كتاب عربي 21

الوعي السياسي المعطوب للنخب العربية

نور الدين العلوي
"أين يمكن العثور على نموذج حكم خارج الهيغلية، خاصة أن التاريخ الإسلامي لم يكن فردوسا ديمقراطيا، فقد تسللت إليه مبكرا بنية الملك العضوض، وتمددت قرونا؟"- جيتي
"أين يمكن العثور على نموذج حكم خارج الهيغلية، خاصة أن التاريخ الإسلامي لم يكن فردوسا ديمقراطيا، فقد تسللت إليه مبكرا بنية الملك العضوض، وتمددت قرونا؟"- جيتي
شارك الخبر
يؤلمنا مصير الربيع العربي ونتهرب من الإقرار بفشله، ونتعزى فنقول انكسرت الموجة الأولى من الربيع ونربي الأمل في موجة ثانية. في الأثناء نطرح الأسئلة المشروعة عن أسباب العطالة الديمقراطية في بلاد العرب؛ هذه العطالة حقيقة ماثلة، لقد قام الناس العوام (الجماهير) بما عليهم القيام به، لقد أسقطوا الأنظمة ولكن النخب التي تلقفت ثورتهم لم تحافظ عليها، وهنا نجد سبب العطالة. هذه الورقة تحاول فهم عقل النخب ونظن المفتاح في الكراسات النخبوية.

استيراد هيغل معلَّبا

ظهرت النخب العربية الحديثة كنتاج موجة تحديث قُطعت عن عمقها الثقافي ولم تتشكّل من داخل الميراث السياسي العربي الممتد في التاريخ، لقد زجت بنفسها أو زُجّ بها في مختبر الدولة الحديثة دون أدوات معرفية تمكّنها من فهم هذا الكائن الجديد أو ترويضه. فوجدت نفسها، منذ لحظة ما بعد الاستقلال، تمارس السياسة داخل النموذج الهيغلي للدولة؛ أي الدولة بوصفها العقل المطلق، ومركز السيادة، ومصدر الشرعية، وذروة التاريخ. لم يكن هذا التبنّي نتيجة قراءة فلسفية، بل كان انبهارا بالمركزية الأوروبية التي تبدو آنذاك بوابة وحيدة للحداثة. هذا الانحياز الهيغلي، تبنّته الأنظمة الحاكمة بوصفه شرعية سياسية، وتبنّته النخب المعارضة بوصفه أفقا نظريا هنا بدأ الوعي المعطوب يتكون.

زعمت النخب مقاومة الأنظمة لكنها تبنت نفس صورتها عن الدولة، تطالب بالحرية لكنها تفكر داخل بنية السلطة نفسها، تريد التغيير دون أن تغيّر مخزونها المفاهيمي، وكأنّ المسألة لم تكن صراعا بين نظام ومعارضة بل صراع مرايا؛ الكيانان يشتبكان في سطح السياسة بينما يشتركان في العمق النظري ذاته.

الدولة الهيغلية مُسلَّمة لا تُساءل
العطب في النخب العربية كما نقرأه بعد خيبة الربيع العربي ليس بسبب نقص في القراءة، بل لنقص في مساءلة النموذج

حين عارضت النخب السلطة، فإنها لم تناقش نموذج الدولة المستوردة، بل سلمت به فبقي النموذج خارج النقاش. هذا الأثر الهيغلي الذي يرى الدولة كتجلّ للروح المطلق جعل النخب تفكر في الإصلاح من أعلى، لا من المجتمع. فهي ترى الخلل في الحكام لا في بنية الحكم، في الأشخاص لا في النظام المعرفي. ولذلك ظل الخطاب السياسي المعارض يتمحور حول استبدال الوجوه لا إعادة بناء العقد الاجتماعي، فحصرت العيوب في الرئيس وفي حكومته أحيانا، ولم يبلغ خيال النخب السياسي تخيل نموذج سلطة جديد. هنا رأينا الجميع في الربيع يلبسون العباءة نفسها، دولة مركزية هرمية، توزع الحقوق من موقع العلو، وتطلب الولاء قبل المشاركة. أي أن النخب (من كل التيارات) وقد سنحت لها الفرصة طلبت مقاعد داخل الهيكل بدل أن تسائل معنى الهيكل. هنا يتجلى العطب الديمقراطي.،لقد أعادت النخب (المعارضة سابقا) إلى السلطة النموذج السياسي الذي ثار عليه الناس وإن لم يعوا هيغليته.

انقطاع النخب عن التراث السياسي

أين يمكن العثور على نموذج حكم خارج الهيغلية، خاصة أن التاريخ الإسلامي لم يكن فردوسا ديمقراطيا، فقد تسللت إليه مبكرا بنية الملك العضوض، وتمددت قرونا؟ لكن هذا الانحطاط لا يلغي وجود نموذج تأسيسي مختلف عن الدولة الهيغلية، فالدولة العربية- الإسلامية الأولى لم تُقم على فكرة السيادة المطلقة للدولة، بل على فكرة المجتمع المنتج للشرعية. كانت السلطة نظريا على الأقل مشروطة، محدودة بالمحكومية، قابلة للخلع، خاضعة للمحاسبة الأخلاقية والدينية. أما الدولة الحديثة، كما وصلت إلى العرب عبر المركزية الأوروبية، فقد جاءت معكوسة تماما سلطة تلد المجتمع، لا مجتمع يلد السلطة.

لم تبحث النخب العربية، في لحظة التحديث، عن جسر يصل بين النموذجين (رغم زعم الإسلاميين القيام بذلك)، بل هجرت التراث كليا ورحلت إلى الدولة الهيغلية بلا خرائط، ففقدت القدرة على التفكير فصار التراث السياسي الإسلامي مجرد مادة فكرية للمذهبيات أو للرومانسية الثقافية أو للحنين المرضي، لا إطارا معرفيا لإعادة بناء تصور جديد للسلطة. انقطع الخيط، فأصبحت الدولة جسدا منفصلا عن روحه الأولى، وسكنت النخب هناك وغلَّقت الأبواب.

لا فرق بين الأنظمة ونخبها التحديثية

تأملاتنا تقودنا إلى أن العطب في النخب العربية كما نقرأه بعد خيبة الربيع العربي ليس بسبب نقص في القراءة، بل لنقص في مساءلة النموذج. تقرأ النخب هيغل وماركس وروسو وتدرّسهم، لكنها لا تسائل ملاءمتهم لسياقها؛ تتبنى نظريات السلطة التعاقدية دون أن تسأل مَن يتعاقد مع مَن؟ هل المجتمع السياسي موجود أصلا؟ هل الفرد في البنية العربية الحديثة وُلد مواطنا أم رعية؟ هل الدولة منتج تفاوض اجتماعي أم منتج استعمار خارجي جرى توريثه للنخب الحاكمة؟ الربيع أثبت الإجابة الثانية، الدولة عند النخب العربية قدر نهائي.

إذا كانت النخب الحاكمة قد ورثت الدول الاستعمارية ووسّعت حدودها بقوة الأجهزة، فإن النخب المعارضة ورثت النموذج ذاته وأرادت الحكم باسمه. كلاهما يؤمن بالدولة أكثر من المجتمع، وكلاهما يمارس السياسة داخل مساحة مغلقة سلفا. فالسلطة، في المخيال العربي الحديث، هي مركز الكون، والمعارضة ليست سوى رحلة إلى المركز. هكذا تصبح السياسة حركة دائرية تعيد إنتاج نفسها، لا حركة لولبية تغير منطقها الداخلي.

الربيع العربي داخل القفص الهيغلي
لم يكن فشل الربيع العربي فشلا سياسيا فقط، بل كان فشلا فلسفيا قبل كل شيء، فشلا في إدراك اللحظة بوصفها إمكانية لتأسيس نموذج سياسي عربي جديد، لا مجرد محاولة لإثبات صلاحية النموذج الأوروبي في بيئة مختلفة تماما

يمكن القول اليوم أنّ الوعي السياسي المعطوب للنخب العربية لم يكن مجرد خلل ثقافي، بل كان أحد الأسباب البنيوية لفشل الربيع العربي. لقد كانت اللحظة الثورية حدثا شعبيا غزيرا، نهض من عمق الشارع لا من مكاتب الدولة، من جسد المجتمع لا من هندسة السلطة. ولكن بدل أن تُستثمر هذه الطاقة لتأسيس مفهوم جديد للشرعية السياسية قائم على المشاركة والعقد الاجتماعي، جرى دفع الثورة (من الأنظمة والمعارضة على السواء) إلى الانحباس داخل الإطار الهيغلي نفسه أي الدولة أوّلا، السلطة أوّلا، المركز أوّلا. تحول السؤال من كيف نؤسس مجتمعا سياسيا؟ إلى من يحكم الدولة؟ هنا سقطت الثورات في مصيدة النظرية التي هاجرت إليها النخب منذ الاستقلال.

فالربيع العربي كان فرصة تاريخية لإعادة وصل السياسة بجذرها الاجتماعي (كما كانت الشورى الأولى في الإسلام) لكنه أُعيد توجيهه نحو بناء دولة حديثة بمعنى هيغلي صارم (دولة مركزية، موحّدة، تملك تعريف المواطن قبل أن يولد، وتملك الشرعية قبل أن تُفوض). وهكذا ماتت الثورة في اللحظة التي قَبِل فيها الجميع، دون وعي، أن يكون التحرر السياسي مجرد تغيير نخبة داخل الهيكل نفسه، لا تغييرا في طبيعة الهيكل.

من هنا نفهم لماذا انتهت التجربة إمّا بانقلابات مضادة (مصر)، أو بحروب أهلية (اليمن وليبيا) بانكفاء سياسي (تونس والمغرب). لقد أعيد تشكيل المشهد القديم بأسماء جديدة؛ لأنّ البنية النظرية التي حكمت الوعي السياسي لم تتغير لقد ظلّت الدولة هي العقل المطلق، وظل المجتمع هامشا، وظل الفرد تابعا. لم يكن فشل الربيع العربي فشلا سياسيا فقط، بل كان فشلا فلسفيا قبل كل شيء، فشلا في إدراك اللحظة بوصفها إمكانية لتأسيس نموذج سياسي عربي جديد، لا مجرد محاولة لإثبات صلاحية النموذج الأوروبي في بيئة مختلفة تماما.

سيكون على نخب قادمة أن تتحرر من هيغل قبل أن تتحرر من الحاكم العربي. وهذه طريق طويلة تبدأ بجملة بسيطة: توجد طريق للسياسة لا تمر بالحكم المركزي فكل مركز ملك عضوض.
التعليقات (0)