الكتاب: من نفق عيلبون إلى طوفان الأقصى،
نقاش في السيرة التراجيدية للحركة الوطنية الفلسطينية
المؤلف: ماجد كيالي
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
يقدم الباحث الفلسطيني ماجد كيالي قراءة
نقدية في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية منذ تشكلها في منتصف الستينيات من القرن
الماضي وحتى اليوم، التي يرى أنها عاشت ذروة نجاحاتها في السنوات العشر الأولى من
عمرها، في حين دخلت بعد ذلك في سلسلة من الإخفاقات والأزمات التي تكرر نفسها، بسبب
الغياب الواضح لمراجعة الخيارات السياسية، والمحاسبة والنقد بحسب ما يقول.
ويناقش
كيالي عددا من القضايا والأخطاء الاستراتيجية التي يعتقد أن الحركة الوطنية
الفلسطينية لم تستطع التعامل معها بحكمة، لافتا، في مقدمة كتابه، إلى أنه يطرح انتقاداته
مع إدراكه الكامل "للعوامل الخارجية والظروف الموضوعية التي لعبت دورا
كبيرا" في مسار الحركة، التي ضاعف أثرها السيئ "عدم تبصر
القيادات(الفلسطينية) بالخيارات السياسية والكفاحية التي انتهجتها، وقصور
إدراكاتها لموازين القوى وللواقع ومعطياته العربية والدولية".
ثغرات
يقول كيالي إن خطابات وأدبيات الحركة
الوطنية الفلسطينية، منذ انطلاقتها في العام 1965، جاءت في غالبيتها مغرقة في
الروح الشعاراتية والرغبوية، واحتلت ثقافة الكفاح المسلح فيها مكانة الصدارة، مع
تجاهل أو إغفال الفارق بين الواقع
والإمكانيات من جهة والتمنيات والطموحات من جهة أخرى. وهو أمر انعكس على إمكانية
تحقيق إنجازات سياسية يمكن استثمارها. وتبعا لذلك يورد كيالي مجموعة من
"النواقص" و"الثغرات" التي يرى أنها طبعت "الحركة"
بطابعها منذ نشوئها مثل عدم التكافؤ في الإمكانيات وموازين القوى المتاحة بين
الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية من جهة، وإسرائيل من الجهة الأخرى.
يؤكد كيالي أن الكفاح المسلح الفلسطيني بالشكل الذي تمت ممارسته لم ينشأ في "تربة طبيعية"، حيث "رعته وتجاذبته الحاجات والتوظيفات العربية والإقليمية بعد هزيمة 1967".
وافتقاد الحركة الوطنية لحيزها الاجتماعي
والجغرافي المستقل والخاص، وهما كما يقول أمران لازمان لتشكيل أي حقل سياسي
ولإنتاج أي وطنية. ثم هناك الشرعيات المتعددة التي تآكل بعضها، وتعطل بعضها الآخر،
فالفلسطينيون اليوم لديهم "الشرعية الثورية" التي ربما تكون انتهت مع
"أفول معظم الكيانات السياسية المتشكلة منها"، و"الشرعية
التمثيلية" التي ظهرت بعد إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، وهي بالطبع لا
تشمل كل الفلسطينيين، وشرعية منظمة التحرير الفلسطينية، و"الشرعية
الفصائلية" التي تشمل 16فصيلا، اثنان منهما فقط هما "فتح"
و"حماس" يتحكمان بالخيارات السياسية والكفاحية، بحسب كيالي.
ويضيف: إن الحركة الوطنية افتقدت دائما
للطابع المؤسسي والديمقراطي في كياناتها، وفي علاقاتها البينية، فسادت القرارات
الفردية واختفت تقاليد المساءلة والنقد، مضيفا إن "الاعتقاد بأن الكفاح
المسلح سيحرر فلسطين انطلق(بالأساس) من العواطف والرغبات دون دراسة موازين القوى
والمعطيات العربية والدولية.. وهذه الحالة بقيت منذ العملية الأولى في نفق عيلبون
1965-(أول عملية عسكرية نفذتها قوات العاصفة ضد إسرائيل) - مرورا بتجربة لبنان ثم
الانتفاضتين، وصولا إلى طوفان الأقصى، التي وجدت فيها إسرائيل فرصتها السانحة
للبطش بفلسطينيي غزة وتدمير مدن القطاع وبناه التحتية".
أشكال النضال
يشرح كيالي كيف أن مسارات الكفاح المسلح
الفلسطيني تظهر أنه بلغ أعلى مستوياته في الخارج في المرحلة اللبنانية
(1970-1982)، التي انتهت بغزو إسرائيل للبنان وانتهاء الوجود العسكري الفلسطيني في
الخارج. لنشهد بعد ذلك حقبة جديدة خلال الانتفاضة الثانية في الضفة والقطاع (2000
ـ 2004) التي "آلت أيضا إلى إخفاق.. رغم كلفتها البشرية والسياسية
والاقتصادية الهائلة". لتأتي مرحلة ثالثة شكلت "ذروة صعود القوة
العسكرية الفلسطينية" مع حماس بانتهاجها الحرب الصاروخية وسلاح الأنفاق ثم
طوفان الأقصى. ويقول إن الكفاح المسلح كفكرة وممارسة نشأ في مناطق اللجوء، وخصوصا
في الأردن ولبنان، ولم ينشأ في فلسطين المحتلة عام 1984 ولا في الأراضي المحتلة
عام 1967.
وبما أن مفهوم الشعب الفلسطيني يشمل
الفلسطينيين كلهم في مختلف أماكن تواجدهم،" فإن الاعتقاد بأن الكفاح المسلح
شكل القاسم المشترك بين الفلسطينيين يفتقد للصدقية، دون أن يعني ذلك التشكيك
بشرعية
مقاومة الاحتلال". وبالتالي يؤكد كيالي أن الكفاح المسلح الفلسطيني
بالشكل الذي تمت ممارسته لم ينشأ في "تربة طبيعية"، حيث "رعته
وتجاذبته الحاجات والتوظيفات العربية والإقليمية بعد هزيمة 1967". بينما يشير
إلى أن الشعب الفلسطيني "اجترح شكلين نضاليين أصليين انبثقا من تجربته وظروفه
المتباينة وإمكانياته المتواضعة هما النضال المدني الديمقراطي الذي انتهجه
فلسطينيو 48، والانتفاضة الشعبية الأولى في الضفة والقطاع".
وينظر إلى الكفاح المسلح في الخارج وحتى
الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي اتخذت طابعا مسلحا، باعتبارها
"مغامرة" للفصائل الفلسطينية، رافقها تقدير خاطئ للإمكانات الحقيقية
للشعب الفلسطيني، واستخفاف بقوة العدو. وصحيح أنه يقر بالكفاح المسلح باعتباره أحد
أشكال النضال المشروعة ضد الاحتلال لكنه يرفض اعتباره أمرا "مطلقا".
"إذ يستلزم شروطا أهمها القدرة على استثمار التضحيات والبطولات، وعدم إتاحة
الفرصة للعدو لاستخدام كل آلته العسكرية لقصم ظهر الشعب..".
عقيدة نتنياهو
يستنتج كيالي: إننا أمام حقبة جديدة في
الصراع تتحكم إسرائيل في رسم ملامحها، فهي الآن تصارع الفلسطينيين على أراضي الضفة
الغربية وتنازع السلطة الوطنية الفلسطينية على نفوذها على الشعب الفلسطيني، وتحول
غزة إلى منطقة غير صالحة للعيش، في إطار سعيها لإجهاض فكرة الدولة الفلسطينية وشطب
الشعب الفلسطيني من المعادلات السياسية. وهي مع ذلك (إسرائيل) تواجه "لحظة
انعطافيه حاسمة ونوعية في تاريخها يمكن أن يتحدد بناء عليها مستقبلها".
إننا أمام حقبة جديدة في الصراع تتحكم إسرائيل في رسم ملامحها، فهي الآن تصارع الفلسطينيين على أراضي الضفة الغربية وتنازع السلطة الوطنية الفلسطينية على نفوذها على الشعب الفلسطيني، وتحول غزة إلى منطقة غير صالحة للعيش،
هذه الانعطافة تتجلى في أمرين أساسيين الأول
سعي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى تهميش السلطة القضائية (المحكمة
العليا والرقابة القانونية على الحكومة) ووضعها تحت هيمنة السلطة التنفيذية، الذي
سيفضي في حال نجاحه إلى تركيز السلطات الثلاث بيد رئيس الحكومة. والثاني تغليب
طابع إسرائيل كدولة دينية يهودية على طابعها كدولة علمانية ليبرالية، وهذان
التوجهان يسيران بالتوازي مع خيار "شطب الفلسطينيين من النهر إلى البحر من
المعادلات السياسية"، وسعي إسرائيل لفرض نفسها كقوة إقليمية عظمى، بتعميم
نموذجها على دول المنطقة، "بحيث تصبح دولا ما قبل وطنية تحتوي على جماعات
طائفية وإثنية.. مع تقويض نفوذ إيران وتحجيم نفوذ تركيا في المشرق العربي".
وأمام ذلك يرى كيالي أن على القيادات
الفلسطينية أن تدرك جيدا أن ما يقوم به نتنياهو هو نتاج عقيدة صلبة، ترفض وجود أي
"بعد كياني" للشعب الفلسطيني بما يعنيه ذلك أيضا من العمل على تهجيره،
منتقدا تفسيرات البعض "القاصرة والضارة" لاستمرار الحرب على غزة بسعي
نتنياهو للتنصل من المحاكمة، أو لتعزيز مكانته في الانتخابات المقبلة. كما لا
ينبغي المراهنة على امكان اندلاع حرب أهلية إسرائيلية، بحكم طابع النظام السياسي
الديمقراطي في إسرائيل، وكذلك بسبب "عوامل خارجية كابحة لمثل هذا
التطور". يؤكد كيالي أن ما يحدث في غزة نكبة جديدة تستلزم النظر في حلول واستراتيجيات نضال مختلفة.
وعليه فإن حركة حماس ربما تكون مطالبة
بالتخلي عن السلطة "لتفويت الفرصة على إسرائيل جعل غزة مكانا غير صالح
للعيش.. والانخراط في الجسم الفلسطيني على علاته مع محاولة إصلاحه إن أمكن
ذلك". ومع إقرار كيالي بانغلاق خيارات التسوية السياسية مع إسرائيل يجد أن
الخيارات العسكرية ضمن معطيات الواقع الحالي قد انتهت مفاعيلها أيضا. لقد
"انهار الخيار العسكري على جبهة الأنظمة، كما على جبهة الفصائل..مع تجبر
إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط أكثر من أي مرحلة مضت".
ويقول إن التجربة أثبتت أن الفلسطينيين في
كفاحهم أسرى الواقع العربي والإقليمي والدولي، مع إمكانياتهم المحدودة ومع تجزئتهم
وتشتتهم. ولا يمكن توقع إنجازات وطنية في وضع دولي لا يسمح لهم باستثمار تضحياتهم
وبطولاتهم. ويضيف كيالي إنه لا ينبغي كذلك توهم أن بإمكان الفلسطينيين استعادة
حقوقهم بالمظاهرات والمفاوضات والمناشدات، لأن إسرائيل صممت على شكل دولة عسكرية
عنصرية إحلاليه، ولا يمكن أن تتنازل طواعية للشعب الفلسطيني. لكن يمكن للفلسطينيين
أن يجدوا خيارات سياسية وكفاحية مغايرة تلائم أوضاعهم والظروف المحيطة بهم، بانتظار
تغير الظروف الدولية والعربية التي قد تشكل ضغطا على إسرائيل.
ويتابع إن أي استراتيجية فلسطينية جديدة
يفترض أن تركز على أمرين أساسيين ؛مقاومة إسرائيل وسياساتها العنصرية الاستيطانية،
وبناء المجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج، وتعزيز كياناته وترسيخ صموده على
أرضه. ولتحقيق ذلك لا بد من كيان وطني جامع للفلسطينيين يتأسس على "وحدانية
الشعب، ووحدانية قضيته، ووحدانية أرضه، كمنطلق في الاستراتيجيتين السياسية
والكفاحية، .. بحيث يمكن تصحيح أحد أخطاء التاريخ، باستعادة فلسطينيي 48 إلى قلب
المعادلات السياسية الفلسطينية، وإبقاء قضية اللاجئين في قلب الصراع ..، مع تكييف
أشكال الكفاح بحيث تتناسب مع إمكانيات وظروف كل الفلسطينيين من النهر إلى البحر".