يحلو للبعض أن يمارس نوعا من المعارضة الآمنة، يصب جام غضبه على رئيس الحكومة والوزراء متجنبا الإشارة إلى رأس النظام كلما وقعت طامة كبرى بمصر. أحدث موجات الغضب بعد زيادة جديدة ومؤلمة لأسعار الوقود (البنزين والغاز بشكل خاص)، ولم يجد الغاضبون هدفا لصب اللعنات سوى رئيس الحكومة مصطفى مدبولي بتحميله مسئولية هذه الزيادة التي سيمتد تأثيرها إلى زيادات واسعة لأسعار معظم السلع والخدمات، حتى مستوى بائعة الجرجير!!
موجة الغلاء الجديدة الناتجة عن رفع أسعار الطاقة ليست طبيعية، فقد تمت في الوقت الذي انخفضت فيه أسعار البترول عالميا إلى مستوى 60 دولارا للبرميل، ما كان يستوجب خفض الأسعار محليا حسب وعود سابقة للحكومة بتحريك الأسعار نزولا وصعودا وفقا لتحركات السوق العالمي. الحقيقة أن هذه الزيادة هي استجابة لصندوق النقد الدولي حتى تتمكن الحكومة
المصرية من صرف دفعة جديدة من قرض الصندوق، وحتى تحافظ على علاقة إيجابية معه تسمح لها بطلب المزيد من
القروض.
ليست الحكومة المسئولة الأصلية عن هذه القرارات الخطيرة التي تمس عموم المواطنين، والتي ترفع منسوب الغضب لديهم بما يشكل خطرا على النظام ككل، الحقيقة التي تتهرب منها المعارضة الآمنة هي أن
السيسي هو المسئول، هو صاحب القرارات الكبرى، لا تستطيع الحكومة أو أي من وزرائها اتخاذ قرار كهذا من تلقاء نفسه، بل إنها تنفذ فقط إرادة عليا تملى عليه، وما عليه سوى السمع والطاعة، وإخراج هذه الإرادة في شكل قرار وزاري.
ليست الحكومة المسئولة الأصلية عن هذه القرارات الخطيرة التي تمس عموم المواطنين، والتي ترفع منسوب الغضب لديهم بما يشكل خطرا على النظام ككل، الحقيقة التي تتهرب منها المعارضة الآمنة هي أن السيسي هو المسئول، هو صاحب القرارات الكبرى
لماذا إذن لجأت مصر إلى
صندوق النقد، وطلبت مساعدته وقروضه؟ ومن هو صاحب القرار في اللجوء إليه؟ الحقيقة التي لا تقبل جدالا هي أن لجوء مصر إلى الصندوق بسبب الخلل في موازناتها، وهذا العجز الكبير بين الإيرادات والمصروفات هو نتيجة لسياسات اقتصادية فاشلة فرضها السيسي بنفسه، دون دراسات جدوى، فهو لا يؤمن بمثل هذه الدراسات ويعتبرها معطلة للمشروعات، وهذه المشروعات التي لم تكن تمثل أولوية تنموية عاجلة تطلبت مبالغ مليارية ضخمة، لم تف بها الإيرادات المحلية، فاحتاجت إلى اقتراض خارجي ضخم، رفع حجم الديون الخارجية من 40 مليار دولار لحظة الانقلاب على الرئيس الراحل محمد مرسي إلى 165 مليار دولار (انخفضت قليلا مع دفع بعض الأقساط)، مع العلم أن مصر مطالبة بسداد التزامات خارجية خلال العام الجاري بقيمة 43 مليار دولار (وفي تقديرات أخرى 55 مليار دولار)، بخلاف الدين المحلي الذي قفز أيضا من 1.5 تريلون جنيه إلى حوالي 9 تريليونات جنيه. وهذه المديونية بشقيها الخارجي والمحلي توازي 90 في المئة من الناتج المحلي المصري.
حجم الاقتراض الضخم، والمشروعات العملاقة التي تمت دون دراسات جدوى، والبذخ الحكومي، والالتزام بسياسات صندوق النقد تسببت أيضا في انهيار قيمة الجنية المصري من 6.5 جنيه مقابل الدولار عند الانقلاب على الدكتور مرسي إلى 51 جنيه للدولار حاليا، مع احتمالات انهيارات جديدة، ما يعني المزيد من تآكل مدخرات المصريين، وتراجع قدراتهم الشرائية في الوقت الذي لم ترتفع فيه الرواتب والدخول بنسب مكافئة للتضخم، وهو ما ضاعف معاناة المواطنين وخاصة الطبقات الشعبية التي لم تعد قادرة على توفير حد الكفاف، والتي لم يجد الكثير من أبنائها بدا من الهجرة غير الشرعية عبر قوارب الموت بحثا عن الحد الأدنى للحياة.
يدعي البعض أن إنجازات كبرى تحققت مقابل هذه التضحيات، ومن ذلك بناء عاصمة جديدة، وشبكة طرق ومواصلات حديثة، والحفاظ على الأمن والاستقرار في وسط إقليم مضطرب. وهو حق يراد به باطل، فشبكات الطرق هي عمل روتيني للحكومات، لم تتأخر عن القيام بها كل الحكومات السابقة وفقا للاحتياجات والإمكانيات المتاحة، والعاصمة الإدارية لم تكن ضمن أولويات المرحلة مع عدم توافر السيولة النقدية اللازمة لمشروعاتها. أما الحفاظ على الأمن والاستقرار فهو مسئولية أي حكومة، وقد حققه مبارك على مدى ثلاثين عاما، لكن خطاياه الأخرى السياسية والاقتصادية دفعت المصريين للثورة عليه في 25 يناير 2011.
بما أن السيسي هو المسئول الحقيقي عن كل هذه الكوارث التي حلت وتحل بالمصريين، وبما أن من كان سببا في المشكلة لا يستطيع الحل، فمن الطبيعي أن نستحضر هنا مقولة المذيعة لميس الحديدي التي وجهتها في 2013 للرئيس مرسي: "موش قد الشيلة متشيلش"
لنعد إذن إلى ما سبق تلك الثورة من أوضاع دفعت البعض للتمرد على الحكم الديمقراطي الوليد، وكان من أسباب التمرد الظاهرة أن الدولار ارتفع إلى 7 جنيهات، وأن الديون الخارجية بلغت 40 مليار دولار، كما تضمنت عريضة حركة تمرد التي جمعت عليها توقيعات كثيرة العديد من المظاهر التي رأتها أسبابا كافية للتمرد على حكم الرئيس مرسي، ومنها وفقا للنص الرسمي وبصياغته العامية "علشان الأمن لسه مرجعش للشارع- علشان لسه الفقير ملوش مكان- علشان لسه بنشحت من بره- علشان حق الشهداء مجاش- علشان مفيش كرامة ليا ولولدي- علشان الاقتصاد انهار وبقى قايم على الشحاتة- علشان تابع للأمريكان".
دقق عزيزي القارئ مجددا في هذه الحيثيات للتمرد على أول حكم مدني ديمقراطي في مصر (رغم أن معظمها أكاذيب)، وقارنها بالوضع الحالي في مصر، وهو ما يعادل في كارثيته أضعاف أضعاف فترة 2013، أضف إلى ذلك التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، والتنازل عن حقوق مصر المائية بعد بناء إثيوبيا لسد النهضة.
مع اضطرار النظام للرضوخ للمزيد من سياسات صندوق النقد، ومع احتمالات التعثر في سداد استحقاقات العام الجاري (43 مليار دولار)، فإن المتوقع اللجوء إلى مزيد من القروض الخارجية، والمزيد من انهيار قيمة الجنيه، وعودة تكدس البضائع المستوردة في الموانئ لعدم القدرة على توفير السيولة الدولارية، ورفض المصدرين الأجانب فتح خطوط ائتمانية لهم، ولا شك أن السيسي بحكم السلطات المطلقة التي يمتلكها هو المسئول عن كل ذلك وليس أحدا غيره، اللهم إلا لقبول هؤلاء الوزراء والمسئولين أن يكونوا أدوات للتنفيذ والتبرير!!
وبما أن السيسي هو المسئول الحقيقي عن كل هذه الكوارث التي حلت وتحل بالمصريين، وبما أن من كان سببا في المشكلة لا يستطيع الحل، فمن الطبيعي أن نستحضر هنا مقولة المذيعة لميس الحديدي التي وجهتها في 2013 للرئيس مرسي: "موش قد الشيلة متشيلش"، هذا يعني أن التغيير يزداد إلحاحا، وقفا للنزيف، وإنقاذا للوطن، وخروجا من هذه
الأزمات، ونقلا للوطن وللمواطنين إلى حياة أفضل يستحقونها، وصبروا وتحملوا كثيرا حتى ينالونها.
x.com/kotbelaraby