صحافة دولية

كيف أدى تخبط الديمقراطيين في حرب غزة إلى منح نتنياهو غطاء عسكريا؟

77 بالمئة من الديمقراطيين يرون أن ما حدث في غزة إبادة جماعية- جيتي
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالاً للمعلّق والكاتب والمسؤول السابق في إدارة باراك أوباما، بن رودس، تناول فيه بالتفصيل ما اعتبره "كارثة سياسية وأخلاقية" ارتكبها الحزب الديمقراطي بقيادة الرئيس جو بايدن في التعامل مع حرب غزة.

وبيّن رودس أن بايدن، وبعد أقل من أسبوعين على هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، سافر إلى إسرائيل في زيارة التُقطت خلالها صورة له وهو يعانق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، في مشهد بات يُعرف بسياسة "عناق الدب".

ويشرح الكاتب أن هذه السياسة اعتمدت على تدليل نتنياهو ومنحه ما يريد من أجل منح الولايات المتحدة نفوذا على أفعاله.   

وبموجب هذا النهج، وفّرت إدارة بايدن خلال خمسة عشر شهرا تدفقا هائلاً من الأسلحة الأمريكية التي استُخدمت في قتل الفلسطينيين، كما دافعت عن إسرائيل في مجلس الأمن مستخدمة الفيتو مرارا ضد مشاريع وقف إطلاق النار في غزة، وهاجمت المحكمة الجنائية الدولية لملاحقتها نتنياهو، وتجاهلت سياساتها الخاصة المتعلقة بالوحدات العسكرية المتهمة بارتكاب جرائم حرب، وألقت باللوم على حماس لرفضها شروط وقف إطلاق النار التي رفضتها الحكومة الإسرائيلية نفسها.

ويقول رودس إن هذا النهج جعل الديمقراطيين يبدون بمظهر المنافقين وهم يتحدثون عن "النظام الدولي القائم على القواعد"، فيما نفر هذا الخطاب القواعد الشبابية داخل الحزب، وبحسبه، ظهر الديمقراطيون ضعفاء في عصر تصاعد الاستبداد، إذ أظهروا ولاء لنتنياهو الذي لم يتردد في إذلالهم، بينما استقبله دونالد ترامب بالأحضان.

ويرى الكاتب أن التوصل إلى وقف إطلاق نار هش في غزة، إلى جانب المكاسب السياسية التي حققها الديمقراطيون أمام الجمهوريين، قد يغري البعض بتجاوز ما حدث، إلا أن ذلك "سيضاعف خطأ تجاهل واقع لا يُطاق".


ففي غزة يعيش الفلسطينيون بين جبال من الركام، ولا تزال حماس متحصنة، بينما يُمنع الصحافيون الدوليون من الدخول لتوثيق الدمار، فيما صوّت الكنيست مجددا لصالح ضم الضفة الغربية، بالتزامن مع تصاعد هجمات المستوطنين، ويؤكد أن المشهد السياسي في إسرائيل انحرف إلى أقصى اليمين بحيث إن إسقاط نتنياهو لن يؤدي بالضرورة إلى حكومة معتدلة.

ويقدم رودس قراءة تاريخية لدعم الديمقراطيين لإسرائيل، قائلا إن هذا الدعم كان يستند إلى مواقف مثالية: لويس برانديز رأى في الكيبوتسات ملاذا لليهود وتطبيقا للتقدمية، واعتراف هاري ترومان بإسرائيل كان التزاما بأمن اليهود بعد الهولوكوست، وخلال الحرب الباردة حافظت إسرائيل على صورتها كدولة معرضة للخطر وحليف ديمقراطي.

لكن هذه الرواية تجاهلت على الدوام تهجير الفلسطينيين، ومع تطرف الحكومات الإسرائيلية أصبح التوفيق بين الرواية التي يروونها عن إسرائيل وواقع حكومة يمينية عازمة على منع قيام دولة فلسطينية وضم الضفة الغربية. 

ويضيف أنه خلال عمله في إدارة أوباما كانت إسرائيل قوة عسكرية إقليمية كبرى، واستمرت المستوطنات في التوسع، وتزايدت القيود على الفلسطينيين، فيما دفعت "إيباك" ومنظمات متحالفة البيت الأبيض إلى تجنب أي خلاف علني مع نتنياهو.

وقد أنفقت لجان العمل السياسي المرتبطة بإيباك عشرات الملايين لمهاجمة سياسات أوباما، وهو ما قوّض أي محاولة لتحقيق حل الدولتين.

ويشير إلى أن نتنياهو تظاهر بالكلام في 2009 بإمكانية إقامة دولة فلسطينية، ثم تعهد في 2015 بأنه "لن تكون هناك دولة فلسطينية" في عهده، ما كشف عبثية العملية السياسية.

ويقول رودس إن نقاط الحديث الديمقراطية مثل وصف إسرائيل بأنها "الديمقراطية الوحيدة" وأن لها "حق الدفاع عن النفس" أو المطالبة بإصلاح السلطة الفلسطينية أصبحت لغة جامدة لا علاقة لها بواقع الشرق الأوسط.

ويضيف أن إدارة ترامب بددت أوهام الديمقراطيين، فترامب نقل السفارة إلى القدس ونال مديح نتنياهو وإيباك، ثم روج لاتفاقيات إبراهيم التي همشت الفلسطينيين، ورغم ذلك رحب بها الديمقراطيون.

ويوضح أنه حاول عام 2020 إدراج عبارة تشير إلى "الاحتلال" الإسرائيلي والتعهد بتقييد المساعدات إذا ضمت إسرائيل أراضي فلسطينية، لكن الحزب رفض، ما عزز الاعتقاد بأن الديمقراطيين غير مستعدين لمعارضة السياسات الإسرائيلية حتى حين تتعارض مع مبادئهم.


ويتابع أن إدارة بايدن كانت تعرف نزعة نتنياهو الاستبدادية ضد القضاء والإعلام والمجتمع المدني، لكنها ركزت على توسيع اتفاقيات إبراهيم، خصوصا عبر مسعى ضم السعودية دون ضمان إقامة دولة فلسطينية.

ثم جاءت صدمة 7 تشرين الأول/أكتوبر، ويقول الكاتب إن على واشنطن ألا تدعم "حملة انتقامية"، ويشير إلى تصريحات إسرائيلية وصفت فيها غزة بأنها "مدينة شريرة"، مع تنفيذ حصار شامل على الغذاء والماء.

ويرى رودس أن الديمقراطيين لم يعرفوا كيف يواجهون الوضع، فحين دعوا إلى ضبط النفس وصفوا بأنهم "غير داعمين لإسرائيل"، بينما ظل تدفق الأسلحة قائماً.

وحين اقتربت واشنطن من دعم وقف إطلاق النار، أبقى نتنياهو الحرب حماية لائتلافه المتطرف، رغم أن استطلاعات داخل إسرائيل أظهرت دعما واسعاً لإنهاء الحرب مقابل استعادة الأسرى، وعندما احتج مشرعون ديمقراطيون، ضخّت إيباك ملايين الدولارات لدعم منافسيهم من الجمهوريين.

ويشير الكاتب إلى أن رواية "إرهاب الفلسطينيين" تُستخدم لتبرير كل شيء، لكنه يسأل: هل تبرر مواقف ياسر عرفات في كامب ديفيد 2000 التهجير المتواصل في الضفة؟ وهل تبرر هجمات حماس "إلقاء قنابل أمريكية الصنع وزنها 900 رطل على مخيمات مكتظة بالأطفال"؟ ويقول إن الأدلة باتت واسعة على أن الحكومة الإسرائيلية منعت وصول المساعدات الإنسانية واستخدمت قوة مفرطة ودمّرت معظم قطاع غزة، ما دفع باحثين ومنظمات حقوقية وهيئات أممية إلى القول إن إسرائيل ارتكبت "إبادة جماعية" باستخدام أسلحة زودتها بها الولايات المتحدة.

ويشير رودس إلى التحول في الرأي العام، حيث تُظهر الاستطلاعات أن ثلث الديمقراطيين فقط لديهم نظرة إيجابية لإسرائيل، وأن أغلبية الأمريكيين يعارضون تسليحها، فيما يرى 77% من الديمقراطيين أن ما حدث في غزة "إبادة جماعية"، ويعتقد أكثر من 60% من اليهود الأمريكيين أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب.

وبحسب المقال، بدأ السياسيون الديمقراطيون في التحرك؛ فقد صوتت أغلبية أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين على منع نقل السلاح إلى إسرائيل، ودعا عشرات نواب الحزب إلى اعتراف أمريكي بدولة فلسطينية، ويرفض عدد متزايد من الديمقراطيين أموال إيباك.

ومع ذلك، يستمر الجدل داخل الحزب، ويتجلى في إحجام بعض القادة عن معارضة المرشحين المدعومين من إيباك أو وقف التسليح أو دعم المحكمة الجنائية الدولية. ويؤكد الكاتب أن من غير المجدي أن يتناقض الحزب مع قاعدته الشعبية ومع قيمه المعلنة.

ويقترح رودس سلسلة من الخطوات "البديهية": وقف المساعدة العسكرية لحكومة ارتكبت جرائم حرب، دعم المحكمة الجنائية الدولية، معارضة أي ضم للضفة أو تطهير عرقي لغزة، الاستثمار في قيادة فلسطينية بديلة من حماس يمكن أن تدير دولة مستقبلية، والدفاع عن الديمقراطية في إسرائيل كما في الولايات المتحدة.


وهو يرى أن النجاح يتطلب حركة أمريكية قوية لاستعادة الديمقراطية، لكن هذه الحركة لا يمكن أن تعمل تحت نفوذ جماعات مثل إيباك التي تمول سياسات اليمين المتطرف.

ويختم الكاتب بسؤال: هل تُنهي هذه المواقف الصراع سريعا؟ ويجيب: لا، لكنها توفر أساسا لمستقبل مختلف للشرق الأوسط، وتجعل سياسة الحزب الديمقراطي منسجمة مع قيمه.

كما يرى أن أي نهج سلمي لن يضر يهود الشتات أو إسرائيل، لأنها باتت تعاني عزلة متزايدة، وستزداد هذه العزلة إذا استمر الوضع الراهن، وبدلاً من تمكين اليمين الإسرائيلي، يجب على الديمقراطيين إظهار التضامن مع الإسرائيليين الباحثين عن بديل حقيقي لنتنياهو وائتلافه، واستخدام النفوذ بدل التنازل عنه.