في مقابلة مع صحيفة «ديلي كولر» اليمينية الداعمة له، أُجريت الجمعة الفائت في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب: «إذا عدنا 20 سنة إلى الوراء كنت سأخبرك أن إسرائيل تمتلك أقوى لوبي في الكونغرس، أقوى من أي لوبي لجهة أو شركة أو مؤسسة أو دولة رأيتها في حياتي.. اليوم ليس لديها لوبي كهذا، إنّه لأمر مدهش».
واعترف ترامب بأنه على دراية بتراجع الدعم لإسرائيل في صفوق القاعدة الجمهورية، خصوصا بين أولئك الذين ينادون بشعار «أمريكا أوّلا» وبين الشباب عموما بمن فيه شباب الحزب الجمهوري.
وقال في المقابلة إن إسرائيل تربح الحرب، لكنّها تخسر في عالم العلاقات العامة، وأضاف أن الحرب يجب أن تنتهي بسرعة. وكرر ترامب عدة مرات، فكرة أن اللوبي الإسرائيلي كان قويا وطاغيا، واليوم أصبح أضعف، وقال أيضا: «في الماضي، إذا كنت تريد أن تترشح وتصبح سياسيا، لم تكن تستطيع الحديث بسوء عن إسرائيل»، مشيرا إلى أن المناهضين لإسرائيل في مجلسي الشيوخ والنواب يزدادون أكثر فأكثر.
يبدو أن المتغيّرات في الرأي العام الأمريكي، التي تعكس تراجعا حادا في الدعم التقليدي لإسرائيل، بدأت تتحوّل إلى أحد عوامل التأثير المهمة على اتخاذ القرار في واشنطن. وما يرشح من تصريحات وتسريبات واجتماعات الإدارة الأمريكية، هو أن ترامب يريد نهاية سريعة للحرب، ويوجّه رسالة إلى نتنياهو وحكومته بأن الحرب يجب ان تنتهي بحسم عسكري سريع، أو بصفقة شاملة فورية. وقد اختار نتنياهو، كما نُشر، الضغط على قيادة الجيش الإسرائيلي للتسريع في احتلال مدينة
غزة.
ومن دلائل تراجع تأثير اللوبي الصهيوني تحت وطأة صور الإبادة الجماعية والتجويع والتدمير والتهجير في غزة، أنّ غالبية أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين (27 من 47) صوتت ضد إرسال المزيد من شحنات الأسلحة إلى إسرائيل. والمثير هو دعم جاكي ساليفان مستشار الأمن القومي الأسبق في عهد بايدن، لهذا التصويت واصفا إيّاه بأنّه «موقف مشروع وموثوق تماما ويستحق الدعم الكامل»، وكان ساليفان من أشد الداعمين لإسرائيل، وعارض فرض قيود على تزويدها بالأسلحة والذخائر، وضغط على النوّاب الديمقراطيين لإفشال مبادرات تفرض مثل هذه القيود.
استطلاعات
في ظل الحرب على غزة والتطورات الجارية بخصوص القضية الفلسطينية، أُجريت في
الولايات المتحدة عشرات الاستطلاعات حول الموقف من إسرائيل وفلسطين، بما في ذلك حول الحرب والإبادة والتجويع. ويظهر من مجمل هذه الاستطلاعات:
أولا، هناك تراجع ملحوظ في دعم إسرائيل وارتفاع مقابل تأييد فلسطين.
ثانيا، هذا التراجع أكثر حدة في صفوف الحزب الديمقراطي، الذي انتقلت غالبية قاعدته الانتخابية إلى دعم فلسطين على حساب إسرائيل.
ثالثا، فئة الشباب عموما تعارض إسرائيل وسياساتها وممارساتها وحروبها، وبالأخص شباب الحزب الديمقراطي، الذي تقف غالبيته الساحقة، وفق جميع الاستطلاعات إلى جانب الشعب الفلسطيني وضد إسرائيل.
رابعا، هناك تراجع في التأييد لإسرائيل في صفوف الحزب الجمهوري، بما فيه غالبية شباب الحزب، وحتى في صفوف كتلة المتدينين الإنجليكانيين، هناك تراجع في مساندة إسرائيل وبالأخص فئة شباب هذه الكتلة، الذي يتأثّرون مثل غيرهم بما يرونه من فظائع في غزة.
خامسا، بدأ الدعم لإسرائيل في الانحسار في كتلة التأييد الصلبة المكوّنة من اليهود المتشددين، والمسيحيين المتطرفين والقوى التقليدية «القديمة» في الحزبين الجمهوري و الديمقراطي ـ وهذا التجمّع أصبح أقلية في الرأي العام الأمريكي. يرشح في جميع الاستطلاعات تآكل متزايد وملحوظ في تأييد إسرائيل:
ـ أظهر استطلاع معهد «غالوب» في يوليو الماضي، أن 60% من الأمريكيين يعارضون حرب إسرائيل على غزة، وأعرب 32% من المستطلعين عن تأييدهم لها، وكان هذا أقل بنسبة 10% مما كان عليه هذا التأييد في سبتمبر 2024. وكشف الاستطلاع عن بون شاسع في مواقف الديمقراطيين (9% تأييد) والجمهوريين (71% تأييد). وكان النقد أوسع عند فئة الشباب عموما، بمن فيهم الجمهوريون، حيث عبر 9% منهم (جيل 18-34) عن دعم العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة.
ـ في أبريل الماضي نشر مركز «بيو» للأبحاث نتائج استطلاع بان منه أن 53% من الأمريكيين عندهم موقف سلبي من إسرائيل، بزياد 10% عن استطلاع يناير 2024. وظهر أن الزيادة تعود أساسا إلى تحولات في مواقف كبار السن من الديمقراطيين (الشباب الديمقراطي أصلا ضد سياسات إسرائيل) والشباب الجمهوري. وكانت الآراء منقسمة بالتوازي عند من هم تحت جيل الـ50 من الجمهوريين، فنصفهم يؤيّد والنصف الآخر لا يؤيّد إسرائيل.
منح الأمريكيون في استطلاع «مجمع شيكاغو للشؤون الدولية» في مايو الماضي، إسرائيل درجة «فاتر» ـ 50 من أصل 100، وهو الأدنى منذ عام 1978
جاء في استطلاع لجامعة ماريلاند، أجري شهر أغسطس الماضي لأول مرّة أنّ الأمريكيين يتماهون مع الفلسطينيين أكثر من الإسرائيليين، وأن 41% يرون ما تفعله إسرائيل «إبادة جماعية».
وفق استطلاع لجامعة «كوينيبياك»، فإن 60% من المستطلعين أعربوا عن معارضتهم للمساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل، وجاء في نتائج الاستطلاع أن 72% من الديمقراطيين ونسبة 20% من الجمهوريين يعتبرون ما تقوم به إسرائيل «إبادة جماعية».
جاء في استطلاع لجامعة هارفارد ومؤسسة «هاريس»، الشهر الماضي، أن 60% من الشباب يقفون مع حركة حماس في الحرب ضد إسرائيل، وأن نصف المستطلعين يرون أن إسرائيل تمارس «إبادة جماعية» في غزة. وأظهر الاستطلاع كذلك أن حوالي 60%من الديمقراطيين يعارضون تزويد إسرائيل بأسلحة هجومية أو حتى دفاعية.
انزياح الجيل الأمريكي الجديد لنصرة العدالة، لا ينحصر في حدود الولايات المتحد
استطلاع مجلة «الإيكونوميست»، الشهر الماضي، بيّن أن نصف الأمريكيين يؤيدون إقامة دولة فلسطينية، وفي صفوف الديمقراطيين 70% يؤيّدون وفقط 5% يعارضون، وعند الجمهوريين ثلث يؤيدون وثلث يعارضون وثلث لا موقف لهم بهذا الشأن.
تكشف الاستطلاعات أن حرب الإبادة الجماعية في غزة تلقي ظلالها على ضمير العالم وبالأخص جيل الشباب. ويبدو أن انزياح الجيل الأمريكي الجديد لنصرة العدالة، لا ينحصر في حدود الولايات المتحدة، بل ينسحب على ما يحدث في العالم، وحدث غزة فظيع ومرعب، يهزّ من الأعماق كل من عنده الحد الأدنى من المشاعر الانسانية النبيلة.
قلق إسرائيلي
جاء في تقرير جديد لباحثين في «معهد دراسات الأمن القومي» الإسرائيلي أن «مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة وقعت في أزمة غير مسبوقة. التأييد التقليدي تآكل بشكل كبير في صفوف الديمقراطيين، وجزء من الجمهوريين، خصوصا عند شباب الحزبين.. وفي المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة، وخصوصا الليبراليين، هناك تراجع في تأييد وازدياد في النقد تجاه إسرائيل. وقد تؤدّي هذه التطوّرات إلى تضييق حرية العمل السياسي والعسكري وإلى تشكيل تهديد فعلي على أمن إسرائيل».
وتخشى النخب السياسية والأمنية الإسرائيلية من أن يؤثر التحول في الرأي العام على اتخاذ القرار السياسي في واشنطن، خاصة أن النقد على إسرائيل يتوسّع ويزداد حدّة في قاعدة الجمهوريين. وهي تخشى أكثر من انتكاسة في دعم الديمقراطيين تبعا للتغيرات الكبرى في صفوف حزبهم، وهناك إجماع بأن الدعم الديمقراطي، الذي كان في عهد بايدن لن يعود.
نتنياهو قلق مما يجري في الولايات المتحدة، فهو يعتبر العلاقة بها أهم بكثير من مجمل علاقات إسرائيل بدول العالم كافة. وهو يغضب كثيرا حين توجّه له «تهمة» الانحياز إلى الحزب الجمهوري وإهمال الديمقراطيين. وفي كتاب مذكراته، الذي نشره عام 2022، كتب «والدي (بن تسيون نتنياهو) كان من بين الذين صنعوا فعليا التأييد ثنائي الحزبية لإسرائيل، ومن المفارقة أن توجه أصابع الاتهام بعد عشرات السنين إلى ابنه بأنه لا يقدّر هذا الدعم من الحزبين».
ويبدو أن نتنياهو منزعج من التحولات في الرأي العام الأمريكي ضد حرب إسرائيل على غزة، أكثر من المعارضة المتزايدة للحرب في إسرائيل نفسها، فهو يعتقد أنه قادر على تحمّل وامتصاص المعارضة في إسرائيل وكسرها لاحقا، لكنّه يخشى تأثير المعارضة المتنامية في الولايات المتحدة على صنّاع القرار في واشنطن. وربّما كانت تصريحات ترامب بشأن خسارة إسرائيل في الرأي العام وفي الكونغرس هي رسالة ضغط على نتنياهو أن عليه أن يحسم وأن ينهي الحرب بسرعة، وقد يحمل وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في زيارته المقبلة إلى إسرائيل سلّة من الإغراءات والضغوط لإنهاء الحرب. والقصد هنا إنهاؤها لصالح إسرائيل قدر الإمكان وبإعلان «انتصار إسرائيلي» مهما كان السياق.
القدس العربي