مقالات مختارة

نتنياهو بين الجرائم الكبرى… التهم التافهة ورائحة الانتخابات

جمال زحالقة
الأناضول
الأناضول
شارك الخبر
بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يشم رائحة انتخابات قريبة، فسارع إلى تقديم طلب عفو من الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ، في محاولة لإبطال محاكمته قبل خوض انتخابات غير مضمونة النتائج. وتشير معظم الاستطلاعات المهنية حاليا، إلى أن نتنياهو في طريقه لخسارة الانتخابات، ما سيجعله أمام المحاكمة متجرّدا من منصب رئاسة الوزراء، وفي حالة من فقدان أدوات الضغط الثقيلة التي يمتلكها اليوم.

ويبدو أن طلب العفو جاء في ظل خطرين: الأول إمكانية عدم الفوز في الانتخابات، وهو يريد أن يستبق ذلك بإلغاء المحاكمة نهائيا، لتفادي الوقوف أمامها فاقدا لدروع الحكم والسلطة، ما قد يسهّل على المحكمة إدانته وسجنه؛ والثاني الاقتناع بأن تبرئة ساحته ليست مضمونة وهو قد ينال عقابا يصل إلى السجن الفعلي لسنوات، وهناك مؤشرات قوية من المداولات القضائية الجارية، أن هذا السيناريو وارد وممكن، وعليه يرى نتنياهو ومحاموه، أن حسم المحاكمة خارج قاعة المحكمة، أفضل من استمرارها نحو المجهول.

في المقابل يسعى نتنياهو إلى إلغاء أوامر الاعتقال، التي أصدرتها محكمة الجنايات الدولية ضده، وفي السبيل لتحقيق مأربه هذا، يسير باتجاهين: الأول، استخدام «مطرقة ترامب» للضغط على المحكمة عبر فرض عقوبات عليها وعلى قضاتها لحشرها في الزاوية، ولإجبارها على النزول عن شجرة أوامر الاعتقال؛ والثاني تقديم سلّم «سليم» للنزول عن الشجرة بطرح ادعاءات قضائية بشأن عدم قانونية أوامر الاعتقال، لأنّ حيثياتها خرجت عن حدودها الأصلية في 2021، ودخلت فيها قضايا حرب غزة، التي لم تحقق بها إسرائيل بعد، وتدعي أن من حقّها استنفاد مبدأ الاستكمال، قبل أي قرار للجنائية الدولية، إضافة إلى ادعاءات أخرى تسهر آلة القضاء الإسرائيلية (اقرأ: آلة الدفاع عن الجريمة) على إعدادها.

ويرشح من التحركات العلنية ومما يعرف من التحركات السرية أن نتنياهو يريد الإسراع في إغلاق هذا الملف أيضا، خاصة أنه يرى أن الانتخابات قريبة وقد يخسرها، ويتعرض لملاحقة قضائية دولية فاقدا للحصانة، التي يمنحه إياها العديد من الدول. لا وجه للمقارنة بين الحالتين، لأن الأولى محصورة في تهم «خفيفة» مثل الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، وهي تافهة مقارنة بالجرائم الكبرى الفظيعة، التي يعتبر نتنياهو أوّل المسؤولين عن اقترافها، فهو الذي قرر وأدار ووجّه وقاد وتابع وبرّر جرائم غزة الفظيعة. وإذا كانت عدالة في الدنيا لجرى توجيه عشرات آلاف تهم القتل المتعمد ضد نتنياهو، ولكانت تهم الفساد المالي على هامش الهامش.

طلب العفو
قدم نتنياهو الأحد الماضي طلبا للعفو ولإلغاء محاكمته إلى الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ. وجاء الطلب على شكل رسالة شخصية قصيرة، وورقة قانونية طويلة (111 صفحة) سطّرها محاميه عميت حدّاد. في رسالته لم يعترف نتنياهو بالتهم الموجهة ضده، ولم يبد استعدادا لدفع أي ثمن مقابل العفو، وكتب أن «الإجراءات القانونية ضدي تسببت في خلافات حادة.. إنهاء المحاكمة ستؤدّي إلى إطفاء اللهيب حولها.. وفي ظل الأحداث الأمنية والفرص السياسية، علينا أن نفعل كل ما نستطيع لرأب الصدع ولتحقيق وحدة الشعب». وجاء في الرسالة أيضا أن العفو عنه سيؤدي إلى «إعادة ثقة الشعب بأجهزة الدولة». وفسّر البعض رسالته بأنه يعرض صفقة وقف الهجوم الكاسح على الجهاز القضائي مقابل العفو عنه، وأن فيها تلميح لحرب محتملة ولتطبيع ممكن.

من الناحية القانونية والإجرائية في إسرائيل، فإن العفو عن متهم خلال المحاكمة هو أمر نادر وصعب ومركّب جدّا، لكنه ممكن في ظروف معيّنة. وقد أثار الطلب ردود فعل متناقضة، كما كان متوقّعا، حيث تحمّس له أنصار نتنياهو وبدأوا بالترويج، إلى أن عدم الاستجابة له سيخلق أزمة كبيرة غير مسبوقة. في المقابل وضعت المعارضة شروطا لقبوله، أهمّها اعتراف نتنياهو بالتهم الموجهة ضده، وإبداء الندم، والتنحي الفوري عن منصب رئيس الوزراء والالتزام بعدم الترشح مستقبلا.

يبدو أنّه من شبه المستحيل أن يقبل الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ طلب نتنياهو كما هو، ومن المستبعد أيضا أن يرفضه. وبعد أن تعهّد بـ»دراسة الطلب بجدّية» بدأ في البحث عن مخرج يقبل بموجبه التماس نتنياهو بشروط معيّنة. السؤال ما هي هذه الشروط؟ من المرجّح أن يطلب هرتسوغ اعترافا معيّنا وندما بصيغة ما، لكن الأصعب هو الالتزام بالتنحي عن السلطة، فنتنياهو ومن حوله رفضوا ذلك مرارا وتكرارا. وقد طرحت بعض المخارج من هذه المعضلة منها تنحي نتنياهو لفترة محدودة ليست طويلة. الأمر المؤكّد هو أن هرتسوغ معني جدا بإنهاء محاكمة نتنياهو، ومشكلته هي أن نتنياهو يريد أن ينهيها دون أن يدفع ثمنا.

ترامب
لعب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، دورا محوريا في تحريك مسألة العفو عن نتنياهو وتجنيبه العقاب بتهم الفساد. كما لعب ويلعب دورا لا أقل في السعي لإبطال أوامر الاعتقال التي أصدرتها محكمة الجنايات الدولية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي. ويبدو أن نتنياهو ليس بحاجة لترامب لاعتبارات أمنية وعسكرية واقتصادية وسياسية فحسب، بل هو بأمس الحاجة إليه لحسابات شخصية وازنة أيضا.

ولعل هذا ما يفسّر، جزئيا على الأقل، انصياع نتنياهو لترامب في بعض المحطات والقضايا. وفي يوم الاثنين الماضي وفي محادثة هاتفية، طلب نتنياهو من ترامب مواصلة التدخل بشأن العفو، فأجابه ترامب أنّه «فعل كل ما يستطيع»، واستدرك قائلا، إن العفو يجب أن يتم، واتفق الاثنان على مواصلة بحث الموضوع خلال زيارة نتنياهو المقبلة إلى البيت الأبيض. لا يبدو اندفاع ترامب في طلب العفو من نتنياهو مجرد نزوة ترامبية عابرة، بل يعود إلى حسابات سياسية مدروسة. ففي المحادثة الهاتفية ذاتها طلب ترامب من نتنياهو إبداء المزيد من المرونة، ومن التعاون مع الولايات المتحدة بشأن الملفين الغزّي والسوري، وفي الخلفية مكافأة نتنياهو ـ بطلب العفو- لا الضغط عليه.

كما أن للاثنين موقفا مشتركا من «الدولة العميقة»، ومن الجهاز القضائي وهما يشكوان من «الملاحقة السياسية» من خلال المحاكم، إضافة لذلك، الدفاع عن نتنياهو يفيد ترامب في قاعدته اليمينية في الولايات المتحدة، ويكسبه المزيد من التأثير على الساحة الداخلية في إسرائيل. وقد وصل الأمر بوزيرة إسرائيلية إلى تهديد الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ، بأن ترامب سيعاقبه إن هو لم يستجب لالتماس العفو الذي قدمه نتنياهو.
ارتكب رئيس الوزراء الإسرائيلي جرائم كبرى لكنّه يحاكم أمام القضاء الإسرائيلي بتهم تافهة

آل كابوني
ارتكب رئيس الوزراء الإسرائيلي جرائم كبرى في الضفة ولبنان وسوريا وإيران واليمن، وأصدر أوامره بالقيام بإبادة جماعية وبتدمير شامل في قطاع غزة، لكنّه يحاكم أمام القضاء الإسرائيلي بتهم تافهة مثل، مبادلة تسهيلات بتغطية إعلامية إيجابية وتلقي زجاجات نبيذ وسيجار مقابل خدمات معينة لأصدقائه الأثرياء. ويذكّرنا هذا المشهد بقضية رئيس المافيا الأسطوري «آل كابوني»، الذي تزعّم منظمة إجرامية كبيرة في الثلاثينيات في مدينة شيكاغو، واقترف جرائم فظيعة من قتل وتخريب، لكنّه لم يحاكم سوى على «التهرّب من الضرائب».

الفرق بين الحالتين أن السلطات الأمريكية لم تستطع إثبات تهم الجرائم الكبرى فلجأت إلى التدقيق في حسابات آل كابوني، أما السلطات الإسرائيلية فهي لا تريد محاكمة نتنياهو على جرائمه الفظيعة، بل تمنحه عليها الأوسمة وتحاكمه فقط على الفساد المالي. هناك بعض المعجبين بالقضاء الإسرائيلي، ويقعون في فخ خطاب «الديمقراطية الإسرائيلية»، وعلى هؤلاء أن ينتبهوا إلى أن «عقلية العصابة» هي السائدة في إسرائيل. بموجبها من المسموح وحتى من المحبذ ارتكاب الجرائم والفظائع ضد «الآخرين»، لكن من الممنوع بتاتا التلاعب بأموال العصابة وخيانة قوانينها الداخلية.

من المهم في المرحلة المقبلة تفكيك أساطير الديمقراطية الإسرائيلية، والإثبات بالبرهان القاطع أنّها تنتمي إلى فئة «الديمقراطية الإجرامية»، التي تسمح بالقتل والتدمير والتهجير بقرار «سليم ديمقراطيا»، تتخذه حكومة انتخبت بانتخابات «ديمقراطية». وإذا كانت إسرائيل تحاكم زعيمها بتهم الرشوة والفساد، فهذا ليس دليل على عدالة قضائها، بل بالعكس فهذا قضاء يبيح قتل الأطفال والمدنيين بعشرات الآلاف ولا يبيح فسادا ماليا وتلقي بعض الهدايا. فأي عدالة هذه؟

القدس العربي
التعليقات (0)