قبل
سنوات أتيحت لي مهمة صحفية رافقت خلالها سفينة العودة التي انطلقت من النرويج
مرورا بالسويد وألمانيا وهولندا في طريقها إلى
غزة، في محاولة لكسر
الحصار على
القطاع. المهمة كانت تقتضي قضاء ليلة واحدة في السفينة وإجراء مقابلات مع من كانوا
على متنها. كانت تبدو مهمة سهلة يسيرة خاصة وأن الإبحار كان يتم في تلك الأثناء في
المياه الإقليمية الأوروبية، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة مطلقا، وكما يُتوقع أن
يكون الأمر مع قارب
مادلين لكسر الحصار الذي يبحر نحو غزة حاليا في مياه البحر
الأبيض المتوسط.
يظن
كثيرون أن السفر البحري عبر
قوارب كسر الحصار على غزة لا تكتنفه أخطار سوى المخاطر
الأمنية والسياسية، وفي الحقيقة أن الأخطار تحيط بهذه القوارب من كل جانب. فعلى
الصعيد الشخصي لم أكن أدري أنني مصاب بدوار البحر، وهي حالة تصيب كثير من الناس
خاصة عندما يكونون على متن قارب صغير تهزه الأمواج بشدة. وقد أنقذني المرافقون
ببعض الأدوية مع شرب كثير من الماء والاستلقاء. ليس هذا وفقط، بل على كل من يركب
هذه القوارب أن يمارس مهامه اليومية وهو يكافح السقوط أو الارتطام بالجدران
والحواجز الحديدية داخل السفينة بسبب الاهتزاز المتواصل. وهذا لا يتم على مدار
ساعات وإنما لأيام وليال طويلة على راكبي مثل هذه السفن والقوارب أن يتعايشوا مع
هذا النمط من الحياة.
كان
النشطاء الذين قابلتهم من عدة جنسيات أوروبية يدركون هذه المشاق، ومع ذلك قرروا
المضي قدما في هذه الرحلة المتعبة في محاولة لنصرة أهالي غزة المحاصرين. ولم يكن
وقتها هذا هو القارب الأول ولم يكن الأخير. والخروج في مثل هذه الرحلات يحتاج إلى
إعداد واستعداد مسبق يشتمل أيضا على التدريب القانوني على التعامل مع المحققين
الإسرائيليين في حال تعرضوا للاعتقال، وهو الاحتمال الأكبر لمصير هؤلاء الذين قرروا
خوض غمار هذه التجربة.
لم يكن من جمهور لأخبار هذا القارب سوى أهالي غزة أنفسهم لكفى، فيكفي أن يعرفوا أن هناك سياسيين وصحفيين ونشطاء من دول مختلفة في العالم قرروا خوض هذه المغامرة الشاقة من أجلهم وأنهم ليسوا وحدهم بالفعل وليس بالقول وحده
قصة
هذه القوارب تعود إلى خمسة عشر عاما إلى الوراء، وتحديدا إلى عام 2010 عند تأسيس
تحالف أسطول الحرية لتدشين حركة مقاومة بحرية تهدف لمهمة إنسانية وهي كسر الحصار
عن قطاع غزة. وقد منعت إسرائيل كثيرا من السفن من الوصول إلى قطاع غزة واعتقلت آخرين
على متنها، لكنها لم تستطع منع هذا التدفق البحري المستمر منذ ذلك الحين وحتى الآن.
وكان آخرها قارب مادلين الذي يقترب أثناء كتابة هذه المقال من المياه الإقليمية
المصرية، ولم يبق سوى القليل ليصل إلى شواطئ غزة. واستطعت عن طريق رابط التتبع
الموجود على بعض المواقع الإخبارية أن أحدد موقعه بدقة أمام سواحل مدينتي
الإسكندرية ورشيد المصريتين على ساحل البحر المتوسط.
لم
يحظ قارب مادلين بنفس الزخم الإعلامي الذي حظيت به قوارب أخرى قبل عملية طوفان
الأقصى عام 2023، فحصيلة الشهداء والدمار في غزة تفوق الوصف وتغطي على ما دونها من
أخبار، هذا فضلا عن أخبار المفاوضات المتعثرة التي خيّمت على وسائل الإعلام. ومع
ذلك، لو لم يكن من جمهور لأخبار هذا القارب سوى أهالي غزة أنفسهم لكفى، فيكفي أن
يعرفوا أن هناك سياسيين وصحفيين ونشطاء من دول مختلفة في العالم قرروا خوض هذه
المغامرة الشاقة من أجلهم وأنهم ليسوا وحدهم بالفعل وليس بالقول وحده.
لقد
أبدع هؤلاء النشطاء على مدار أكثر من عقد ونصف العقد من الزمان؛ في صك تجربة فريدة
في المقاومة البحرية لشق ممر إنساني لإيصال المساعدات الإنساني لأناس محاصرين
محرومين من مقومات الحياة الأساسية.
x.com/HanyBeshr