قضايا وآراء

السفينة والفسيلة

أحمد البقري
"لم تعد مادلين مجرد قارب.. بل مرآة أخلاقية، كشفت من يملك ضميرا، ومن باع كل شيء"- جيتي
"لم تعد مادلين مجرد قارب.. بل مرآة أخلاقية، كشفت من يملك ضميرا، ومن باع كل شيء"- جيتي
يروى أنه كان هناك في إحدى القرى البعيدة، على أطراف نخيل العراق، شيخٌ طاعن في السنّ، يحمل في يده الصغيرة فسيلة نخيل. اقترب منه شابٌّ يسأله باستغراب:

- يا عم، ما الذي تفعله؟

فأجابه الشيخ بابتسامة هادئة وهو يغرسها في الأرض:

- أغرس نخلة.

قال الشاب وهو يضحك:

- وهل تظن أنك ستأكل من ثمرها؟

فقال الشيخ وهو ينظر إلى السماء:

- لم أزرعها لأجلي، بل لوجه الله.. ولمن سيأتي بعدي.

علينا الزرع ولو لم نحصد يا ولدي..
في الوقت الذي أُغلقت فيه كل المعابر العربية في وجه غزة، وكان معبر رفح يخضع لحسابات السياسة لا حسابات الدم، وجدت "مادلين" طريقها عبر البحر. إنها ليست فقط محاولة لكسر الحصار، بل لكسر الخنوع

هذه القصة، وإن تكررت في صور كثيرة، ليست سوى انعكاس حيّ لحديث رسول الله ﷺ: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها".

والحديث هنا ليس عن الزراعة، بل عن الإيمان في لحظة الانهيار، عن فعل الخير حتى بين يدي القيامة، عن غرس الأمل في لحظة اليأس. تماما كما فعلت السفينة "مادلين".

أبحرت الفسيلة

كانت مادلين فسيلة في عرض البحر.

ليست سفينة حربية، ولا قافلة كبرى، مجرد قارب صغير، خرج من إيطاليا محمّلا ببعض الأدوية والمساعدات، لكن محمّلا أكثر بروح التحدي والإنسانية.

كان ركّابها حفنة من الشجعان؛ نشطاء من أوروبا وأمريكا وأفريقيا، من ديانات وخلفيات مختلفة، لا يوحدهم شيء سوى الضمير.

كانوا يعلمون أن البحر ملغوم، وأن السماء مليئة بالطائرات الإسرائيلية، وأن قوات البحرية الإسرائيلية لن تسمح بعبورهم. لكنهم أبحروا. لم يبحثوا عن نصر عسكري، بل عن شهادة أخلاقية، عن تسجيل موقف في زمن التواطؤ.

حين ضاق البرّ.. فُتح البحر

في الوقت الذي أُغلقت فيه كل المعابر العربية في وجه غزة، وكان معبر رفح يخضع لحسابات السياسة لا حسابات الدم، وجدت "مادلين" طريقها عبر البحر. إنها ليست فقط محاولة لكسر الحصار، بل لكسر الخنوع.

سفينة وحيدة، تقف في وجه جحافل الغطرسة، تحمل قلوبا لا تتاجر ولا تساوم. قلب كل من فيها كان يقول: "لسنا جزءا من هذه الجريمة".

بضاعتهم.. رُدّت إليهم

تمت محاصرة السفينة. طائرات مسيّرة، وزوارق حربية، ورش غازات.. ثم اقتحام، ثم اختطاف، ثم صمت دولي معتاد.

كل شيء تكرر كما حدث مع سفن قبلها، لكن الفرق هذه المرة، أن العالم بات يرى المشهد كاملا؛ فمن يقتل الأطفال في غزة، هو نفسه من يمنع المساعدات، ومن يقصف المستشفيات، هو من يختطف سفن الإغاثة.

لم تعد "مادلين" مجرد قارب.. بل مرآة أخلاقية، كشفت من يملك ضميرا، ومن باع كل شيء.

السفينة "مادلين" لم تفك الحصار، لكنها كسرت حاجز الصمت. لم تصل غزة، لكنها وصلت إلى القلب

ولأن التاريخ لا يُكتب في قصور الملوك فصور مادلين ربما لا تتصدر نشرات الأخبار، لكن التاريخ لا يُكتب في قصور الملوك، بل في ضمير الشعوب. وسيأتي وقت، يُسأل فيه كل أحد:

- أين كنت حين حوصرت غزة؟

- هل أرسلت طائرة؟

- هل أغلقت معبرا؟

- أم أنك ركبت البحر، وخاطرت بحياتك وأمنك وحاولت الوصول أو حتى دعوت لمن ركبوه؟

إن السفينة "مادلين" لم تفك الحصار، لكنها كسرت حاجز الصمت. لم تصل غزة، لكنها وصلت إلى القلب. زرعت فسيلة، في أرض يابسة.. ولعلها تُثمر في الجيل القادم.

بين يديك فسيلة

إذا كانت الدنيا تنهار من حولك، فلا تيأس. تذكر أن في يدك "فسيلة".

قد تكون كلمة، أو موقفا، أو دمعة، أو مركبا صغيرا فأبحر في وجه العاصفة ولتكن كالشيخ؛ لا تنتظر أن ترى الثمار، فربما تكون أنت الزارع، وغيرك هو الذي يجني. لكن يكفيك أن تقول يوما: "حين قامت الساعة، كنت أغرس".
التعليقات (0)

خبر عاجل