مقالات مختارة

خطة الثلث

إسماعيل الشريف
الأناضول
الأناضول
يعطيك من طرف اللسان حلاوة، ويروغ منك كما يروغ الثعلب – صالح عبد القدوس.
كانت خطة الرئيس الأمريكي السابق بايدن، ووزير خارجيته الباهت بلينكن، لإنهاء المجزرة في غزة تقوم على وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، وتمكين السلطة الفلسطينية من حكم القطاع. وفي المقابل، يكافأ الكيان باتفاق تطبيع يُبرم لاحقًا مع المملكة العربية السعودية الشقيقة. أمر بايدن نتن ياهو بتوقيع الاتفاق، فامتثل ووقّع.

ثم جاء ترامب، محمولًا على أصوات العرب والمسلمين بعدما ادّعى أن زمن الحروب قد ولّى. لكنه، في فبراير، وخلال أول اجتماع له مع مجرم الحرب نتن ياهو، فاجأ العالم بطرح خطة لترحيل الفلسطينيين من غزة، وتحويلها إلى «ريفيرا الشرق الأوسط» تحت إدارة أمريكية، ومنح ضوءًا أخضر لنتن ياهو لتمزيق الاتفاق والعودة إلى الإبادة الجماعية. غير أن خطته سقطت في مهدها، بفضل موقف صلب لجلالة الملك. ومع ذلك، لم ييأس ترامب، وتحول شعار الحرب المعلن لدى الصهاينة: «تنفيذ رؤية الرئيس الأمريكي».

وفي أيار الماضي، أطلق مجلس الحرب الصهيوني خطته المسماة «عربات جدعون»، التي تهدف إلى اجتياح قطاع غزة وتهجير أهله قسرًا. وقبيل توجه نتن ياهو للقاء ترامب الأسبوع الماضي، صرّح من على سلم الطائرة بأنه أصدر أمرًا لرئيس أركانه، إيال زامير، بإعداد خطة لاحتلال القطاع وترحيل سكانه. وبرأيي، كانت هذه الرسالة موجهة إلى ترامب، وكأن لسان حاله يقول: «أنا أنفّذ خطّتكم، يا فخامة الرئيس»، لا سيما أن الاجتماع بين الرجلين لم يسفر عن أي إعلان لموافقة نتن ياهو على وقف الحرب.

نشرت صحيفة «هآرتس» تقريرًا كشفت فيه أن قوات الاحتلال بدأت ببناء مدينة تهدف إلى فصل المدنيين الغزيين عن المقاتلين، عبر دفعهم بالقوة إلى تلك المدينة، واعتبار كل من يبقى خارجها هدفًا عسكريًا مشروعًا. وتُعد هذه الخطوة جزءًا من خطة «عربات جدعون»، والتي تتضمن إنشاء ما سمّيت بـ»المدينة الإنسانية»، وهي مجموعة خيام تُقام في أقصى جنوب رفح، يُجمع فيها سكان غزة بعد تصنيفهم باستخدام تقنيات التعرف على الوجوه، مع قتل كل من يُعرّف على أنه مقاتل، ثم التحضير لتهجير سكان معسكر الاعتقال هذا كما يزعمون زورًا أنها «طوعية».

ومنذ ذلك الحين، بدأ جيش الاحتلال في تدمير المنازل وتسويتها بالأرض. وتشير صور الأقمار الصناعية إلى أن نحو 12,800 منزل قد تم تسويته بالكامل، في حين تُركت بعض المنشآت الخدمية، كالمراكز الصحية والمدارس، قائمة. وتواصل الفرق الهندسية إزالة الأنقاض، وبناء أسوار تحيط بالمنطقة، وإنشاء ممرات ضيقة بين الركام تؤدي إليها. كما نُصبت بوابات حديدية مزوّدة بتقنيات التعرف على الوجوه، وألحقت بها رشاشات آلية متمركزة.

ستُنصب خمسمئة ألف خيمة، وهو عدد يقارب سكان غزة، وستُنفّذ الخطة على مراحل، تبدأ بإيواء ستمئة ألف فلسطيني من منطقة المواصي، يليهم سكان شمال القطاع. وسيُمنع السكان من مغادرة المعسكر إلا عبر الهجرة إلى دول أخرى، بينما تُقدّم لهم حصص أسبوعية من الطعام ومواد التنظيف وبعض الأدوية. وستُتاح للمنظمات الدولية فرصة المشاركة في الإغاثة، على أن تتولى إدارة مدنية الإشراف على المعسكر، فيما تُكلّف قوات الاحتلال بمهام الأمن.

تُنفّذ هذه الخطة رغم المعارضة الدولية والداخلية، ورغم كلفتها الباهظة التي تُقدَّر بنحو ملياري دولار، ورفض الجيش لها. ومع ذلك، يمضي نتن ياهو قدمًا في تنفيذها، في ظل صمت أمريكي مطبق يُفهم منه أنه ضوء أخضر للمضي بها. ولهذا، يرفض نتن ياهو اليوم بشدة أي وقف دائم لإطلاق النار، ويصر على وقف مؤقت فقط، يستغله لتنفيذ مشروعه الذي يحتاج إلى ما بين ثلاثة إلى خمسة أشهر، ثم يعود بعدها إلى المجزرة. وفي الأثناء، يُمارَس الضغط على سكان «معسكر الاعتقال» لدفعهم إلى الهجرة.

في زمن روسيا القيصرية، ظهرت خطة موجّهة ضد اليهود عُرفت بـ»خطة الثلث»، تقضي بقتل ثلث اليهود، وتهجير ثلثهم، ودمج الثلث الأخير قسرًا في المجتمع. لتتلقفها دول الاستعمار وأنظمة الفصل العنصري، واعتبرتها نموذجًا لإبادة الهوية ومحو الوجود. وللمفارقة التاريخية، أن روسيا ذاتها التي أنجبت تلك السياسة القاتلة، كانت لاحقًا من بين أبرز من حارب النازية دفاعًا عن اليهود. واليوم، تتكرر المأساة في صورة أكثر وقاحة، إذ ينفّذ الصهاينة ذات الخطة ضد الفلسطينيين، لتُثبت أن الصهيونية والنازية وجهان لعملة واحدة.

لقد تحوّلت غزة إلى مستنقع يغرق فيه جيش الاحتلال، ولا أحد يُفشل مخططاته سوى أولئك المقاتلين وحدهم، الثابتين في الميدان، الذين يبددون أوهام النصر ويقلبون المعادلات.

الدستور الأردني
التعليقات (0)