الكلمات حين
تُستبدل لا تغيّر العناوين فقط، بل تُعيد صياغة المفاهيم والاتجاهات، فإذا رُفع شعار
الحرب بدل الدفاع، فإننا أمام تحوّل في جوهر الاستراتيجية، من حماية التنمية إلى استنزافها،
ومن عقد اجتماعي يحمي المواطن إلى عقد آخر يُسخّر المواطن لخدمة آلة الحرب، فيتحوّل
الأمن من وسيلة للحياة إلى غاية تلتهمها.
منذ عام 2020
وحتى 2027 تشكّل خط زمني أمريكي متدرج الحلقات..
• بدأ بموجة تكنو-بيولوجية مع جائحة كورونا، حيث تحوّلت اللقاحات والبيانات
الصحية إلى أدوات نفوذ سياسي واقتصادي.
• ثم تصاعد إلى تكنو-عسكرية مع حرب أوكرانيا وتصاعد التوترات في غزة وتايوان،
حيث قفز الإنفاق العسكري العالمي إلى 2443 مليار دولار في 2023، بزيادة 6.8 في
المئة، واحتفظت الولايات المتحدة وحدها بنسبة 37 في المئة من هذا الإجمالي (916 مليار
دولار).
المواطن الذي يُنتظر منه أن يدفع الضرائب ويربط مصيره بدولته، يجد نفسه يموّل سياسات استثنائية، بينما تتراجع حصته من التعليم والصحة والخدمات. هكذا تتسرّب الحرب البعيدة إلى بيوت الناس، فيخبزها المواطن بعرقه قبل أن تُطلق رصاصة واحدة في شوارعه
• لينتهي إلى تكنو-
اقتصاد مع حروب العملات والرقائق والطاقة الخضراء، حيث
أُعيد تعريف سلاسل الإمداد العالمية وفق معايير القوة لا السوق.
انعكس ذلك
على
مصر بصورة مباشرة..
• تضاعفت فاتورة دعم الخبز إلى 127.7 مليار جنيه في 2023-2024 بزيادة 41.9
في المئة بسبب قفزات أسعار القمح.
• سجل التضخم الحضري ذروة تاريخية عند 38 في المئة في أيلول/ سبتمبر 2023.
• ارتفع الدين الخارجي إلى نحو 156.7 مليار دولار في الربع الأول 2025، ما
ضيّق الحيز المالي وأثقل كاهل الاقتصاد المدني.
استدراك
غير أن الأرقام
ليست سوى سطح الصورة، العمق يكمن في العقد الاجتماعي الذي يتعرض للاهتزاز مع كل صدمة
أسعار أو خدمة دين أو قرار دولي يُدار عن بُعد. المواطن الذي يُنتظر منه أن يدفع الضرائب
ويربط مصيره بدولته، يجد نفسه يموّل سياسات استثنائية، بينما تتراجع حصته من التعليم
والصحة والخدمات. هكذا تتسرّب الحرب البعيدة إلى بيوت الناس، فيخبزها المواطن بعرقه
قبل أن تُطلق رصاصة واحدة في شوارعه.
استنتاج
الخط الزمني
الأمريكي لم يكن مسارا خارجيا محضا، بل سلسلة ارتدادات أصابت الاقتصاد المدني المصري
عبر سباعية الأثر:
1- مزاحمة
الموارد: تآكل نصيب الإنفاق الاجتماعي مقابل تصاعد كلفة الدعم والدين.
2- أسر سلاسل
الإمداد: اعتماد على مصادر غذاء وطاقة معرضة للتسييس والتقلبات.
3- ازدواجية
الاستخدام التكنولوجي: أولوية للتطبيقات الأمنية على حساب الابتكار المدني.
4- تشوّه الحوكمة:
غلبة التعاقدات الاستثنائية على قواعد الشفافية والكفاءة.
5- عسكرة البيانات
والفضاء السيبراني: تحميل الشركات والمجتمع كلفا أمنية متزايدة.
6- تحول سوق
العمل: نزيف الكفاءات إلى قطاعات دفاعية وتقنية على حساب القطاعات الإنتاجية.
7- إعادة توزيع
المخاطر: تحميل المواطن العبء الأكبر عبر التضخم وضرائب الاستهلاك وتراجع الحماية.
استشراف
كلٌّ في ميدان تخصصه، ليُبنى الوطن بعقول حرة قبل أن يُبنى بسواعد مرهقة. فبلادٌ تُحرّر عقولها هي بلادٌ قادرة على أن تحرّر مستقبلها
حتى 2027 لا
يملك الاقتصاد المدني المصري رفاهية الانتظار. المسارات الثلاثة الواجب تبنيها هي:
- تحوّط مالي:
إدارة دين رشيدة وتنويع مصادر التمويل مع ضبط التضخم وتحسين التنسيق بين السياسات النقدية
والمالية.
- أمن الإمداد:
عقود طويلة الأجل للغذاء والطاقة وتنويع الشركاء وبناء مخزونات استراتيجية.
- تمكين تكنولوجي
مدني: رفع المحتوى المحلي في الصناعة الرقمية، وتحويل التقنيات العسكرية إلى تطبيقات
مدنية منتجة.
في سطور..
الحرب حين
تستبدل الدفاع تعيد تشكيل العالم كله عن بُعد، فتصل آثارها إلى رغيف الخبز في القاهرة،
وسعر الوقود في الإسكندرية، وفرص العمل في بورسعيد. حماية الاقتصاد المدني لم تعد ترفا
بل هي عنوان الأمن القومي الحقيقي.
في كلمات..
- تحرير العقول
قبل تحرير السياسات.
- عودة الخبراء
والمفكرين والمستشارين والبرلمانيين ورجال الدولة من المعتقلات إلى مواقعهم.
- كلٌّ في
ميدان تخصصه، ليُبنى الوطن بعقول حرة قبل أن يُبنى بسواعد مرهقة. فبلادٌ تُحرّر
عقولها هي بلادٌ قادرة على أن تحرّر مستقبلها.. والأيام دول.. والقرار للشعوب.