تبرز في
قلب الصراع
الفلسطيني-الإسرائيلي،
المقاومة الفلسطينية كظاهرة سياسية وأيديولوجية
معقدة، تتشابك فيها الأبعاد التاريخية والإنسانية مع الروايات الإعلامية.
اختارت
المقاومة لأكثر من سبعة عقود، الاحتفاظ بسلاحها كخيار استراتيجي للدفاع عن الأرض
والكرامة، في مواجهة
احتلال متفوق عسكريا وسياسيا. يُثير موضوع تسليم
السلاح جدلا
عميقا: هل هو بوابة للسلام أم تنازل قد يُطيح بالقضية الفلسطينية؟
سأحاول أن
أقوم بعرض معمق من الناحية السياسية والأيديولوجية والصحفية، لنكشف معا كيف يُشكل
صمود المقاومة وعدم تسليم سلاحها للصهاينة سر قوتها، ولماذا يُمثل التخلي عنه
تهديدا وجوديا للنضال الفلسطيني، ومخاطر التنازل، لنختتم بتأكيد أهمية الصمود
كضرورة استراتيجية.
فلنبدأ
معا هذه الرحلة مع:
1-
الجذور التاريخية: بناء صمود المقاومة
لنفهم
صمود المقاومة الفلسطينية، يجب أن نعود إلى نقطة البداية مع ظهور خطورة المشروع
الصهيوني والتي نادى به قادة الرأي في العالم العربي، نتج عن هذا الوعي ثورة
البراق والثورة الفلسطينية في عام 1936 وجهود الكثير من قادة العمل الميداني مثل
الشيخ عز الدين القسام ومن تلاه من قادة الحركات الإسلامية في العالم العربي
والإسلامي، ثم أتت النكبة عام 1948 وتهجير أكثر من 700,000 فلسطيني وإعلان قيام
دولة الاحتلال الإسرائيلي على أراضيهم، وهذا وضع الأساس لنضال طويل. منذ ذلك
الحين، تطورت المقاومة من احتجاجات شعبية إلى حركة مسلحة منظمة، مُثبتة قدرتها على
الصمود في وجه تحديات هائلة، وهناك الكثير من الكتب التي تحدثت عن المقاومة التي أحدثت
أثر في القضية الفلسطينية، مثل كتائب المتطوعين من الإخوان المسلمين في مصر وسوريا
والعراق والأردن تحت قيادة أحمد عبد العزيز ومصطفي السباعي ومحمد الصواف ومصطفي
الزرقا، مع حفظ الالقاب لهؤلاء القامات.
- تأسيس
منظمة التحرير (1964):
أعلنت
المقاومة الفلسطينية حمل السلاح كاستراتيجية لتحرير الأرض، مما جعل السلاح جزءا من
الهوية النضالية.
- حرب
1967 (النكسة):
دفع
احتلال الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية المقاومة لتكثيف عملياتها النوعية على
ساحات الأراضي الفلسطينية المحتلة.
- الانتفاضتان
(1987 و2000):
تجسدت
انتفاضة الحجارة في عام 1987 وانتفاضة الأقصى في عام 2000 في مقاومة شعبية
وعسكرية، وأكدتا أن السلاح ليس خيارا عابرا بل ضرورة مستمرة، كما نتج عن الأولى
تأسيس حركة حماس وجهازها العسكري، والثانية بكثرة الأعمال النوعية التي أجبرت
الاحتلال لأول مرة الانسحاب من قطاع غزة في عام 2005.
التحديات
لم تنثن
المقاومة أو تحيد عن مسارها رغم التفوق العسكري للاحتلال والحصار الاقتصادي على
غزة منذ 2007، والضغوط الدولية.
هذا
الصمود ليس مجرد رد فعل، بل استراتيجية متجذرة في إرادة شعب يرفض النسيان والتفريط
في أرضه عبر عقود من الزمن تقترب الآن من العقد الثامن للاحتلال.
2- البعد
السياسي: السلاح كورقة قوة
يشكل
السلاح في المشهد السياسي أداة تفاوضية لا غنى عنها، وفي عالم تحكمه توازن القوى،
يمنح السلاح المقاومة حضورا لا يُمكن تجاهله، مما يجعلها لاعبا رئيسا في أي حوار
سياسي، حيث إن هذا العالم لا يعرف إلا لغة القوة وما المقاومة في فيتنام والصومال
وجنوب أفريقيا عنا ببعيد.
المفاوضات:
دروس من التاريخ
تظهر
مخاطر اتفاقية أوسلو (1993) في التنازل دون ضمانات، حيث وافقت السلطة الفلسطينية
على الاعتراف بإسرائيل مقابل وعود بإقامة دولة، فتنازلت منظمة التحرير أولا عن
سلاحها ثم عن 77 في المئة من الأرض مقابل 23 في المئة، فتفاجأت بتفاوض الاحتلال
على المساحة التي رضيت بها منظمة التحرير وأبو عمار ياسر عرفات حينها بالإضافة إلى
مواصلة الاحتلال في التوسع الاستيطاني. هذا الواقع يُبرز أن السلاح يُعزز الموقف
التفاوضي، بينما غيابه قد يُحول الفلسطينيين إلى طرف ضعيف يسهل تهميشه، وهذا ما
حدث فيما يسمى باتفاقية أوسلو.
الضغوط
الدولية
تضغط
الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، على المقاومة لنزع سلاحها، وهذا ما تظهره
وسائل الإعلام العربية والعالمية إنهاء الحرب مقابل السلاح وإدخال المساعدات
الإنسانية وفتح المعابر، لكن هذه الضغوط تُقابل برفض فلسطيني بغض النظر عن موقف
السلطة الفلسطينية المخزي المتمثل في التنسيق الأمني مع أجهزة الاحتلال وتتبع المقاومين
في الضفة.
ويعد
السلاح آخر خطوط الدفاع في مواجهة الاحتلال المدعوم عالميا بكل سبل الدفاع
وأحدثها.
سياسيا،
يُعد الاحتفاظ بالسلاح ردا على اختلال موازين القوى، وتأكيدا على أن السلام لا
يُمكن أن يُبنى على الاستسلام.
استراتيجية
الردع
لا يعد
إطلاق الصواريخ من غزة، كما في حروب 2008 و2014، وما تلاها من حروب على القطاع حتى
الطوفان، مجرد عمل عسكري، بل رسالة سياسية فحواها أن أي عدوان إسرائيلي سيكون له
ثمن. هذا الردع يُجبر إسرائيل على التفكير مرتين قبل كل هجوم، مما يُعزز من مرونة
المقاومة في المفاوضات غير المباشرة.
3- البعد
الأيديولوجي: السلاح كرمز للكرامة
يتجاوز
السلاح دوره العسكري أيديولوجيا ليُصبح رمزا للهوية والكرامة، في ظل مساعي احتلال
يسعى دائما إلى طمس الوجود الفلسطيني، فيأتي هنا دور السلاح فيمثل تعبيرا عن الرفض
والأمل.
السلاح
في الوعي الجمعي
يُمجَد
السلاح في الثقافة الفلسطينية، كأداة للتحرير والدفاع عن الأرض والعرض، فتجد في
الأغاني "موئيل الهوارة" والشعارات الشعبية تُصور المقاومين كرموز
للعزة. هذا البعد الأيديولوجي يُغذي الروح المعنوية، مُلهما الأجيال لمواصلة
النضال.
رفض
التنازل: مسألة مبدأ
تتفق
فصائل المقاومة، سواء القومية كفتح أو الإسلامية كحماس والجهاد، على أن تسليم
السلاح يُعادل الخيانة. أيديولوجيا، السلاح ليس مجرد خيار تكتيكي، بل تجسيد لمبدأ
"المقاومة حتى التحرير". التخلي عنه قد يُفسر كتخلٍ عن الحلم بفلسطين
المستقلة من النهر الى البحر.
الصراع
على الهوية
تسعى
إسرائيل لفرض رواية تُلغي الهوية والرواية الفلسطينية مع محاولة الاحتلال فرض
سردية منافسة للسردية الفلسطينية التي نجحت في فرض نفسها بعد بداية الطوفان.
يشكل
السلاح درعا ضد هذا المسعى، ويعزز الاحتفاظ به الإحساس بالسيادة، حتى في ظل
الاحتلال، ويُرسخ فكرة أن الفلسطينيين ليسوا ضحايا فقط، بل مقاتلون من أجل حقهم.
4- البعد
الإعلامي: الإعلام وتشكيل الرواية
يلعب
الإعلام دورا محوريا في الصراع، حيث تتصارع الروايات على كسب الرأي العام.
والتغطية الصحفية للمقاومة تتراوح بين الشيطنة والتمجيد، مما يؤثر على صورتها
ودعمها.
الرواية
الغربية
يركز
الإعلام الغربي، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، على العمليات المسلحة للمقاومة
دون سياقها، مُصورا إياها كـ"إرهاب"، في حين أنه يتجاهل الوجه الآخر
للاحتلال فيتجاهل آلة القتل والتنكيل والحصار في حق الشعب الفلسطيني.
هذا
التحيز يتجاهل جذور الصراع -الاحتلال والنكبة- ويُبرر الدعم الغربي لإسرائيل. على
سبيل المثال، تغطية حرب 2014 ركزت على الصواريخ الفلسطينية، بينما قللت من تأثير
القصف الإسرائيلي على المدنيين.
الرواية
العربية
في
المقابل، يُظهر الإعلام العربي تعاطفا مع المقاومة، مُبرزا صمودها كرمز للنضال
العربي. قنوات مثل "الجزيرة" والقنوات الأخرى التي تُسلط الضوء على
الانتهاكات الإسرائيلية وفضح الاحتلال وممارساته ضد الشعب الفلسطيني المحتل على
مدار ما يقرب من 8 عقود من الزمن.
التأثير
على الدعم الدولي
تشكل
التغطية الصحفية الرأي العام، وبالتالي السياسات الدولية. فالرواية الغربية تُضعف
التعاطف مع الفلسطينيين، بينما الرواية العربية تُعزز التضامن الإقليمي. لكن غياب
تغطية متوازنة يُعيق فهم الصراع بعمق، مما يُقلل من فرص الضغط لإيجاد حل عادل.
الحاجة
إلى صحافة موضوعية
نحتاج إلى
صحافة تلك التي تتجاوز الاستقطاب، مُقدمة تحليلا يُبرز تعقيدات الصراع: لماذا
تحتفظ المقاومة بالسلاح؟ ما هي مخاطر التخلي عنه؟ هذا النهج قد يُساهم في تغيير
النظرة العالمية للقضية.
5- تسليم السلاح: تهديد سياسي وأيديولوجي
تسليم
السلاح للصهاينة قد يكون كارثة وجودية للقضية الفلسطينية، سياسيا وأيديولوجيا.
الضعف
السياسي
تفقد
المقاومة بدون سلاحها القدرة على المواجهة، مما يُعزز سيطرة الاحتلال. يظهر
التاريخ أن إسرائيل لا تُقدم تنازلات إلا تحت الضغط، كما في انسحابها من لبنان عام
2000. فتسليم السلاح يُتيح لإسرائيل فرض حلول تُلغي الحلم بالدولة الفلسطينية.
الانهيار
الأيديولوجي
يمثل
السلاح شعبيا شعورا بالأمل والتخلي عنه قد يُشعر الفلسطينيين بالعجز، مُهددا
التضامن الداخلي.
أيديولوجيا،
سيُنظر إليه كاستسلام يُناقض مبادئ النضال، مما قد يُضعف الروح المعنوية ويُلهم
الانقسامات.
التأثير
الدولي
يعتمد
الدعم الإقليمي من دول مثل إيران ولبنان واليمن على صورة المقاومة كقوة صامدة.
ويعد تسليم السلاح تقليلا من هذا الدعم، مُعرضا الفلسطينيين لمواجهة أحادية في
مواجهة إسرائيل وحلفائها.
6- الدعم
الدولي والإقليمي: شبكة الصمود
يشكل
الدعم الخارجي رافعة للمقاومة، لكنه يعتمد على قوتها المسلحة.
- إيران:
تُقدم دعما عسكريا لحماس والجهاد، مُعززة قدراتها في مواجهة إسرائيل.
- تركيا
والشعوب العربية: تُظهر تضامنا سياسيا وشعبيا، يتغذى على صورة المقاومة
الصامدة.
تسليم
السلاح قد يُضعف هذه الشبكة، حيث ستفقد المقاومة جاذبيتها كقوة نضالية.
7- الصمود
كضرورة حتمية
في
النهاية، صمود المقاومة الفلسطينية وعدم تسليم سلاحها للصهاينة ليس خيارا، التنازل
عنه دون السعي لاستراتيجيات سياسية تُكمل هذا المسار لتحقيق العدالة والحرية؛ قد
يُنهي النضال.