، ثم اكتسبت المقاومة في لبنان وفلسطين مقدرات تكنولوجيا إيرانية، وخبرات أنفاق محصنة وتصنيعا ذاتيا للسلاح، ومن دون أن تقتلها اغتيالات القادة الكبار، فأفواج المقاتلين من أجيال جديدة، تلتحق بإلهام حلم التحرير المعتق بدماء القادة، ومن هنا نفهم أسباب ذعر قادة الكيان، وحرصهم على استمرار العدوان، وغارات القصف بالمسيرات والمدافع والمقاتلات الحربية، وربما الرغبة في مواصلة العدوان والقتل بلا آخر، وصولا إلى العودة المحتملة لاحقا لشن حرب الإبادة والاجتياح الشامل، وإن كان ليس لهم فيها كبير أمل، فهم لا يزالون يأملون في الكسب بادعاءات السلام، ويسعون إلى تحقيق هدف القضاء على حركات المقاومة بالسياسة، بعد فشل طريق الحرب والإفناء .
في فلسطين، يرفعون راية ما تسمى “خطة دونالد ترامب”، التي استصدروا بها قرارا من مجلس الأمن الدولي، وبالعوار ذاته الذي تحدثنا عنه هنا في مقال “خطة ترامب: نزع فلسطينية فلسطين” المنشور في 4 أكتوبر 2025، وكشفنا عن هدف فرض الوصاية والانتداب الدولي عبر “مجلس السلام” برئاسة ترامب، وفرض وجود ما تسمى “قوة الاستقرار الدولية”، وتكليفها بمهمة نزع سلاح “حماس” وأخواتها، وهو الهدف غير القابل للتحقق عمليا، ويدفع أطرافا عربية للإحجام عن المشاركة في القوة إياها، ربما خشية التورط في صدام دموي مع جماعات المقاومة الفلسطينية على الأرض لخدمة “إسرائيل”، التي تسعى هي الأخرى لدعم وتسليح جماعات من العملاء في غزة، وخان يونس، ورفح، ودفعها لصدامات دموية فلسطينية فلسطينية، مع امتناع “إسرائيل” عن الخروج من غزة كلها.
كما تقضي نصوص الخطة على نحو متميع، وهو ذاته ما يجري في الجنوب اللبناني، الذي تحتفظ فيه “إسرائيل” باحتلالها البري لسبع نقاط استراتيجية، وتعمل بمعية الأمريكيين على إشعال حرب داخلية أهلية، ومن وراء عنوان “نزع سلاح حزب الله”، والسعي لتوريط الجيش اللبناني، في صدام مباشر مع “حزب الله”، فيما يخشى الجيش على تكوينه متعدد الطوائف، ولا يريد الرئيس اللبناني جوزيف عون، وقد كان قائدا للجيش، أن يصم اسمه وعهده بالتسبب في حرب أهلية جديدة قد تهدد بإفناء لبنان من داخله، فيما يسعى كيان الاحتلال وتسعى واشنطن إلى معاقبة الرئيس عون وقائد الجيش، وإلى حد الإلغاء المهين لمواعيد زيارة كانت مزمعة لقائد اجيش “رودلف هيكل إلى واشنطن، فهم ـ أي الأمريكيون والإسرائيليون ـ لا يريدون تقوية الجيش ولا الإبقاء على سلاح المقاومة، ويريدون تجريد لبنان من أي عنصر قوة، أو مقدرة على المقاومة، وكما جماعات العملاء في غزة.
ففي لبنان جماعات الهوى والولاء “الإسرائيلي” الأمريكي، وكلهم ضد “حزب الله” وضد تقوية الجيش، حتى لو كان الثمن تحطيم الكيان اللبناني نفسه . وكما توجد في الداخل الفلسطيني “الغزاوي”، وتتكاثر جماعات عملاء مسلحة بعناوين “ياسر أبو شباب” في رفح و”حسام الأسطل” في خان يونس و”أشرف المنسي” في شرق مدينة غزة، وقد تبرأت منهم عائلات و”حمائل” غزة في أغلبها، بينما تجاهر “إسرائيل” بدعمهم، واستضافتهم كأبطال في وسائل إعلامها، وهم يرفعون شعارات تحرير غزة من “حماس” لا من “إسرائيل”، وهم يقيمون وينشطون بسلاحهم “الإسرائيلي” في مناطق خلف ما يسمى “الخط الأصفر”.
وعلى نحو يذكر بأدوار جماعة “جيش لبنان الحر” من سعد حداد إلى أنطوان لحد، زمن احتلال “إسرائيل” لكامل الجنوب اللبناني قبل يوم التحرير 25 مايو عام 2000، وقد فنت أو توارت هذه الجماعات من العملاء، وإن حلت محلها اليوم أغلب جماعات وأحزاب “اليمين المسيحي”، وبعض أطراف السنة المتحمسين لسلطة أحمد الشرع في سوريا، ولحكام عرب على خصومة متصلة مع “حزب الله”، وكلهم يحاربون من أجل نزع سلاح المقاومة، وربما التشجيع الضمني لجولات العدوان “الإسرائيلي”، وحث العدو ضمنا وصراحة على استئناف الحرب الشاملة بريا لنزع سلاح المقاومة، ويضيقون ذرعا بما يسمونه “تردد” الرئيس والجيش اللبناني في أداء مهمة نزع السلاح، بل صارت الأدوات اللبنانية اسما تهاجم الرئيس والجيش اللبناني وأنصارهما علنا، ولمجرد أنهم يذكرون صفة “العدو الإسرائيلي” في تصريحاتهم، ويطالبون بجلاء “العدو” عن جنوب لبنان والتوقف عن العدوان واستعادة الأسرى اللبنانيين.
وكما تقوم واشنطن بدور المشرف العام على خطة نزع “فلسطينية” غزة، ونزع سلاح فصائل المقاومة فيها، فإنها تقوم بالدور نفسه في لبنان، ومن خلال مبعوث واشنطن الرسمي إلى سوريا ولبنان المقاول من أصل لبناني توم براك، وقد ورد اسمه أخيرا في قوائم جيفري إبستين، لمرتكبي الجرائم الجنسية بحق قاصرات أمريكيات، ثم يحدثك “بتاع العيال” عن فشل الحكومة اللبنانية، لأنها لا تنزع سلاح “حزب الله”، ويصف الصحافيين اللبنانيين المعترضين بالحيوانات، فوق أنه يريد علنا الزج بقوات الحكم السوري الحالي في حرب مساندة لجيش الكيان ضد “حزب الله”، وهو الذي سبق وقالها بصراحة فاضحة، “إننا لا نريد تسليح الجيش اللبناني ليحارب إسرائيل، بل لكي يحارب شعبه وحزب الله”، ولم يعد أحد يشك في حقيقة ما يجري بعد سقوط الأقنعة، ولولا حرص الجيش و”حزب الله” على لجم الاندفاع إلى حرب أهلية، لكان لبنان غرق مجددا في دم بنيه، وعلى نحو ما جرى من أواسط سبعينيات القرن العشرين إلى مطالع تسعينياته، فاللهم احفظ لبنان وأهله.
القدس العربي