مدونات

ثورة السرديات: حصار يهز العروش

أدهم حسانين
"يبرز حراك حصار السفارات كمثال حي على كيفية تحول السردية إلى فعل"- عربي21
"يبرز حراك حصار السفارات كمثال حي على كيفية تحول السردية إلى فعل"- عربي21
في عصر يسيطر فيه الإعلام الرقمي على الوعي الجماعي، أصبحت السرديات أقوى من الجيوش. وحيث يسيطر نظام عسكري بقبضة حديدية على مصر، يدور صراع خفي لكن شرس على الرواية أو السردية المهيمنة.

يروج النظام بقيادة السيسي، لصورة الاستقرار والقوة عبر السيطرة على إعلامه بينما يخفي تحتها طبقات من الفقر والقمع والفساد.

أما المعارضة، خاصة في الخارج، فتكافح لبناء سردية بديلة تركز على الحرية، والعدالة، والمقاومة. وفي قلب هذا الصراع انبثق حراك "حصار السفارات المصرية" كشرارة جريئة، يهز أركان النظام ويكشف عن تواطئه في قضايا إقليمية مثل الإبادة الجماعية في غزة.

يعد هذا الحراك ليس مجرد احتجاج، بل استراتيجية عبقرية تحول السفارات -رموز السيادة- إلى ساحات مواجهة، كما كشف عن إحدى عورات النظام ونقاط ضعفه.

فمع تزايد الضغوط الاقتصادية داخل مصر، حيث يعاني الشعب من تضخم جامح وديون متراكمة، أصبحت السرديات أداة حاسمة للسيطرة. يستغل النظام الإعلام الرسمي لتصوير المعارضين كخونة، بينما يصور نفسه كحام الوطن.

معارضة، خاصة في الخارج، فتكافح لبناء سردية بديلة تركز على الحرية، والعدالة، والمقاومة. وفي قلب هذا الصراع انبثق حراك "حصار السفارات المصرية" كشرارة جريئة، يهز أركان النظام ويكشف عن تواطئه في قضايا إقليمية مثل الإبادة الجماعية في غزة

وبينما تتمتع المعارضة في الخارج بحرية غير متوفرة للداخل المصري، تتطور السرديات إلى أفعال ملموسة.

هذا المقال يغوص عبر كلماته بعمق في كيفية تعزيز سردية المعارضة، مع التركيز على سبل نجاح المقاومة الشعبية، ومعرجا على تواطؤ النظام في الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، ودور حراك حصار السفارات كمحفز للتغيير. سنستكشف التحديات بجرأة، ونقترح وسائل إبداعية متنوعة، ونرسم طريقا نحو تفوق سردي يعيد تشكيل مصر.

سرديات النظام العسكري: وهم الاستقرار والقمع الممنهج

يقدم النظام سرديته على أسطورة "الدولة القوية" التي تواجه التهديدات والمؤامرات الداخلية والخارجية، فيصور نفسه كضحية للأزمات العالمية، مثل جائحة كوفيد-19 أو الحرب الروسية-أوكرانية، وفي العامين الماضيين يستخدم فقاعة التهجير من قطاع غزة إلى سيناء رغم عدم موافقة أهل غزة أنفسهم، ولكنها أوهام يصدرها الاحتلال العسكري للشعب، مستخدما هذه الأحداث لتبرير فشله الاقتصادي والسياسي. في الواقع، يعد النظام امتدادا لديكتاتورية مقنعة، حيث يسيطر الجيش على الاقتصاد، الإعلام، والقضاء، وحتى أبسط الأمور الحياتية.

يدير الجيش إمبراطورية اقتصادية تشمل الإنشاءات، والزراعة، والسياحة، ولا تجد مؤسسة إلا على ظهرها ذا خلفية عسكرية مما يعزز صورة "الكفاءة العسكرية"، لكنه يؤدي إلى فساد هيكلي يستنزف الخزانة العامة. هذه السردية تعتمد على الخوف: خوف من الفوضى، خوف من الإرهاب، خوف من التغيير. فالنظام يروج لفكرة أن أي معارضة ستؤدي إلى كارثة، مستغلا سقوط أنظمة أخرى لتعزيز موقفه.

ولكن هذه السردية تعتمد على الكذب في كل تفاصيلها. تعاني مصر اقتصاديا من ديون خارجية تفوق 160 مليار دولار، مع اعتماد كامل على الرز الخليجي المشروط بإصلاحات شكلية.

يعد السيسي الشعب بالتنمية والرخاء، لكنه يفشل في مواجهة التضخم الذي يصل إلى 30 في المئة، والفقر الذي يطال ثلث السكان. سياسيا، يفتقر النظام إلى أساس أيديولوجي، فهو جيش يحكم بقبضة الحديد والنار كما في عصر زعيم الهزائم جمال عبد الناصر، ومُعرّض للانهيار إذا توقف الدعم الخارجي. والقمع يمتد إلى كل مجال: معتقلون وصل عددهم إلى أكثر من 100 الف معتقل دون محاكمات عادلة، والإعلام والصحافة مقموعين. حتى الانتخابات البرلمانية تُعد مسرحية هزيلة، مع تهميش المعارضة الحقيقية لأنها ببساطة في المعتقلات.

تكشف جرأة النظام في القمع ضعفه ومكامن ضعفه

ففي السنوات الأخيرة، شهدت مصر اعتقالات جماعية بعد احتجاجات ضد دور النظام في غزة. النظام يستخدم تقنيات مراقبة متقدمة، مثل برامج التجسس، لتتبع النشطاء سواء في الداخل أو الخارج عبر اعتقال ذويهم أو ملاحقتهم، كما يضيق على المنصات الرقمية بكافة مشاربها، وهذا يولد مقاومة، حيث يلجأ الشباب إلى المنصات المشفرة والفنون السرية.

سردية النظام مبنية على كذبة: أن الاستقرار يأتي بالقوة، لا بالعدالة. في الواقع، هو نظام يعتمد على ترويج صناعة الخوف، وأي صدع يمكن أن يؤدي إلى انهياره، كما في ثورات سابقة. ومع ذلك، يستمر في التواطؤ مع الكيان الصهيوني، مما جعله عرضة للانتقادات الدولية والداخلية.

سردية المعارضة: التحديات والفرص في المنفي

تواجه المعارضة تحديات هائلة داخليا، حيث أصبحت كرتونية في دولة يسيطر عليها الاحتلال العسكري.

تعتبر المعارضة الداخلية مقيدة بقوانين قمعية، والأحزاب غير قادرة على الوصول إلى السلطة. لكن في الخارج، تتحول إلى قوة حقيقية، مستفيدة من الحرية في أوروبا وأمريكا. يستخدم المنفيون اليوتيوب وإكس وتيك توك لنقل رواياتهم، وكشف الكذب الرسمي. حملات مثل "عسكر كاذبون" في 2013 كانت البداية، لكن اليوم تتطور إلى حملات منظمة تركز على الفقر والفساد وبيع مقدرات البلد بالإضافة إلى القمع العسكري الممنهج.

يعد التحدي الأكبر هو توحيد المعارضة المصرية على هدف واحد، فالمعارضة مقسمة بين الإخوان، والليبراليين، واليساريين، والمستقلين، مما يضعف صوتها. لكن الفرص تكمن في بناء تحالفات جديدة، مثل ربط المعارضة الخارجية بالشباب داخل مصر عبر التكنولوجيا.

يمكن للمنفيين إطلاق مواقع بلغات متعددة لنقل الرواية إلى العالم، مما يضغط دوليا. وربط السردية بقضايا عالمية مثل حقوق الإنسان يعزز مصداقيتها؛ فالنظام أصدر استراتيجية لحقوق الإنسان، لكنها شكلية، ويعلم الغرب مدى كذبها.

تكمن جرأة المعارضة في مواجهة الخوف. فتتعدد أشكال المقاومة في الخارج، من تنظيم النشطاء احتجاجات أمام السفارات، وإنتاج أفلام وثائقية عن الاعتقال في مصر، وغيرها من المواضيع، وتحديد جلسات استماع في البرلمانات الأوروبية لملف مصر وبالأخص في البرلمان الأوروبي.

تركز سردية "الجمهورية الثانية" التي يروج لها النظام كاقتصاد رأسمالي وأن عليك الدفع إذا اردت التمتع بخدمة ما، وترفع شعارات الحرية، في حين يعتقل كل من يكتب أو يغرد ببوست على السوشيال الميديا ضد النظام.

تحتاج المعارضة إلى سردية إيجابية: رؤية لمصر ديمقراطية، مستقلة عن التبعية الخارجية. وهنا يبرز حراك حصار السفارات كمثال حي على كيفية تحول السردية إلى فعل.

حراك حصار السفارات: شرارة الغضب الشعبي

انطلق في تموز/ يوليو 2025، حراك "حصار السفارات المصرية" كرد فعل جريء على دور مصر في حصار غزة. بدأ الأمر مع الناشط أنس حبيب، الذي أغلق أبواب السفارة المصرية في لاهاي، قائلا: "مقفولة من عندهم مش من عندنا". انتشر الحراك بسرعة إلى دول مثل بريطانيا، وفرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، وبلجيكا، حيث حاصر المتظاهرون السفارات احتجاجا على إغلاق معبر رفح ومشاركة مصر في التجويع. هذا الحراك ليس عفويا؛ هو استراتيجية مدروسة تحول رموز النظام إلى نقاط ضعف، مستلهما من حملات سابقة مثل "كفاية"، لكنه أكثر جرأة في استخدام الفضاء الدبلوماسي.

شهدت السفارات اعتداءات واعتقالات، كما في لندن حيث تم توقيف شابين مصريين لمحاولتهما التصدي للاحتجاجات. ورد النظام بتحذيرات من "حملات تحريضية" يدبرها الإخوان وهي شماعته الدائمة التي يعلق عليها فشله. لكن الحراك جمع معارضين متنوعين، من الإسلاميين إلى الليبراليين، واليساريين، موحدا الصفوف حول قضية غزة.

في تونس، تحول الاحتجاج إلى مسيرة تطالب بفتح رفح، وفي ليبيا تم إنزال العلم المصري ورفع العلم الفلسطيني على السفارة المصرية.

يكشف هذا الحراك عن توتر داخلي؛ ففي مصر، اعتقلت السلطات مشاركين في مسيرة إلى غزة ووصل عدد المعتقلين حتى كتابة هذه السطور 330 معتقلا، واعتُدي على الوفود المشاركة في قافلة الصمود التي وصلت لمصر، مما يعكس خوف النظام من انتشار الغضب.

تشير تقارير إلى غضب داخلي من الحراك، مع تسريبات عن رعب النظام من تأثيره. الحراك لم يقتصر على الحصار؛ فشمل حملات رقمية تحت هاشتاج "#حصار_السفارات_المصرية"، انتشرت على إكس وفيسبوك، مما أثار نقاشات عالمية.

ففي نيويورك، اعتدى موظفو السفارة على متظاهرين، مما أثار إدانات حقوقية تجاه ما يمارسه النظام من بلطجة في الخارج ضد المعارضين في الخارج.

يكمن التأثير العميق لهذا الحراك في كونه يربط السردية المصرية بالقضية الفلسطينية، مما يعزز صورة المعارضة كمدافعة عن العدالة، كما نجح في إقصاء شبيحة النظام المصري في الخارج.

لقد أعادت غزة توحيد المعارضة المنقسمة منذ 2013، مستفيدة من رمزية غزة. ومع ذلك، تواجه تحديات مثل الاعتقالات والتشويه الإعلامي، لكن الحراك يثبت أن المنفى ليس نهاية، بل بداية لثورة سردية.

وسائل إبداعية لنجاح سردية المقاومة الشعبية

يجب الابتكار بعيدا عن الأفكار التقليدية لجعل سردية المعارضة تتفوق. أولا، الفن كسلاح: الرسوم المتحركة الساخرة، وأغاني الهيب هوب الناقدة، والجرافيتي الرقمي يجذب الشباب. تخيل حملة عالمية حيث يرسم فنانون منفيون لوحات تفضح الفساد، مع مشاركة على تيك توك لتصل إلى ملايين داخل مصر.

ثانيا، الذكاء الاصطناعي: استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء فيديوهات افتراضية تروي قصص معتقلين دون كشف هويات، أو تحليل بيانات لكشف صفقات النظام السرية.

ثالثا، إنشاء شبكات رقمية سرية: تطبيقات مثل سيغنال لتنظيم حملات، أو "كوميكس" ساخرة تسخر من ادعاءات السيسي.

رابعا، تحالفات دولية إبداعية: شراكة مع منظمات حقوقية لتقارير مشتركة، أو مهرجانات فنية تجمع المنفيين مع فنانين عرب.

خامسا، قصص شخصية: روايات أمهات المعتقلين أو عمال الفقر تجعل السردية إنسانية.

سادسا، استغلال الرياضة: حملات في كرة القدم لنشر الرسالة خفية.

سابعا التعليم الرقمي: دورات عن الديمقراطية والتغيير وكيفية إعداد رجالات الدولة.

في سياق حراك الحصار، يمكن توسيع هذه الوسائل: استخدام الواقع المعزز لعرض صور الاعتقالات على جدران السفارات افتراضيا، أو حملات بودكاست تروي قصص النشطاء. هذه التنوع يجعل السردية ديناميكية، غير قابلة للقمع الكامل.

خريطة الطريق

التراكم (6 أشهر): زيادة الوقفات، إصدار تقرير سنوي، وإنشاء متحف رقمي "أنفاق الذاكرة".

التصعيد (6 أشهر): قافلة طبية إلى رفح، ودعوى في لاهاي.

الحسم (12 شهرا): أسبوع عالمي في 50 مدينة، وعريضة للأمم المتحدة.

شراكة النظام في الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين

يواجه نظام العسكر في الصراع الإسرائيلي-فلسطيني، اتهامات بالتواطؤ في الإبادة بغزة. من خلال سيطرته على رفح وتجريفها وتسليم المعبر لاحد رجالاته (العرجاني)، الذي سيطر على المعبر عبر شركته (هلا)، ويساهم في الحصار، مما يمنع المساعدات ويؤدي إلى تجويع.

ورغم تصريحات السيسي عن "حرب تجويع"، إلا أن الإجراءات تكشف شراكة مع إسرائيل مقابل دعم أمريكي، وما صفقة الغاز عنكم ببعيد، فها هي 35 مليار دولار تذهب إلى جيوب الخزانة الصهيونية من قوت هذا الشعب ومن أمواله، وزيادة الصادرات إلى 330 مليون، وتجارة الإسمنت التي يبنى بها المغتصبات على الأراضي المحتلة.

يعكس إغلاق المعبر ومنع الاحتجاجات خوفا من الغضب الشعبي. يعزز هذا التواطؤ سردية المعارضة بأن النظام يخدم مصالح خارجية، خاصة مع حراك الحصار الذي يربط القمع المصري بالإبادة الفلسطينية.

خاتمة: رسم لوحة المستقبل بالكلمات والأفعال

في نهاية هذا الاستكشاف العميق لصراع السرديات في مصر، يتضح أن نجاح سردية المعارضة ليس مجرد أمنية، بل ضرورة تاريخية.

يجب أن يعتمد هذا النجاح على توازن دقيق بين النقد الحاد والحلول الإيجابية، مستفيدين من الإبداع الرقمي والفني، وحراكات جريئة مثل حصار السفارات التي تحولت من شرارة غضب إلى حريق يلتهم وهم الاستقرار.

تخيل مصر كلوحة فنية كبيرة: النظام يرسمها بألوان رمادية قاتمة، مليئة بظلال القمع والخوف، بينما المعارضة، خاصة في المنفي، تمسك بفرشاة ملونة، تضيف لمسات من الأمل والحرية، محولة اللوحة إلى تحفة تعبر عن روح الشعب الحقيقية.

الثورة الحقيقية تبدأ في العقول، وتنتهي في الشوارع، محولة الخوف إلى أمل، والقمع إلى حرية. هكذا، ستنتصر سردية الشعب على سردية الطغيان

هذا التغيير لا يبدأ بالسلاح أو الثورات الدموية، بل بالكلمة، تلك الكلمة التي تنبت في عقول الشباب وجيل قد لا يكون حضر الثورة لكن ترسخ في وجدانه معنى كلمة حرية، تنتشر هذه الكلمة عبر الشبكات الرقمية كفيروس إيجابي، وتنتهي بالفعل الجماعي الذي يهز العروش. في عالم اليوم، حيث يمكن لتغريدة واحدة أن تشعل ثورة. يجب على المعارضة أن تبتكر سرديات تتجاوز الحدود الجغرافية، مستلهمة من تاريخ مصر العريق كمهد للحضارات. تخيل حملات فنية عابرة للقارات، حيث يجتمع فنانون منفيون مع شعراء فلسطينيين لإنتاج أعمال تروي قصة التواطؤ في غزة، أو منصات افتراضية تحول السفارات إلى معارض رقمية تفضح الفساد.

الإبداع وحده لا يكفي؛ يجب أن يرتبط باستراتيجية طويلة الأمد. دعونا نفكر في مصر المستقبلية: دولة ديمقراطية حيث يشارك الجميع في صنع القرار، واقتصاد مزدهر يعتمد على الابتكار لا على الدعم الخارجي، ودور إقليمي يدافع عن العدالة في فلسطين وغيرها.

هذه الرؤية ليست خيالا؛ إنها ممكنة إذا استمر الحراك في بناء جسور بين الداخل والخارج، مستفيدا من تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي لخلق محتوى يتجاوز الرقابة، أو حملات تعليمية رقمية تزرع بذور الوعي في أجيال جديدة.

في النهاية، مصر تستحق سردية جديدة، حرة ومزدهرة، تتجاوز ظلام القمع إلى نور الديمقراطية. هذه السردية ليست ملكا للمعارضة وحدها، بل لكل مصري يحلم بغد أفضل. دعونا نكتبها معا، كلمة بكلمة، فعلا بفعل، حتى يصبح الحلم واقعا.

فالثورة الحقيقية تبدأ في العقول، وتنتهي في الشوارع، محولة الخوف إلى أمل، والقمع إلى حرية. هكذا، ستنتصر سردية الشعب على سردية الطغيان، وستعود مصر إلى مكانتها كنجمة تضيء الشرق الأوسط بأكمله.
التعليقات (0)